ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
فلكونهم مقرين بذلك أخرج الكلام مخرج ما تقرر عند المخاطب، وكان المخاطب مسلما إذ جعل الخلق صلة للموصول والصلة معهودة للمخاطب ثابتة عنده فى أصل الكلام، فلو قلت لمن يعترف بمجىء زيد أكرم زيد الذى جاء، لم يكن كلامك مقبولا، إلا إن أردت التلويح إلى استبعاد إنكار مجيئه، وإلى أن مجيئه كالشىء الذى لا يمكن إنكاره، فحينئذ تخاطبه فى إثبات ما أنكر كأنك تشير إليه أنك معاند مكابر، أو أنك لو نظرت أدنى نظر لتمكنت من العلم بمجيئه، فجوز فى الآية أيضا أن يقال. أخرج الكلام مخرج ما تقرر بالنسبة إلى مشركى العرب المقرين بأن الخالق الله لإقرارهم بالنسبة إلى كل من لم يقر بأن الله - عز وجل - هو الخالق لتمكنه من العلم بأنه هو الخالق، أو نظر أدنى نظر، ولو قال اعبدوا ربكم وهو خلقكم، أو لأنه خلقكم، لكان الكلام غير مخرج مخرج ما تقرر عند المخاطب جزما، فإنهما يقالان لمن تقرر عنده ولمن لم يتقرر عنده، ويجوز أن يكون الوصف فى الآية للتوضيح إذا جعلنا الخطاب للمشركين المقرين بأن الله هو الخالق، فإن الرب عندهم يشمل الصنم والله سبحانه وتعالى، فاحترز بالذى خلقكم من الصنم، والخلق إيجاد الشىء على تقدير واستواء، وهذا مختص بالله - جلا وعلا - وأصله التقدير وهذا يوصف به المخلوق أيضا، ولذا قال جل وعلا
تبارك الله أحسن الخالقين
فأثبت تعدد الخالقين أى المقدرين، يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، وقرأ أبو عمر وخلقكم بإبدال القاف كافا وإسكان هذه الكاف وإدغامها فى الكاف بعدها، ولم يدغم أبو عمرو من المتقاربين فى كلمة إلا القاف فى الكاف التى تكون فى جمع المذكرين إذا تحرك ما قبل الكاف نحو خلقكم ورزقكم ويخلقكم ويرزقكم، وواثقكم به وأظهرها إن سكن ما قبلها نحو ميثاقكم وبورقكم، بإسكان الراء عنده، أو لم يكن الكاف للجمع نحو خلقك ويرزقك، واختلف أهل الأداء فى قوله
إن طلقكن
فى التحريم، فكان ابن مجاهد يأخذ بالإظهار، وعلى ذلك عامة أصحابه، قال أبو عمرو والدانى وألزم اليزيدى أبا عمر وإدغامه فدل على أنه يرويه عنه بالإدغام وهو القيام لثقل الجمع والتأنيث. انتهى. { والذين من قبلكم } عطف على كاف خلقكم أى وخلق الذين تقدم زمانهم على زمانكم، ويستعمل لفظ قبل ونحوه فى التقدم بالذات، كتقدم الجزء على الكل والواحد على اثنين، وقرأ أبو السميدع
وخلق من قبلكم
بإثبات من بفتح الميم مكان الذين، وفتح لام قبلكم وقرأ زيد بن على والذين من قبلكم بإثبات الذين، ومن بفتح الميم ولام قبلكم بزيادة الموصول الثانى، وهو من بفتح الميم تأكيدا لفظيا، ومع بالمرادف شذوذ وقبلكم صلة الذين أو من خير لصدر صلة الذى محذوف الطول الخبر الذى هو من بصلتها، أى والذين هم من قبلكم بفتح الميم واللام، وقبلكم صلة من ومما زيد فيه الاسم كقول جرير
يا تيم تيم عدى لا أبالكم لا يوقعنكم فى سوءة عمر
فتيم الأول مضاف لعدى والثانى زائد بينهما، وقال المبرد الثانى مضاف إلى عدى والأول مضاف إلى محذوف أى يا تيم عدى تيم عدى. { لعلكم تتقون } حال من الواو فى { اعبدوا } على معنى قولك اعبدوا ربكم راجين الاتقاء عن مناهيه أو هو على تقدير القول، أى قائلين فى قلوبكم طمعا لعلكم تتقون، وعلى هذا الوجه يكون فى ذلك التفات من التكلم إلى الخطاب على مذهب السكاكى، إذ مقتضى الظاهر أن يقول لعلنا نتقى، أو الجملة حال من الكاف فى خلقكم والذين، أى خلقكم والذين من قبلكم فى صورة من يرجى منه التقوى والكمال أسبابه ودواعيه من عقل ومصنوعات الله وأفعاله فى الأمم السابقة، ومعجزات النبى صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجه تغليب المخاطبين على الغائبين فإن الكاف للمخاطبين والذين اسم ظاهر للغائبين، وليس فى { تتقون } إلا الخطاب، والمعنى على إرادتهم جميعا، ولعل فى هذه الأوجه كلها للترجى مصروفا إلى البشر، وقيل لعل للتعليل وهو تعليل لقوله تعالى { خلقكم والذين من قبلكم } أى خلقكم والذين من قبلكم لكى تتقوا، كما قال
صفحه نامشخص