لا، لا ... وانطلقت مني صرخة، لم يسمعها أحد إلا أعماقي الحزينة المفجوعة، وتركت أصابعي جفنيه، فأنزلتا على عينيه كالستائر تخفيهما عني، وكأنما أشفقا علي من التحديق فيهما.
وانتفضت، إن عقلي يأبى أن يقبل هذا الواقع الشاذ، الذي يشبه الخيال؛ لقد كان أبي منذ دقائق يملأ هذا البيت نشاطا، ومرحا، وحياة! لقد كانت عيناه ... عيناه هاتان! تتألقان ببريق يعكس الدنيا بكل صورها! كيف؟ كيف تخمد هذه الحياة فجأة؟ كيف تنطفئ هاتان العينان، وتصبحان قطعتين كرويتين من جماد؟ أهذا هو الذي يسميه الناس موتا؟
وأحسست بدموع ساخنة تجري على وجهي، ورأيت وجه أبي يشحب عما كان، واتخذت ملامحه شكلا رصينا رهيبا، كأنها ملامح تمثال نحت من الجرانيت. وأمسكت وجهه البارد في يدي، وقربت شفتي من بشرته، وقبلته، وهمست في أذنه: «أبي، أين أنت؟ هل تسمعني؟ إنني أحبك.» وشعرت براحة بعض الشيء، كأن كلماتي من صدقها وحرارتها أذابت جليد الموت، وبعثت في أذنيه الحياة فسمعني، وابتسمت، وعانقته، وأخذت أتحسس جيوبه، وكان لا يزال بالمنامة الجديدة التي اشتراها بالأمس، ووضعت يدي في جيب الساعة العلوي، فوجدت نظارته، وقلمه، وعلبة سجائره، وخفق قلبي من الدهشة. هذه الأشياء! أشياؤه! تؤكد لي أنه لم يمت؛ لأنها تعيش في جيبه حية تنتظره! وتأملت نظارته، وخيل إلي أن فيها حياة، أن فيها عينيه تنظران، ونظرت إلى قلمه الحبر، ورأيت أصابعه تلتف حوله تكتب، وارتعشت أصابعي، وأنا أعيد هذه الأشياء إلى مكانها في جيبه، وأزحت الملاءة عنه قليلا؛ لأبحث عن يديه، وأمسكت أصابعه بأصابعي ... آه! وأمسكت يده بكلتا يدي، ووضعت وجهي في راحته الكبيرة، وبكيت!
ولم أدر إلا بيد على كتفي، فوقفت وغطيت أبي بالملاءة حتى وجهه، وأغلقت عليه الحجرة. لا أريد أن يرى أحد أبي وهو راقد شاحب ضعيف. إن الضعف عورة، ولا أريد أن يرى أحد عورة أبي، أبي الرجل القوي العملاق، الذي علمني كيف أمشي، وكيف أتكلم، وكيف أحب. كنت أجلس إلى جواره كل ليلة، وأستمع إلى حديثه العذب وهو يشرح لي كل شيء حتى الحب! وكان بطبيعته فنانا يعشق الفن. وفي ليلة سألته: «ماذا تفعل يا أبي لو عرفت أنني أحب؟» وكان يجلس بجوار المدفأة، فنظر إلي مدققا، ثم قال: «لا شيء، المهم أن يكون إنسانا يستحق هذا الحب.»
وسألته: «وكيف أعرف أنه يستحق؟»
قال: «ما دمت لا تعرفين فهو لا يستحق!»
وسمعت في البيت ضجة، وصخبا، ورأيت أناسا كثيرين، رأيتهم من قبل، يلبسون السواد، ويروحون ويجيئون لا أدري لم؟ وبعد وقت لم أعرف مداه، رأيت الرجال يحملون أبي في صندوق خشبي، ونزلوا به إلى الشارع، وانطلقت العربة، وكنت أجلس في العربة نفسها بجوار الصندوق، ولم أكن أبكي، لكن شيئا ثقيلا كان جاثما على صدري، يقبض على قلبي بيد من حديد، ونظرت من نافذة العربة إلى الطريق، فوجدت الحياة على أشدها، الناس يجرون، والعربات تتسابق، والشوارع كلها مليئة بالصخب والسعي والكفاح، وتراخت اليد الحديدية عن قلبي بعض الشيء، وجذبت نفسا عميقا من هواء الشارع، ثم نظرت إلى داخل العربة، فوجدت صندوق الموت يحمل أبي، فعادت اليد الحديدية تقبض على قلبي من جديد.
وسارت عربة الموت وسط عربات الحياة السريعة، وأنا أجلس داخلها أجتر آلامي وأحزاني. وأخيرا وصلنا، وأنزل الرجال صندوق أبي، ووضعوه على الأرض، ثم فتحوه وحملقت داخل الصندوق لأرى أبي، وخفق قلبي خفقة عنيفة، كأنه يفرغ بها كل دمه. ورأيت أبي ملفوفا في أقمشة بيضاء، لا تظهر منه شيئا، وحملوه، وأدخلوه في حفرة صغيرة، ثم أهالوا عليه التراب، وتلفت حولي في ذعر كأن الدنيا قد خوت وأقفرت، أو كأن ريحا عاتية أقلبت واقتلعت أبي، فأصبحت أنا في مهب الريح أنتظر دوري. ورأيت الرجال ينفضون عن ملابسهم وأيديهم التراب في آلية غريبة، وكأنهم فرغوا من وجبة غذاء عادية، ولم يواروا الثرى إنسانا، كان هو بصري وسمعي وحياتي.
وبقيت وحدي كالمذهولة أحملق في الحفرة الصغيرة، التي ابتلعت أبي. أهكذا؟! ... أهكذا ينتهي الإنسان؟! أهكذا ينتهي أبي الرجل القوي الجبار، الذي كنت أنظر إليه كعملاق تطاول هامته السماء؟! أهكذا ينتهي به المطاف إلى أن يرقد في حفرة من التراب؟!
لا، لا! صرخت من أعماقي في ثورة، واندفعت إلى مكان الحفرة، وأخذت أنبش بأصابعي في عصبية تشبه الجنون. لا! إنني لا أقبل هذا، إنها قاسية! لا أقبلها أبدا، سأتحداها، سأنبش حتى أفتح هذه الحفرة، وأخرج أبي منها! وأحسست بثورة في أعماقي تندلع وتضطرم، ثورة على الحياة، وثورة على الموت، وثورة على ...
صفحه نامشخص