وفي المطبخ، طلب من ماكينة إعداد القهوة مشروب اللاتيه، نصف إسبرسو ونصف حليب ساخن، جهزت الماكينة المشروب في كوب خزفي مصنوع من الغبار القمري، وأخذ القهوة إلى الشرفة. على الطريق السريع أسفله، كانت الأشجار قد طرحت آلاف الأوراق؛ إذ سيحل ربيع جديد مفاجئ، كما أخبرته ليزي، بما يجلبه من أزهار وبراعم وثمار جديدة في كل أنحاء المدينة.
قال القط البرتقالي: «مياو. مياو.» بطريقة قاطعة، آمرة. «أطعمي القط.» هكذا قالت ليزي من خلفه، واستدار ليراها تقف عارية، أمام باب الشرفة مباشرة. كانت ذراعاها معقودتان أمام ثدييها، بحيث كانت اليد اليمنى أسفل أوراق وشم الوردة. قالت: «مياو، مياو، مياو، مياو.» •••
بينما بدأت النجوم تدور في بطء خارج النافذة، ظهرت الأرض البعيدة في المشهد. قال السيد جونز: «لا أريد أن أترك هذا المكان.» لم يسأله هاي ميكس عن السبب؛ ففي هذا المكان توجد ألف، توجد الاحتمالات، النمو، بينما الأرض كانت تخدم الإنسان. قال السيد جونز: «غير أن بقائي مستحيل بمعنى الكلمة؛ إذ لن يسمح به تراينور مطلقا، خاصة الآن، بعد أن فشلت مناوراته الأخيرة في تحقيق نتائج تذكر.» «لقد سارت الأمور على نحو طيب لآخرين كثر.» «لكن لم يكن الحال كذلك بالنسبة إلى تراينور. لقد وجد مجلس الإدارة أن معالجته للموقف كانت غير ملائمة وتفتقر إلى مراعاة مشاعر الآخرين. وما زاد من قسوة حكمهم عليه هي معرفتهم أن كثيرا منهم كانوا سيتصرفون بالطريقة عينها لو كانوا في مكانه.» «أمر طيب.» هكذا قال هاي ميكس، وكان يعني هذا. سيظل هو وجونزاليس هنا، كما يبدو، وكل منهما سيكون جزءا من جمعية الاتصال، ولن يرغب أيهما في أن يكون له عدو قوي مثل تراينور. كان يأمل أن تقل مرارة الأحداث الأخيرة مع مرور الوقت.
قال السيد جونز بصوت حزين: «لكن ماذا عني؟» «يجب أن تذهب، هذا مؤكد. لكن يمكنك أيضا البقاء.» «ماذا تعني؟» «انسخ نفسك.»
شعر السيد جونز بالذهول، وتحول إلى نمط يتجاوز اللغة؛ حيث أخذ الاثنان يتبادلان المعلومات والأسئلة والمشاعر والتفسيرات والتطمينات. وتحت هذا كله تدفق إحساس بالحزن: فسيذهب السيد جونز إلى الأرض، بينما ستبقى نسخته في هالو وتكتسب شخصيتها المتفردة مع تباعد مساريهما الزمكاني. سيصير السيد جونز الموجود في هالو ذاتا خاصة مستقلة بنفسها؛ سيختار لنفسه اسما جديدا، هكذا فكر هاي ميكس، وربما نوعا جديدا وربما لا يختار شيئا جديدا على الإطلاق.
لم يستطع هاي ميكس إخفاء حبوره بفكرة وجود رفيق له هنا، لكن الغريب أنه أحس بشعور الابتهاج يعود إليه، والذي صار واضحا في اللحظة التي بعث فيها السيد جونز بصور تبين سعادته بفكرة الذات الثانية. •••
منذ موته، شعر جيري بعدد من الأحاسيس الجسمانية غير المريحة: ارتباك، دوار، غثيان، وكلها جزء من متلازمة جديدة، كما افترض، تدعى الذات الشبحية. فمثل الشخص ذي الطرف المبتور الذي يظل يشعر بحكه في هذا الطرف؛ نظرا لوجوده في خريطة الدماغ لوقت طويل بعد بتر اللحم، كان جيري يشعر بذاته القديمة وهي تطلب الاهتمام، وتطالب بشيء واحد مستحيل: كانت تريد أن يكون لها وجود.
تحدثت معه في أحلامه أو حين كان يسبب له التساؤل المكروب الإرهاق الشديد وقت النهار. كان بإمكانها الشعور بحنينه، أن يكون كاملا مجددا، وفوق كل هذا، أن يكون حقيقيا. كانت تهمس له: «استعدني، يمكننا الذهاب إلى مختلف الأماكن معا، أماكن لها وجود حقيقي.»
كان جيري يؤمن بأن حياته وهذا العالم سيظلان موضع شك إلى الأبد. في بعض الأحيان كانت عملية الإدراك نفسها تبدو غير مفهومة له، وأن وجوده كان انتهاكا للنظام الطبيعي أو تجاوزا للحدود البشرية المطلقة. كان بوسعه النظر إلى البحيرة الخيالية في هذا اليوم المشمس، الذي ليس يوما حقيقيا، وأن يسمع صيحات الطيور التخيلية وهي تصدح بأذنيه الخياليتين، وأن يتساءل: «من أنا أو ماذا أنا؟ وما الذي سيحدث لي؟»
كانت الأسئلة تستعصي على عقله مثلما يستعصي الخشب المتحجر على البلطة.
صفحه نامشخص