" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره "
ففسره بما يتعلق به، ولم يفسر لفظه، بل أعاد لفظه بقلبه أن تؤمن لأنه كان معروفا عندهم لا نزاع فيه أنه لغة مطلق التصديق، وشرعا تصديق بأمور خاصة وهى المعلومة من الدين بالضرورة، فهو تصديق بها بمعنى اللغوى، ويدل لذلك حديث الشيخ عامر - رحمه الله - فى الإيضاح فى كتاب الكفارات فى
" الأمة التى أراد سيدها أن يعتقها عن دين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاءتك فأت بها " فأتاه بها فقال لها " من ربك ومن أنا؟ " فقالت الله ربى وأنت محمد رسول الله، فقال " إنها مؤمنة " "
فإنه يتبادر أنه إذا أراد أن يختبر هل هى مؤمنة؟ فلما قالت ذلك أخبر أنها مؤمنة، أى أنها مؤمنة قبل نطقها من قبل أن تأتى مثلا، ولم يقل لها إنها قد آمنت الآن، بل أخبر بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت، فأفاد ذلك أنه قد حصل لها اسم مؤمنة بما فى قلبها بلا نطق، وما أفادنا نطقها إلا معرفة حالها وغير هذا محتمل، لكن غير متبادر. وانتفاء الإيمان بانتفاء المعرفة والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما لمفهومه شرعا، لجواز كونهما شرطين له شرعا فظهر أنه يمكن ثبوت التصديق لغة بدونهما، وإن هذا الثبوت يمكن مجامعة الكفر له، إذ لا مانع عقلا أن يصدق جبار نبيا ويقتله، لنحو حمق أو غاية هوى، فقتله لا يدل على انتفاء التصديق به من أصله، كما ظنه بعض الأئمة من أصحابنا ومن قومنا، بل يدل على أن ما عنده من التصديق غير منج له شرعا من النار، ورأيت الله سبحانه وتعالى التلبس بالإيمان لازما لا ينفك عنه وهو سعادة الأبد، وعلى ضده شقاوته وهى لازم الكفر شرعا، وأنه اعتبر فى ترتيب لازم الإيمان وجود أمور بعدما يترتب لازم الكفر، فمنها تعظيمه - سبحانه وتعالى - وتعظيم أنبيائه وكتبه وملائكته، وترك السجود لنحو الصنم والاستسلام باطنا لقبول أوامره ونواهيه الذى هو معنى الإسلام لغة، فلو كان رجل مصدقا بوحدانية الله سبحانه وتعالى ورسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما يجب التصديق به مجملا أو مفصلا، ثم سجد لصنم فهو باق على ذلك التصديق فى قلبه لم ينقص منه شيئا، فبالظاهر نقول إنه غير مشرك، وسجوده للصنم منزل منزلة سائر الكبائر التى يفعلها تشهيا إذا اعتقد تحريم ذلك، وبالتحقيق نقول إنه مشرك ناقض لإيمانه وتصديقه، لأنه إذا سجد للصنم ورآه أهلا لأن يسجد له فقد جعل لله شريكا، ولو اعتقد تحريم الإشراك والسجود لغيره، وإن سجد له عبثا ففعله كبيرة نفاق، وقيل شرك، واتفق أهل الحق والأشاعرة والحنفية أنه لا يعتبر إيمان بلا إسلام ولا عكس ذلك، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر إذا أخذ بالمعنى الحقيق لهما، ولكنا أهل الحق والحنفية خالفنا الأشاعرة، إذ حكمنا بتكفير بعض الناس بأقوال وأفعال، ووافقنا محققو الأشاعرة كتعمد صلاة بلا وضوء، ودوام ترك سنته استخفافا بها واستقباحها، كإحفاء الشارب وجعل طرف العمامة تحت الحلق، فمن قصد الاستخفاف بالسنة أشرك مطلقا، ومن فعل خلافها بلا استخفاف نافق وكفر كفر نفاق، وهو كفر نعمة إذا كانت غير واجبة، ومن أنكر ما هو من الدين وليس علمه ضروريا، بل فيه خفاء، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا كفر لإنكاره عند الشافعية، وكفره الحنفية إن علم ثبوته قطعا، أو ذكر له أهل العلم أنه قطعى فاستمر على جحوده، وكفره أصحابنا مطلقا لأنه يعذر عندهم فى جهل ما هو موسع، ما لم يدخل فيه بخلاف الحق.
واعلم أن الإيمان والإسلام متلازمان مفهوما، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وإن اختلف المفهومان أو مترادفان فلا يوجد شرعا إيمان من غير إسلام ولا عكسه عند التحقيق، وأن الإسلام يطلق أيضا على الأعمال فى الشرع، كما يطلق على الانقياد لغة وشرعا، وأن الإيمان يطلق عليهما شرعا باعتبار أنه يتعلق بهما، فحيث ورد ما يدل على تغايرهما كما فى حديث
" إن جبريل قال يا محمد أخبرنى عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال فاخبرنى عن الإيمان، قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره "
وكما فى قوله تعالى
قالت الأعراب آمنا
إلخ الآية، فهو باعتبار أصل مفهومهما، فأصح تفسير فى الآية قول ابن عباس وغيره إنهم آمنوا باطنا وظاهرا، ولكن كان إيمانهم ضعيفا، ويدل على هذا قوله تعالى
وإن تطيعوا الله ورسوله
صفحه نامشخص