يا له من كلام يحمل فرحا وألما، والألم فيه أكثر! أيجوز أن تسعد قنا ومن فيها بحبيبته ويبقى هو في القاهرة تسيل نفسه حسرات عليها؟
وهم أن يكتب لصديقه كتابا يعلنه فيه بأن الفتاة التي هز مقدمها قنا هي حبيبته اليوم، ثم خطيبته غدا، ولكنه جفل من هذا الإعلان ووجد رغبة خفية أن يكتمه إياه، وأن يطلب منه أن يوافيه بأخبارها التي تستحق الرواية والحديث.
لقد تردد لحظة وطرح على نفسه هذا السؤال: ألا يعد هذا تجسسا منه على حبيبته؟
وهل يجوز هذا في شرع المحبين؟ أوليس الأفضل أن يربأ بنفسه عن أن يضع صاحبته موضع الاتهام والظنة!
ولكن عاطفة الندم هذه لم تستطع أن تقهر عواطف قلبه الجياشة السوداء، فطردها من نفسه وكتب إلى صديقه بما أملت عليه شكوكه من بادئ الأمر.
وبعد حين وصله كتاب ثان من صديقه جاء فيه عن عائدة ما يلي: «تغير كل شيء في قنا وكل شيء في حياتي، ولم تعد قنا قبرا موحشا فاغرا فاه مكشرا عن أنيابه، ولم تعد حياتي سأما ثقيلا متصلا. كيف لا يكون هذا وأنا مطمئن إلى أني سأحظى أصيل كل يوم برؤية ذلك الوجه السافر المبتسم الذي يحيي موات النفوس، ويبعث مصفر الأمل؟ .. ما أجملها، وما أعذبها!
علمت الآن أنها ابنة أخي مفتش الصحة، أو هذا ما علمته قنا عامة وعلمه شبابها خاصة. إن جميع العيون تلتهمها التهام الجوع؛ فلعل هذه الضجة تثير الغيرة في نفوس الآباء الموظفين، فتشجعهم على الاستهتار بتقاليد الصعيد وأهليه، وإبراز بناتهم للعيان، ومهما يكن من الأمر فنحن الرابحون.
لا تخش على أخيك من قهر؛ فهو بطل صنديد، وشخصية لا يشق لها غبار، وإن عيني لتنفذان من بين العيون جميعا وتجذبان عينيها إلي؛ فصبرا، ولتعلمن بعد حين في أي مخبأ من مخابئ القدر كانت تنتظره هذه المفاجآت!»
ما هذا الذي يقوله مرزوق من أن عينيه تجذبان إليه عينيها؟ إن لعيني مرزوق أن تجذبا كيف تشاءان .. أما عينا صاحبته فما بالهما تنجذبان وتستجيبان؟ .. هلا يكون ذلك مجرد نظر بريء، فسره صديقه على ما يهوي غروره ويحب؟ .. إنه لا يشك أبدا في إخلاص عائدة، ولكن ينبغي ألا ينسى أن لصاحبه عينين جميلتين يحس الناظر إليهما سخونة في أعصابه ولذعة في قلبه، وهو - إلى ذلك - مدرس محترم من حملة الديبلومات العالية، ومن ذوي المستقبل السعيد. أما هو فلم يزد على أن يكون موظفا صغيرا، كل مؤهلاته شهادة البكالوريا، ومستقبله مظلم محدود، أفلا يكون لكل هذه الفوارق أثر في الحب؟
إنه يشعر بحزن عميق يخيم على نفسه فيجعلها من الكآبة كنفس هرم متشائم، ويحس بسم الغيرة ينطلق من قلبه ويلوث دمه .. أواه .. إن أحلامه وآماله تتأرجح على كف رجيم.
صفحه نامشخص