وكانت نور الحياة تفكر في أمور أخرى ألهتها عن الإصغاء إليه، فسألته بخوف وإشفاق وهي تشير إلى الناحية التي ذهب إليها الأسطي شلبي وعبد المعز: هل هو ...؟
ولم تقو على إتمام سؤالها، فقال الرجل بوحشية: نعم .. نعم .. هو ابني .. بل هو الطفل الذي تركته في القماط وفررت مع ذلك القصاب المنحوس غير آبهة بالأمومة ولا بالزوجية .. هو ابنك أيتها الفاجرة، فقولي ماذا صنعت به.
وابيض وجه المرأة، وعلاه الكركم، وزاغ بصرها، فقال الرجل بقسوة: هل وقعت الجريمة النكراء؟! هل حدث الإثم الأكبر؟ هل سفلت يا فاجرة إلى مرتبة الحشرات والكلاب؟ والله ما كنت أحب أن يشارك ابني في هذه الجريمة الشنعاء، ولكنه الانتقام الإلهي الصارم أعمى بصرك، وطبع على بصيرتك ليذيقك علقم الندامة ويضرب عليك المذلة والهوان إلى أبد الآبدين.
وكانت المرأة في حالة ذهول شديد حجب من حواسها إدراك العالم المحيط بها ومنه الشيخ طه، فغلبت هواجس ضميرها صوت الرجل المرغي المزبد، وجعلت تحدث نفسها: ابني .. رباه .. أهذا إذن سر حبي له وعطفي عليه؟ .. ابني .. لكأنه حلم بعيد التحقيق.
فقال الرجل الغاضب: فلتموتي كمدا جزاء إثمك الشنيع.
فأشارت المرأة إليه بيدها إشارة غضب واحتقار، وقالت: كفي هذيانا؛ فإنه لم يقع بيني وبين ابني ما يخجل منه أحدنا أو كلانا.
فاشتد غضب الرجل للهجتها، وصاح بصوت انفجاري: إياك وأن تقولي ابنك، لقد ماتت أمه حين ولادته. أفاهمة أنت؟
ودوى صوته فالتفت النظارة إلى ناحيتهما من كل صوب، وكادت تفقد الممثلة صوابها، ولم تر بدا من الانسحاب السريع، وغادر الشيخ مكانه ورجع إلى بيت الأسطي شلبي، ولم يطمئن به المكان فأخذ ابنه ومضيا إلى محطة مصر، وفي أثناء الطريق قال له: لن ترى القاهرة مرة أخرى إن شاء الله .. وسأحولك إلى مدرسة الزقازيق والله المستعان.
وصمت عبد المعز فلم تنفرج شفتاه عن كلمة، وظل جامدا كالتمثال حتي أوى إلى حجرته، وكان في قرارة نفسه غاضبا على أبيه. ولعله لو رأى الشيخ وهو يختم صلاته ذاك المساء فيبسط يديه ويدعو ويتوسل ويذرف الدموع الساخنة، لربما سكت عنه الغضب، وأجبرته حناياه على الذهاب إليه ليستغفره ويسترحمه، ولكنه كان لا يرى من الدنيا جميعا سوى وجه ممتلئ مستدير، حلو الابتسامة، جم المحبة والحنان، يراه في النور والظلام، ويراه حين ينظر وحين يغمض جفنيه؛ فهو لا يبرح مخيلته ولا يدع له فرصة للراحة أو الاطمئنان. ولم يفكر قط في النسيان أو التعزي، ولكنه كان يبتغي الوسيلة إلى الفرار إلى القاهرة مهما كلفه الأمر.
ولاحت الفرصة المطلوبة بعد أسبوع من وصوله إلى العريش حين اضطر أبوه إلى سفر يقتضيه التغيب بضعة أيام، ولم يدع الفرصة تفلت؛ لأنه كان عازما عزما أكيدا أمات ضميره وهزم نوازع الخير في نفسه، ففتح صوان والده وبعثر ما فيه من الثياب، فعثر - كما قدر - على خمسة جنيهات دسها في جيبه وفر من البيت.
صفحه نامشخص