حنین به خرافه: فصولی در علم زائف
الحنين إلى الخرافة: فصول في العلم الزائف
ژانرها
تبنى الإنسان عبر رحلة التطور استراتيجيات معينة من الاقتصاد الذهني أعانته على التكيف والبقاء في بيئة محفوفة بالمخاطر من كل صنف. تطورت هذه الاستراتيجيات تحت وطأة ظروف قديمة كانت تلح على سرعة اتخاذ القرار حتى لو جاء ذلك على حساب صوابه الاستدلالي ودقته المنطقية. كان القرار «الملوث» السريع أجدى من القرار الحصيف حين يكون قاتل البطء موبق التدقيق. لقد كان الرهان الإدراكي والتفسيري باهظا، وكانت «السلامة» هي القيمة الأولى والملحة في كل تفكير وفي كل تفسير: الأنثروبومورفيزم، النزعة الإحيائية،
16
التعميم المتسرع، البروكروستية، مغالطة المنشأ، نزعة الماهية، الباريدوليا، المختصرات الذهنية ... إلخ، تلك استراتيجيات إدراكية مبيتة في غور دماغنا البشري وفي صميم معمارنا المعرفي، ومن شأنها أن تعين الإنسان على اتخاذ القرار السريع المسعف وإن كان مشوبا غير دقيق وغير محكم.
يبدو - إذن - أن الخرافة هي الأصل! وأن من طبيعة عمل العلم أن يسبح ضد هذا التيار الجبلي ويجتاز هذه العوائق الطبيعية؛ فيصطنع من الإجراءات الاحترازية والضوابط الاحتياطية ما يعوض به أوجه النقص في الإدراك والاستدلال البشريين. إنما العقل أسير للمخططات والأنماط المبيتة فيه، والتي انطبعت فيه بفعل خبرات سابقة لم يكن له يد فيها، واتخذت ما اتخذت من أشكال كنتيجة لعدد كبير من «العوارض»
17
المحضة.
ثم إن هذه «الأنماط» أو «المخططات» أو «النماذج» - أو ما شئت - تجد طريقها إلى اللغة البشرية، حيث تعمر طويلا بعد أن تكون أسبابها الموضوعية قد تبدلت أو زالت، فاللغة ليست مخزونا مباشرا لما هو موجود، بل هي بالأحرى مخزون أثري وتاريخي جزئيا لما تراءى للبشر يوما أنه جدير بالحديث عنه والقول فيه. هذا الطابع التاريخي التذكاري التراكمي للغة هو ما يجعل تنقيتها من التعبيرات المتنافرة مع قناعاتنا الحالية أمرا بالغ الصعوبة.
تنطوي اللغة في ذاتها على «رؤية للعالم»
18
وتصنيف للأشياء، أي على وجهة نظر عامة إلى الأشياء وتصور إجمالي لما يكونه العالم. إن للغة المحكية منطويات تاريخية حفرية تنقلب عبئا ضارا عندما تتغلغل دون وعي منا في صميم إدراكنا الراهن للأشياء، وتفرض قوالبها ونماذجها على رؤيتنا الحالية للعالم، لكأن الخرافة تقيم في عقر اللغة المحكية، وفي كهولة الألفاظ الدارجة، إرثا من الماضي البعيد يقيم في الحاضر ويحكمه، وهو بمأمن من الرقابة وحصانة من الافتضاح. (5) ضرورة دراسة العلم الزائف
صفحه نامشخص