وإذا قيل لهم آمنوا
أى لفظ آمنوا. والمشهور فى باب التسوية وغيرها أن المبتدأ هو المصدر المقدر، وأن الحرف المصدرى مقدر، فى نحو تسمع بالمعيدى، ولا مانع من تقديره عندى فى باب التسوية، حذف وعوضت عنه فيه الهمزة وإن المضاف إليه أو المحكى هو الجملة لا الفعل وحده. وإن قلت إذا كان الفعل المطلق الحدث هنا كالمصدر فلم لم يؤت بالمصدر دونه؟ قلت لأن الفعل ولو قصد به مطلق الحدث لكنه مشعر بالتجدد، فقصدت الإشارة إليه بالفعل، ولو عبر بالمصدر لم يدل عليه.
والفعل ولو قصد به مطلق الحدث لا يدل على الثبات الصريح الخالص، بل مع تجدد ملوح إليه، وهو أصله. وإنما صح جعل ما بعد الهمزة مبتدأ لخبر قبله أو فاعلا لما قبله، لأنها خارجة عن الاستفهام إلى التسوية فلا يصدر لها. وصرح السعد بأن مجموع همزة التسوية والفعل فاعل لسواء أو مبتدأ له، وإنما دخلت همزة التسوية وأم بعد سواء لتقرير الاستواء وتأكيده، وخرجتا عن الاستفهام إلى مجرد الاستواء. والفرق بين الاستواءين لأن الاستواء الذى تفيده الهمزة وأم هو تردد المستفهم فإن من يستقهم عن شىء يستوى عنده ثبوته وعدمه فى أصل عدم الجزم بأحدهما. ولو كان قد يرجح أحدهما، مع أن لفظ الاستفهام لا يفيد الترجيح. والاستواء الذى تفيده لفظة سواء هو الاستواء فى الغرض المسوق له الكلام، فالهمزة وأم على صورة الاستفهام خارجتان عنه. كما أن باب الاختصاص على صورة النداء. والله أعلم. والإنذار التخويف بإخبار فهو إعلام مع تخويف. والمراد فى الآية التخويف من عقاب الله - عز وجل - على كفرهم، وإنما اقتصر على ذكر الإنذار ثبوتا وعدما. ولم يقل ءأنذرتهم أم بشرتهم، لأن الاقتصار عليه أوقع فى القلب، وأشد تأثيرا فى النفس من حيث إن دفع الضرر من جلبه النفع، فإذا لم يؤثر فيهم الإنذار فمن باب أولى ألا يؤثر فيهم التبشير، والأصل ءأنذرتهم بهمزتين مفتوحتين، أبدلت الثانية ألفا وهو قراءة نافع من طريق ورش عنه. وهو عربى فصيح وبه أخذ أهل مصر عن ورش وأبى يعقوب الأزرق وبه أخذت فى جميع نظائره فى القرآن ءأنتم أعلم، ءأقررتم، ءأسلمتم ءأنت قلت، ءألد، ءأرباب، ءأسجد، ءأنت فعلت، ءأنتم أضللتم، ءأشكر، ءأتخذ، ءأعجمى، ءأنتم تخلقونه، أءنتم تزرعونه، ءأنتم أنزلتموه، ءأنتم أنشأتم، ءأشفقتم، ءأمنتم من فى السماء، ءأنتم أشد خلقا؟ وروى البغداديون والشاميون عن عبد الصمد عن ورش أنه يسهل الثانية بين ألف وهمزة، لا همزة مخصوصة ولا ألفا محضة. والأشهر عنه الإبدال. وعليه أكبر الروايات عنه. والتسهيل أقيس فى العربية، لأنه ينبىء ما يدل عليه من بعض النطق بالهمزة، وسهلت الثانية لأن الثقل حصل بها. وإن قلت كيف صح إبدال الثانية ألفا مع أن المتحرك لا تبدل؟.. قلت لا نسلم أنها لا تبدل، بل يجب إبدالها. وقد قرأ بعضهم الثانية فى { يا سماء أقلعى } واوا مفتوحة وفى يشاء إلى ياء مكسورة، وقاس ذلك قياسا مطردا ولا سيما إن كان بعدها ساكن، نحو من السماءان وعلى البقاءان، فإن ورشا يقرؤها ياء ساكنة سكونا ميتا، فإن الفصل بين الساكنين بالإشباع الزائد على مقدرا الألف جائز، ولا سيما عند الهمزتين، فإنه يجوز عندهما التقاء الساكنين، وفيما إذا وقف مطلقا. وقيل لا يجوز إلا وقفا وفيما إذا كان الثانى ساكنا مدغما والأول حرف مدو أجاز الكوفيون التقاء الساكنين مطلقا وبطل ادعاء أن القراءة بالإبدال فى الآية لحن لما سردته لك، ولا يكفر مدعى ذلك.
ولو كان الطعن فى القراءات السبع كفرا لأنه إنما يكون كفرا فيما ليس من قبيل الأداء لأنه المتواتر، أما ما كان منه كالمد وتخفيف الهمزة، بالتسهيل أو الإبدال وتحقيقها فلا، بل قيل إن نسبة قراءة من السبع إلى اللحن الذى يغير المعنى لا يكون كفرا، وقرىء بحذف همزة التسوية، وقرأ بعض من يسكن ميم الجمع، ولو قيل همزة القطع تنقل فتحة الهمزة إليها، ولو كان يفهم من قوة الكلام أنها فى عدم الإيمان وحذفها وهى قراءة حمزة فى الوقف، وقال الطبرانى إنها شاذة، فيجمع بأنها شاذة فى الوصل، قال أبو عمر الدانى إذا اتفقت الهمزتان فى كلمة بالفتح نحو ءأنذرتهم فنافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام يسهلون الثانية منهما، وورش يبدلها ألفا، والقياس أن يكون بين بين. وابن كثير لا يدخل قبلها ألفا. وقالون وهشام وأبو عمرو يدخلونها. والباقون يحققون الهمزتين وإذا اختلفتا بالفتح والكسر نحو قوله عز وجل أإذا كنا، وأإله مع الله، فنافع وابن كثير وأبو عمرو ويسهلون الثانية، وقالون وأبو عمرو يدخلان بينهما ألفا، والباقون يخففونهما. وهشام من قراءتى على أبى الفتح يدخل بينهما ألفا، ومن قراءتى على أبى الحسن يدخلها فى الأعراف أإنكم، أإن لنا لأجرا. وفى مريم أإذا، وفى الشعراء أإن لنا لأجرا، وفى الصافات أإنك لمن المصدقين، وأإفكا، وفى فصلت أإنكم لتكفرون. ويسهل الثانية هنا خاصة وإذا اختلفتا بالفتح والضم وذلك فى قل أؤنبئكم، أؤنزل عليه الذكر، أؤلقى، فنافع وابن كثير وأبو عمرو، يسهلون الثانية وقالون يدخلها بينهما ألفا، والباقون يحققون الهمزتين وهشام من قراءتى على أبى الحسن يحققهما من غير ألف بينهما فى آل عمران، ويسهل الثانية ويدخل قبلهما ألفا فى الباقين كقالون ومن قراءتى على أبى الفتح يحققهما هشام، ويدخل بينهما ألفا وإذا اتفقتا بالكسر فى كلمتين نحو هؤلاء إن كنتم، فورش وقنبل يجعلان الثانية كالباء الساكنة. وقال ابن خاقان عن ورش فى هؤلاء إن كنتم وعلى البقاء إن أراد أن جعل فيهما فقط. الثانية ياء مكسورة وذلك مشهور عنه فى القراءة لا فى الكتابة، يعنى لأنه لا نجعل حركة لها فالضبط فى الآيتين، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالباء المكسورة، وأبو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالفتح نحو
جاء أجلهم
فورش وقنبل يجعلان الثانية كالمدة. وقالون وأبو عمرو والبزى يسقطون الأولى، والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالضم، وذلك فى موضع واحد فى الأحقاف فى قوله عز وجل
أولياء أولئك
فورش وقنبل يجعلان الثانية كالواو الساكنة، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالواو المضمومة، وأبو عمرو يسقطها، والباقون يحققونهما، وإذا اختلفتا نحو السفهاء إلا، ومن الماء أو مما، وشهداء إذ حضر، ومن يشاء إلى صراط مستقيم، وجاء أمة، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية والباقون يحققونها.
والتسهيل جعلها بين الهمزة والحرف الذى منه حركتها إلا إن فتحت بعد ضمة أو كسرة فتبدل مع الضمة واوا مفتوحة ومع الكسرة باء مفتوحة، وإلا إن كسرت بعد ضمة فإنها تبدل واوا مكسورة، أو تجعل بين الهمزة او الياء وتكسر، والأول مذهب القراء وهو أثر والثانى مذهب النحويين وهو أقيس. والله أعلم. وجملة { لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها، فإن تسوية الإنذار وعدمه مجملة لا نص فيها على ما وقع فيه التسوية، فأزال الإجمال بقوله { لا يؤمنون } أى استوى إنذارك وعدمه، فى عدم وجود الإيمان، فكما لا يؤمنون إن لم تنذرهم لا يؤمنون إن أنذرتهم. فالجملة لا محل لها، ويجوز أن تكون حالا من هاء عليهم، مؤكدة لما يفهم من قوة الكلام إن التسوية فى عدم الإيمان، واستبعد أبو حيان كونها حالا. ولعله استبعده على أنها حال منتقلة، ويجوز أن تكون الجملة بدلا من قوله { سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، على أن سواء خبر مقدم، وهو من بدل الاشتمال، فإن عدم الإيمان من متعلقات تلك التسوية، لا هى ولا بعضهما، ويجوز أن يكون { سوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم } معترضا، فجملة لا يؤمنون خبر إن، وذلك إذا اعترض بما هو علة الحكم، فإن علة عدم إيمانهم مساواة الإنذار وعدمه يجوز أن يكون { سوآء عليهم أءنذرتهم } خبرا لأن، وجملة لا يؤمنون خبر ثان، ويجوز كون { لا يؤمنون } مستأنفا كأنه قيل هم لا يؤمنون. قال ابن هشام هذا أولى بدليل الآية الأخرى { سوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم } ليس فيها أن، والاعتراض أن يؤتى بجملة فصاعدا بين فردين أو جملتين، أو جملة وفرد متصلين إعرابا ومعنى، أو معنى فقط لنكتة سوى دفع الإيهام، ويجوز أن يكون لدفعه عن بعض وبه أقول، وأجاز بعضهم الاعتراض آخر الكلام وهو خارج عن اعتراض الاصطلاح والمعترضة مؤكدة وغير مؤكدة، والتأكيد بها تارة يكون كسائر التأكيد بالجمل، بأن تتضمن ما صرح به الكلام السابق أو الذى اكتنفها أو وما لوح إليه، وتارة يكون بمعنى المبالغة بذكر الجملة، وبمعنى الاهتمام بشأنها التى أتى بها قبل تمام ما قصد من الكلام، وهى كالمؤكدة، إلا أنها أحسن موقعا وألطف مسلكا، ودالة على زيادة الاهتمام. والله أعلم. واستدل بعضهم بالآية على جواز التكليف بما لا يطاق، فإن إيمانهم محال إذ قضى الله أنهم لا يؤمنون، كما أخبرنا بقوله لا يؤمنون، ومع ذلك أمرهم فى آيات كثيرة بالإيمان تصريحا وتضمينا، ويستحيل إيمانهم من جهة أخرى أيضا وهى استحالة الكذب على الله تعالى، فإنهم لو آمنوا انقلب خبره كذبا، وتدل الآية أيضا، عند هؤلاء، على التكليف بما لا يطاق من جهة أخرى وهى الجمع بين الضدين، لأن الإيمان يشمل إيمانهم لأنهم لا يؤمنون.
قلت التكليف بالإيمان ليس تكليفا بالمحال، وإلا لزم اتصافه بالظلم إذا عذبهم على عدم الإيمان مع أنه محال، بل إيمانهم من الجائزات التى لا تكون، لأنه تعالى جعل فيهم ما يتوصلون فيه إلى الإيمان، وجعل لهم أدلة فقصروا وأتاهم العقاب من حيث التقصير، وإنما يكون تكليفا بالمحال لو لم يجعل لهم عقولا ولم يجعل لهم أدلة، كما لو كلف الأصم السمع والأخرس الكلام، فهم قادرون على الإيمان بما ركب فيهم من عقل وما جعل لهم من الأدلة. و إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون لا ينافى القدرة على الإيمان، وإيمانهم لم يمتنع بالذات بل لغيره، وهو عدم تعلق علم لله تعالى به، وسمع الأصم وكلام الأخرس وإيمان ما لم يركب فيه تمييز يصل به إلى الإيمان، ونحو ذلك ممتنعات بالذات والتكليف بالممتنع لغير ذاته جائز واقع قطعا. ومنه تكليفهم بالإيمان. والممتنع إنما هو التكليف بالممتنع بالذات، وهو عندى غير جائز عقلا وغير واقع إذ لا فائدة فيه، فلا يكون من الحكمة. وقال القاضى جائز عقلا بناء منه على أنه لا يشترط فى الأمر والنهى حكمه وغرض ولا نعلم هذا بل نقول لا بد من الحكمة لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث، فمنها ما يظهر لنا ومنها ما يخفى. وقال إنه غير واقع كما قلت. وعدم دليل وقوعه أنا لم نطلع عليه فى القرآن والسنة ولم يرو لنا عن كتاب من كتب الله عز وجل قبل القرآن وإنما قلت بامتناعه عقلا لأنه يؤدى إلى وصف الله بالنقص، وهو العبث أو الظلم وهو العقاب على ما لا طاقة عليه، والعابث لا يكون إلها، وكذا الظالم لأن ذلك عجز عن الحكمة والعدل، فبثبوتهما تنتفى الألوهية، وانتفاؤهما محال، لأن الكائنات لم تتكون بذاتها، لأن المعدوم لا يوجد نفسه ولا يحادث مثلها، لأنه يؤدى إلى التسلسل، هذا ما ظهر لى. وإنما أمرهم وأنذرهم، مع علمه بأنهم لا يأتمرون ليلزمهم الحجة. ويقطع عذرهم وليجوز الرسول ثواب التبليغ، والأمر والنهى، وليجوز من يأمر وينهى ثواب الأمر والنهى، ولتكون الآية إخبارا بالغيب على ما هو به على طريق المعجزة إن أريد بالذين كفروا اشخاص معينة. واستفدت من كلام القاضى أن التكليف بالمحال يجوز، سواء كان محالا للذات أم لغيره، لأنه إذا أثبت جواز الممتنع لذاته عقلا، فأولى أن يثبت جواز ما امتنع لغيره، وضابط المحال بالذات أنه الممتنع عقلا، وعادة كالجمع بين السواد والبياض والمحال لغيره ممكن فى نفسه لكن لا تتعلق به قدرة المخلوق، كحمل الجبل والطيران من الإنسان وهذا إما ممتنع عادة كالمثالين.
صفحه نامشخص