هميان الزاد إلى دار المعاد
هميان الزاد إلى دار المعاد
وعن ابن قتيبة فى قوله { فإن أحصرتم } هو أن يعرض الرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو، ويقال أحصر، فإن حبس فى دار أو سجن قيل حصر، وعن الزجاج أحصر عند أهل اللغة فى الخوف والمرض وحصر فى الحبس، وقال ابن السكيت أحصره المرض وحصره العدو. { فما استيسر من الهدى } ما مبتدأ والخبر محذوف، أى فعليكم ما استيسر من الهدى، أو خبر لمحذوف، أى فالواجب ما استيسر من الهدى، أو مفعول لمحذوف، أى فاهدوا ما استيسر، والهدى بدنة أو بقرة أو شاة، ومعنى ما استيسر ما سمحت به النفس من ذلك، ووجد. وقال ابن عباس شاة لأنه أقرب إلى اليسر، وهو قول الجمهور، وإن أهدى بدنة أو بقرة فحسن، رواه مجاهد عن ابن عباس، وروى أيضا عن ابن عباس وعروة جمل دون جمل، أو بقرة دون بقرة، يعنيان أنه تكفى بدنة أو بقرة، ولو كانت دنية غير كريمة. وعن ابن عمر المراد بالهدى هنا الإبل والبقر فقط. ومحل هدى المحصر حيث أحصر، وإليه ذهب الشافعى، لأن النبى صلى الله عليه وسلم ذبح الهدى عام الحديبية، لأنه أحصر فيها مع أنها خارجة عن الحرم، وحلق فحل فقيل هى من الحرم فى طرف منه، وهذا مذهب الأكثر، وقال أبو حنيفة يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبح هناك، ثم يحل فى ذلك الوقت، وهذا مثل ما ذكر الشيخ هود رحمه الله، وحيث قال وكلما حبسه أقام محرما وبعث بهدى، فإذا نحر من يوم النحر حل من كل شئ إلا النساء والطيب، فإن احتاج إلى شئ قبل أن ينحر الهدى الذى بعث به مما لا يفعله المحرم من دواء فيه طيب وحلق رأس أو لبس ثوب، لا يلبسه المحرم، أو شئ لا يصلح للمحرم فعليه فدية طعام أو صدقة أو نسك. انتهى. وقيل إن ذلك إن كان محرما بحج، وإن كان بعمرة ففى الحرم فى كل وقت، وليس التحلل لازما للمحصر، بل إن شاء تحلل حين أحصر، وإن شاء بقى محرما لعل المانع يزول فيقدر فى الكلام محذوف، أى فإن أحصرتم وتحللتم، أو فإن أحصرتم لما استيسر من الهدى إن تحللتم، أو فإن أحصرتم فإن تحللتم فما استيسر، ونحو ذلك مما مر فى تفسيره، والسين والتاء لتأكيد اليسر وزيادة الإجمال فيه، أى المواضع الثلاثة الهدى بكسر الدال وتشديد الياء جمع هدية بالتشديد كمطية ومطى. { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله } أى حتى يبلغ بعلمكم بخبر، أو بمشاهدة من بعيد، أو بمواعدة لوقت معلوم، أو بمضى يوم النحر الهدى موضعه الذى ينحر فيه يوم النحر وهو الحرم كله، أو منى وهذا قول أبى حنيفة والشيخ هود، وعلى مذهب الجمهور يكون محله هو موضعه الذى أحصر فيه أهله فى الحل أو الحرم، وفى أى وقت، ويفرق على المساكين فالمعنى لا تحلقوا رءوسكم قبل أن تبلغوا موضعا تحصرون فيه مع هديكم حلا أو حراما، والاقتصار على الهدى دليل على أنه لا يلزم القضاء، لكن من لم يؤد ما لزمه من حج أو عمرة فعليه إذا أطاقها بعد ذلك أو الوصية بها.
وقال أبو حنيفة يجب القضاء، والصحيح أن محله الموضع الذى حصر فيه، وأنه يقضى من قابل. قال ابن عمر
" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق رأسه "
، أخرجه البخارى وذلك قبل الحرم، وقبل يوم النحر، وقضى من قابل، وذكروا عن عطاء أنه قال كل هدى دخل الحرم ثم عطب فقد بلغ محله إلا هدى المتعة، فإنه لا بد له يهرق دما يوم النحر، وقيل الخطاب فى قوله { ولا تحلقوا رءوسكم } للأمة كلها لا للمحصرين فقط. والله أعلم. وقد علمت أن المحل اسم مكان ويجوز أن يكون اسم زمان، وقالوا قوله { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله } ، ينفع من أوجاع الرأس - الصداع وغيره. { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحق. { أو به } أى فيه. { أذى } مضرة. { من رأسه } كجرح أو قمل، وكذا غير رأسه مما يحوج إلى الحلق قياسا على الرأس، ولأن الرأس خص بالذكر لأنه سبب النزول فى كعب ابن عجرة، كما يأتى إن شاء الله، ومن رأسه بمعنى فى رأسه بدل بعض من قوله { به } و { أذى } مبتدأ خبره { به } والجملة اسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، على أن من موصولة، والفاء بعدها لشبه الشرطية، وإن جعلناها شرطية فيه خبر لكان محذوفة، وأذى اسم لمكان المحذوفة، أى أو كان به أذى من رأسه، والجملة فعلية معطوفة على الفعلية قبلها، لأن الشرط فعلية والمعطوف على الشرط شرط إلا إن اغتفر فى الثانى هنا ما لم يغتفر فى الأول، فعطفت الجملة الإسمية على الفعلية الشرطية. { ففدية } أى فعليه فدية، أو فالجواب فدية، ويقدر محذوف آخر كما مر، أى وحلق ففدية، أو إن حلق ففدية، أو ففدية إن حلق أو نحو ذلك مما مر. { من صيام } صيام ثلاثة أيام. { أو صدقة } التصدق على ستة مساكين مدان لكل مسكين. { أو نسك } تقرب إلى الله بأن يذبح للفقراء شاة، وهو مصدر، وقيل جمع نسكة، وقرأ الحسن بإسكان السين تخفيفا، ومن لبيان الفدية أو للتخيير، خيره الله بين الثلاثة،
" روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب بن عجرة " لعلك أذاك هوامك؟ " فقال نعم يا رسول الله. قال " احلق وصم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك بشاة "
رواه البخارى ومسلم بلفظ أبسط، هكذا
" أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدرى، والقمل يتناثر على وجهى، فقال " أيؤذيك هوام رأسك؟ " قال قلت نعم. قال " فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة "
لا أدرى بأى ذلك بدا. وفى رواية فى نزلت هذه الآية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وذكر نحو ذلك، فى رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وذكر ذلك فى رواية
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما كنت أرى أن الوجع بلغ منك ما أرى، وما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ " قال قلت لا، قال " صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين صاع "
، فنزلت فى خاصة، وهى عامة، وظاهر هذه الرواية أن الأخيرة أن الشاة مقدمة، لا يحل الصوم أو الإطعام إلا إن لم يجدها، فإما أن يكون كذلك، ثم نسخ بالآية، وإما أن يكون الأمر بالشاة إرشادا له إلى ما هو أفضل، لأن الشاة أشد، وهذه الرواية تبين أن الفرق فى الرواية الأخرى هو ثلاثة أصوع، وهو بتفتح الفاء والراء، وتبين أن أدنى ما يكفيه من النسك شاة، وإن نسك بقرة فحسن، وإن نسك بدنة فأفضل، وألحق بمن حلق لعذر من حلق لغير عذر، فانه أولى بالكفارة من قياس الأعلى على الأدنى، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللباس والدهن لعذر أو لغيره، وكل هدى أو إطعام لزم المحرم فلمساكين الحرم، إلا هدى المحرم، فإنه يذبحه حيث أحصر عند الأكثر. وأما الصوم فإنه يصوم حيث شاء غير الثلاثة التى أمر الله أن تصام قبل الرجوع إلى الأهل، فقيل فى الحرم، وقيل أيضا فى نسك المفتدى أنه يذبحه حيث شاء ويفرقه حيث شاء. وروى مجاهد قال حدثنى عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن كعب بن عجرة
صفحه نامشخص