وقضى النهار ضالا لا يقر، يتردد الألم في صدره مع أنفاسه، وعاد مع الأصيل إلى البيت فوجدها أسوأ حالا وأشد هزالا. وأقبلت عليه حماته تسأله أين كان، وتقص عليه ما قاله الطيب، فلم ينفذ شيء من قولها إلى صدره، وعاف الرد عليها بتاتا، بل لذ له أن تقول إن الحالة سيئة، فلتتألم كما يتألم، ولكن كيف يفهمها أنه يعلم كل شيء؟ كيف يحادثها في هذا الموضوع الخطير وأمها لا ترضى بمفارقتها في مثل تلك الحال الخطيرة؟ واشتد به الحنق، فاعتزم أن يمنع عنها الدواء ليعاودها الهذيان سريعا فيسمع منه ما امتنع منه سماعه في اليقظة، وملأ الفنجان ماء خالصا، ووضعه على فم المريضة فازدردته بامتعاض .. وعاد إلى فراشه يرقب الفرصة، ولكن زوجه لم تنم في تلك الليلة ولم تهذ، واشتد عليها الألم فباتت تئن وتشكو وتضطرب. واستدعى الطبيب عند الليل فعاينها، ولكنه لم ينصح بشيء، وهمس في أذنه بأن الحالة جد خطيرة .. وبعد هذا التصريح بنصف ساعة احتضرت المريضة وفاضت روحها.
وخلا إلى نفسه وكان الذهول مطبقا على حواسه جميعا؛ لأن الموت والخيانة الزوجية انتظما تجاربه الشخصية معا في ساعة واحدة دون عهد سابق بهما. وماتت نعيمة ولم يحزن لموتها، ولكن حادثة الموت أذهلت نفسه الرقيقة المرهفة. على أن الحقيقة لم تغب عنه، فقال: لم تمت كما يظنون .. أنا قتلتها .. قتلتها لأني منعت عنها الدواء ليلتين متواليتين هما أشد ليالي المرض ... «فأنا قتلتها» .. وجعل يردد «أنا قتلتها»؛ فكان يشعر لها بوقع غريب في نفسه يمتزج فيه الخوف بالارتياح.
ثم قال مرة أخرى: «وقتلتني هي حيا، وألصقت اسمي قسرا بطفلة إنسان سواي .. ولكني قاتل فلست إذن مغفلا.»
وأسند رأسه إلى يده وراح في تأمل طويل، وقد سرى في جسده قشعريرة البرد والخوف. •••
كيف انقضت تلك الأيام التي أعقبت الوفاة؟ .. انقضت في ألم وقلق ومخاوف لا يمكن أن تتمثل لعقل إنسان، ثم أعلن عن رغبته فجأة في السفر إلى لبنان انتجاعا للصحة والراحة، وكان في الحق يفر من أفكاره وطفلته. ومضى إلى الإسكندرية واستقل سفينة، والظاهر أن نفسه الرقيقة تعرضت في البحر لأزمة عنيفة هدت كيانها وأتلفت أعصابه، فاستشعر اليأس من الدنيا جميعا وألقى بنفسه في اليم خلاصا من عذابه وآلامه، محتفظا بأسراره لقلبه ولبطون الأسماك.
وكان يترحم عليه المترحمون فيقولون: «ما رأينا إنسانا يحب زوجه كالمرحوم صابر، فلا هو صبر على فقدانها ولا احتمل الدنيا بعدها، فقضى على نفسه بعد موتها بأيام .. رحمهما الله.»
يقظة المومياء
أجد حرجا كبيرا في رواية هذه القصة؛ لأن بعض حوادثها يخرق قوانين العقل والطبيعة جميعا؛ ولو كان مردها إلى الخيال ما تحرجت، ولكنها وقعت في عالم الحقيقة، وكان ضحيتها رجل من رجال مصر الأفذاذ المعروفين في الأوساط السياسية والأرستقراطية، وراويتها الذي أنقل عنه أستاذ كبير بالجامعة، لا يجوز أن يرتقي الشك إلى عقله وخلقه، ولم يعرف عنه قط ميل إلى الأوهام والخرافات، ولكني - والحق يقال - لا أدري كيف أصدقها فضلا عن أن أحمل الآخرين على تصديقها؛ وليس ذلك لندرة المعجزات في عصرنا، فمما لا جدال فيه أن عصرنا عصر المعجزات والخوارق، ولكن العقلاء في أيامنا هذه لا يقبلون أمرا بغير تعليل، كما أنه لا يستعصي شيء على إيمانهم مع التعليل المعقول. وإني حيال قصة عجيبة لها من دواعي التصديق رواية حكيم وشواهد ملموسة، ولكن التعليل العلمي ما يزال يتأبى عليها، فهلا أعذر على شعوري بالحرج في تقديمها ؟
ومهما يكن من أمر فإليك ما رواه جناب البروفسير دريان «أستاذ الآثار المصرية القديمة» بجامعة فؤاد الأول، قال: في ذلك اليوم الأسيف الذي خفق فيه قلب مصر خفقة الحزن والألم، ذهبت إلى زيارة المغفور له محمود باشا الأرنئوطي في قصره العظيم بصعيد مصر، وأذكر أنني وجدت عنده جماعة من الأصدقاء الذين كانوا يترددون عليه كلما أسعدتهم الظروف، منهم المسيو سارو ناظر مدرسة الفنون الجميلة العليا، والدكتور بيير طبيب الأمراض العقلية، واحتوانا جميعا «صالونه» الأنيق البديع الحافل بآيات الفن الجميل من لوحات وتماثيل كأنها احتشدت في تلك البقعة لتؤدي تحية العبقرية الحديثة إلى ذكرى عبقرية الفراعين الخالدة تحت أطلال الوادي، يتوهج نورها خلل ظلمات السنين مثل سنا النجوم المتألقة في السماء، الساري في تضاعيف الليل البهيم.
وكان المغفور له من أغنى أغنياء المصريين وأوسعهم ثقافة وأسماهم خلقا، وقد قال عنه مرة صديقنا الأستاذ لامبير: إنه ثلاث شخصيات تقمصت رجلا، فهو تركي الجنس، مصري الوطن، فرنسي القلب والعقل، فأدى تعريفه أتم أداء. والحق أنه كان أكبر صديق لفرنسا في الشرق، وكان يعدها وطنه الثاني، وكانت أسعد أيامه تلك التي قضاها تحت سمائها، واتخذ أصدقاءه جميعا من أبنائها سواء منهم من يعيش على ضفاف النيل أو في جنات السين. وكنت إخال نفسي وأنا في «صالونه» أني انتقلت فجأة إلى باريس؛ فالأثاث فرنسي، والجالسون فرنسيون، ولغة الكلام فرنسية، والطعام فرنسي. وإن كثيرا من الفرنسيين المثقفين لا يعرفونه إلا كهاو فذ من هواة الفنون الجميلة، أو كشاعر يقرض الشعر الوجداني الجميل بالفرنسية، أما أنا فقد عرفته - إلى هذا - محبا لفرنسا متعصبا لثقافتها وداعية لسياستها.
صفحه نامشخص