وأجابت أمها والدموع في عينيها: بركة يا بنتي اللي جيتي.
كرامة
كان عقلي مشلولا لا يريد أن يفكر، بل لا يستطيع أن يفكر حتى لو أراد ... وكانت نفسيتي منهارة مهلهلة، فتاتها هنا وهناك في ثنايا أعماقي الحالكة، فلا أهتدي إلى شيء منها.
ولم أكن أحس شيئا إلا قدمي المنهوكتين، وهما تنتقلان بلا وعي في خطوات ممزقة ضالة، وبعد أن همت في طرقات عديدة لا أكاد أتبينها، وجدتني فجأة أمام بابه؛ باب مكتبه، وقرأت اسمه على الرقعة النحاسية الصفراء فارتجفت، وهممت أن أستدير، وأعود من حيث أتيت، فلم أستطع، وقفت أحملق كالمعتوهة في حروف اسمه: «ضياء الدين توفيق» آه! إنه اسمه، إنه هو! إنه مكتبه! باب مكتبه نفسه الذي شهد خروجنا ودخولنا كل يوم لمدة خمس سنوات كاملة. وكثيرا ما كنا نقف أمام هذا الباب في الظلام، ويأخذني بين ذراعيه ويقبلني، وتتراءى لي الرقعة النحاسية وعليها اسمه، وكأنها تهتز من فرط السعادة والنشوة، وتتراقص حروف اسمه وتضيء بنور جميل، فأهمس له قائلة: ضياء ... أحبك! خمس سنوات كاملة، بأيامها ولياليها، أحببته، وعشت لحظات عمري معه سواء كنا معا أو فصلت بيننا آلاف الأميال، حينما كان يسافر، وكثيرا ما كان يسافر في بعثاته الصحفية.
ثم ... آه ... لعلني أنسى!
كان اليوم منذ سنتين، صباح اليوم الذي كنت أستلقي فيه على فراشي، وأتثاءب، وأستعيد في سعادة كلماته الرقيقة لي، وأتحسس موضع شفتيه الملتهبتين على وجهي، وأخذت أقلب صفحات جريدة الصباح في تكاسل لذيذ.
وفجأة خارت قواي، وتوقف قلبي عن ضرباته، وأخذت أذناي تصفران صفيرا عاليا جعلني صماء، واهتزت الكلمات السوداء المطبوعة أمام عيني، لكني استطعت أن أقرأها مرة ومرتين وثلاثا، وأنا لا أحس بنفسي، وكأنني في حلم.
وقرأت للمرة العشرين خبر زواجه وأنا لا أصدق، وظننته رجلا آخر يحمل اسمه، وجريت كالملسوعة إلى التليفون، وقالت لي شقيقته في سخرية لا تخلو من مزيج من الشفقة والتشفي: أيوة ... ضياء ... إنه في بيته يا «شوقية»، لقد تزوج، ألم تعرفي ذلك؟
وكانت بي بقية حياة، فاستطعت أن أرد عليها قائلة: أشكرك.
ولكن ما بالي أقف بعد سنتين من البعد عنه كالمعتوهة أمام باب مكتبه، لا أستطيع الدخول، ولا أستطيع العودة؟ آه ... ليت قلبي يتوقف الآن تماما، فأموت وأقع جثة هامدة هنا، حتى يتعثر بجثتي وهو خارج فيراني، ويرى ماذا فعل بي!
صفحه نامشخص