هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
ژانرها
وفي يوم 4 يوليو 2010م بدأت في كتابة كتاب «أنا نصر»، وفي اليوم التالي تركنا نصر أبو زيد ورحل عن عالمنا بجسده، وبالفعل أخرجت الكتاب في عام 2013م؛ احتفالا بعيد ميلاده السبعين كما وعدته قبلها بست سنوات. وحين فكرت في كتابة الكتاب كنت حائرا، هل أعمل دراسة أكاديمية علمية، أبرز فيها ذاتي وقدراتي على التحليل، دراسة تكون للخاصة من المهتمين، أم أكتب عن نصر الإنسان ودلالات تجربته الشخصية الثرية والعميقة والموحية لتقرب نصر للناس؟ فاخترت أن أسير على خط رفيع ودقيق بين نصر الإنسان وأبو زيد المفكر، الخط الرفيع الذي حاولت أن أسير عليه أيضا في عملي الأول «مهاجر غير شرعي» عبر التعامل مع الواقع المعاش واليومي، تعاملا يكشف جوانبه المترعة بخيال أرحب من عوالم الخيال التي يمكن أن يصطنعها كاتب. فتخيلت بكل هذه السنوات وهذه المعايشة مع خطاب نصر وحياته، لو أن نصر أبو زيد فكر أن يكتب عن حياته وحياة تفكيره، فكيف كان سيكتب؟ وبالفعل كتبت النص بصيغة الأنا، وكأنه يروي. وبذلت ما أمكنني من جهد للكشف عن بواطن القيمة في حياته كإنسان يجسد حلم وطن كان يحاول أن يواجه الفقر والجهل والمرض. حاولت أن أجسد مشواره الفكري، وبقدر الإمكان تقريب الأفكار المركبة والمجردة للقارئ العام. وستجد توثيقا لكل جوانب حياته وكتاباته في روح فنية أدبية، وكذلك ستجد صوتا آخر في الكتاب؛ صوتا يرصد جوانب عن حياة نصر أبو زيد، رحل عن دنيانا، وهو نفسه لا يعرفها.
بل سعيت للتنقيب والاستقصاء عن جوانب من حياته عبر حوارات أجريتها مع زوجته ورفيقة مشواره منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي د. ابتهال يونس، وصديقه منذ الستينيات في المحلة جابر عصفور، وصديقه في الجامعة علي مبروك عليه رحمة الله، وصديقه منذ الجامعة الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد. وكنت أتمنى التسجيل مع حسن حنفي، ومحمود علي مكي عليه رحمة الله، وأحمد مرسي الأستاذ بجامعة القاهرة ورفيق رحلة أبو زيد لأمريكا، لكني لم أتمكن. فقد حاولت أن يكون الكتاب نصا حيا يكشف جوانب الحياة في فكر أبو زيد وفي حياته الخاصة، فالمفكر لا ينفصل فكره عن سياقات حياته، يتشكل بها ويشكلها.
الكتاب والبحث كشف عن أن قيمة نصر أبو زيد ليست في كونه مفكرا صاحب أفكار كبيرة وعظيمة فقط، وليس إنسانا نبيلا كافح من أجل أسرة توفي عنها أبوه وأبو زيد في الرابعة عشرة، واستطاع بمساعدة والدته، أن يعبرا بهذه الأسرة لشواطئ الأمان، بل القيمة الحقيقة في نصر كونه مفكرا حيا، دائم النقد لفكره ولتصوراته، في حركة بندولية بين منهج الباحث وأدواته البحثية من جانب، وبين موضوع البحث ونتائجه من ناحية أخرى، فنصر يبدأ من سؤال وفي محاولة الإجابة على السؤال تتولد أسئلة أخرى، نتائجها تطرح تساؤلات على المنهج وأسسه النظرية مما يضيف إليه ويحذف منه ويطور فيه، ليرتد المنهج الجديد في التعامل مع الأسئلة. لذلك فنصر أبو زيد مر من وجهة نظري بثلاثة انتقالات في فكره، وللأسف الدارسون لخطابه لا يدركون هذه الانتقالات، فخطاب أبو زيد طوال الوقت مهتم بحالة الجدل الدائمة بين الوعي والتاريخ، بين المفكر وسياقاته، بين الفكر والواقع، في عملية جدل مستمر لم تتوقف إلا برحيله عنا. - أستاذ جمال، هل لك أن تعطينا نظرة سريعة عن تكوين الكتاب، لمن لم يتمكن من الاطلاع عليه من القراء، ليواكب حديثنا بسهولة أكثر؟ - كتاب «أنا نصر» يصور حياة نصر أبو زيد الصبي في قرية قحافة مركز طنطا في غرب دلتا النيل بمصر، كيف مر بمراحل حياته الشخصية والفكرية، وكيف حرمه أبوه من دخول الثانوية العامة لطول مشوار الجامعة . وكانت الجامعة وقتها أيضا تعليمها ليس مجانيا، فأرغمه أبوه الذي أحس بقرب أجله أن يدخل تعليما فنيا متوسطا، وبالفعل توفي أبوه ونصر في سن الرابعة عشرة، وكان طالبا في مدرسة الصنائع، لتجد أمه نفسها مسئولة عن أسرة كبيرة فقيرة. وبالفعل تخرج نصر سنة ستين، وكافح يعمل كفني لاسلكي في وزارة المواصلات، منتدب مدني للعمل في قسم شرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى، يعمل ليساعد أمه على تربية أسرتهم الكبيرة، وتجدد حلم الجامعة مرة أخرى، وذاكر من المنزل ليحصل على الثانوية العامة ، ويدخل الجامعة وهو في سن الخامسة والعشرين، ويدرس بالجامعة وهو يعمل، ويتفوق في دراسته ويحارب ليصبح معيدا، وينجز رسالتيه للماجستير والدكتوراه ويتخصص في الدراسات الإسلامية. ويصور الكتاب مراحله الفكرية، فالكتاب بمثابة خريطة معرفية لحياة نصر وحياة التفكير عنده، مدخل لكل من يريد أن يعرف مدينة أبو زيد الفكرية، الكتاب يفتح لك هذا العالم، لكنه لا يغنيك عن التواصل مع خطاب نصر في كتاباته، بل هو مقدمة لك للدخول لخطاب نصر أبو زيد. - إنك، في مقابلة تليفزيونية سابقة، ألمحت، والآن تفضلت، بأن «نصر أبو زيد مر بثلاثة انتقالات في فكره»، ما هي هذه النقلات؟ وما السياقات التي اقتضتها؟ وهل هي في مسير معرفي تكاملي أم إنها انفعالات مع الواقع وقضاياه وإحباطاته؟ - أنت تشير إلى لقاء برنامج «عصير الكتب» مع بلال فضل، نعم نصر أبو زيد دخل الجامعة عام ثمانية وستين، عام بعد هزيمة 67، وفي سنوات دراسته في الجامعة شاهد تحول بوصلة النظام السياسي في فترة حكم عبد الناصر وفترة حكم السادات، وكيف تحول المعنى الديني الرسمي والسائد بين الحكمين، والاستخدام النفعي للنصوص الدينية لتبرير التوجهات السياسية، فمن «اشتراكية الإسلام» واشتراكية أبي ذر الغفاري، ومن «الناس سواسية كأسنان المشط» كمعان دينية للتوجه السياسي بأن الأرض لمن يزرعها، تتحول البوصلة ويتم تصدير الآية الكريمة
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، وأن تسعة أعشار الرزق في التجارة؛ لتبرر الانفتاح والرأسمالية الوطنية، ومن مواجهة العدو بمنطق
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
لتتماشى مع توجه النظام السياسي، تصبح «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، وفي السبعينيات مع فض الاشتباك ومفاوضات السلام، فيتم تصدير:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله .
فكان السؤال الذي عانى منه نصر أبو زيد، هو: لماذا هذا التحول في المعنى الديني؟ ولماذا هذا الاستخدام النفعي للنصوص؟ وفي دراسته لتراث المعتزلة وخصومهم والمتصوفة في تعاملهم مع تأويل نصوص المصحف، في أطروحتيه للماجستير والدكتوراه، وجد أن القدماء أيضا حولوا نصوص المصحف لساحة للعراك، كل فريق يستخدم النصوص ليجعلها تنطق بمبادئه الفكرية. فكان السؤال الذي طرحه نصر أبو زيد على نفسه هو: هل يمكن الوصول إلى مفهوم للنص خارج هذه التحيزات الأيديولوجية؟ فكانت دراسته «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن» محاولة للإجابة عن هذا السؤال وغيره. وهذان العقدان: السبعينيات والثمانينيات، هي مرحلة أسميها القراءة الأيديولوجية للتراث عند نصر أبو زيد، فتحت تأثير أستاذه حسن حنفي فلسفيا، وتأثير عبد العزيز الأهواني منهجيا، وتواصله مع دراسات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا التي تواصل معها بعمق خلال منحة له عامين بأمريكا في نهايات السبعينيات. نصر كان يحاول نقد الخطاب الأشعري في تصوراته حول القرآن وقدمه من ناحية، ويواجه الهجمة الحنبلية الحرفية في قراءة النصوص، الهابة من الصحراء تغذيها أموال البترول، ويغذيها أيضا نجاح الثورة الإيرانية، فنصر كان يواجه التوجهين مستخدما تصورات المعتزلة.
وفي فترة نهاية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، دخل خطاب أبو زيد في مرحلة نقد ذاتي تمثلت في نقده لخطاب حسن حنفي، وفي نقده للخطاب المعتزلي، وفي نقده لمنهجه في تناول ابن عربي في رسالته للدكتوراه، ونقده لخطاب النهضة في الفكر العربي الحديث، ونقده للخطاب الديني السائد في الإعلام. ودخل في أزمة الترقية التي تحولت إلى كرة يتصارع بها وحولها المتصارعون ضد بعضهم البعض على ساحة قضية نصر أبو زيد. وتم هدم بستان الزهور الذي كان يزرعه أبو زيد من باحثين في جامعة القاهرة، ثم رحيله من مصر شمالا، إلى أوروبا.
الرحيل إلى الشمال ربما قد عطل المعلم في خطاب نصر أبو زيد، لكن أبو زيد الباحث ظل حيا، وكانت معاناته أنه في أوروبا بجسمه وعقله، لكن الروح والهموم كانت في البلاد، فكان النهار للجامعة والليل وأحلامه لهموم الوطن. أصبح أبو زيد مركزا على الدراسات القرآنية وليس الدراسات الإسلامية بشكل عام. وبدأت رحلته لنقده لتصور المصحف على أنه نص، بالمعنى الحديث للكلمة، نص في الدراسات اللغوية الحديثة، المفهوم الذي أصل له هو ودافع عنه في كتابه «مفهوم النص» بدأ ينقده، وفي محاضرته لكرسي الحريات بالجامعة عام ألفين باللغة الإنجليزية بدأت عملية الانتقال من تصور المصحف على أنه نص إلى النظر إليه على أنه خطاب، وكان نصر متأثرا بإنجازات محمد النظرية حول «الظاهرة القرآنية»؛ إلا أنه تدارك «الترضيات» التي دائما كان يقدمها حتى لا يتصادم مع البنية الأرثوذكسية الدينية في دراساته. وفي محاضرة لنصر بدمشق في مئوية الكواكبي، ثم مداخلة في مؤتمر بباريس 2003م. تتجسد الانتقالة في محاضرته عند توليه كرسي ابن رشد بكلية الإنسانيات بجامعة أوترخت 2004م، ليتحدث عن القرآن كخطاب، ويسعى إلى نظرية تأويلية إسلامية جديدة للقرآن. وفي سنواته الخمس الأخيرة كان مشغولا بالبحث عن «رؤية العالم في القرآن». ومعظم جهوده في 15 عاما منذ رحل عن مصر حتى رحيله عنا. كانت كتاباته ومحاضراته في غالبها بالإنجليزية، وللأسف معظم باحثينا وحتى باحثي ماجستير ودكتوراه حين يدرسون خطاب نصر أبو زيد ما زالوا واقفين عند أبو زيد في منتصف التسعينيات، وعند قضية التفرقة بينه وبين زوجته، وخصوصا في «مفهوم النص»، في حين أن أفكاره تطورت إلى القرآن كخطابات، وإلى البحث عن رؤية العالم.
صفحه نامشخص