هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
ژانرها
المقولة الثالثة: لإبراهيم بن سيار النظام، وأنا شاب كتبت هذه المقولة فوق مكتبي في حجرتي الصغيرة جدا، في الشقة الصغيرة جدا التي كنت أعيش فيها مع أسرتي: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر» معرفة ليس لها أفق نهائي، أنت تبذل نفسك في طلب العلم . العلم هنا عند إبراهيم بن سيار النظام ليس هو العلم كما نقرؤه عند المحدثين؛ لأن كلمة «علم» في التراث الإسلامي تأخذ دلالتها ممن ينطقها، إلى ما ينتمي الشخص الذي يتحدث عن العلم، إلى أي جماعة؟ فحين يتحدث المتحدثون عن العلم يتحدثون عن علم الحديث، وهنا كثير من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن العلم التي رواها المحدثون هي تتحدث عن العلم بمعنى نقل الأحاديث، «يحمل هذا العلم من كل قوم عدوله» مثلا، يعني علم الحديث والأحاديث. لكن العلم هنا عند المعتزلة هو المعرفة بمعناها الواسع. العلم لا يعطيك بعضا منه إلا إذا تجردت له تجردا كليا، يعني ترهبنت. وإذا أعطيت نفسك كاملة للعلم فليس هذا ضمانا؛ لأن العلم يعطيك شيئا منه؛ لأن هناك ضمانات أخرى، ضمانات تحدث عنها المفكرون المسلمون هي ضمانات أخلاقية، ما يسمى بأخلاقيات العلم، ولا أريد أن أطيل في هذا.
هؤلاء هم المعتزلة أردت أن أقدمهم من خلال هذه الإضاءات.
ما هو السياق الذي يمكننا من فهم المعتزلة؟
لا بد في هذا السياق أن ننظر إلى البدايات والتطورات والنهايات. في البدء كان القرآن، كان الشعر يسبق القرآن؛ ولهذا قال النقاد؛ الأصمعي: «الشعر ديوان العرب، الشعر علم قوم لم يكن عندهم علم غيره»؛ بمعنى أن الشعر تجمعت فيه الحكمة، وتجمعت فيه عناصر الثقافة العربية، أو الأشكال الشعرية الأخرى مثل أقوال الكهان. وجاء القرآن بنفس الصيغة الشعرية، القرآن ليس شعرا، نعم. أنا أتحدث عن الشعرية وليس عن الشعر الآن، لغة القرآن ولغة كل النصوص المقدسة هي لغة شعرية بامتياز، استخدم القرآن أسلوب الشعر وحل محل الشعر. ومن هنا نرى هذا التوتر أو هذا الرفض؛ لأن العرب حين أدركوا، سواء الذين آمنوا به أو لم يؤمنوا، أدركوا هذه الطاقة، هذه القوة الشعرية، هذه القدرة على التأثير. وكل العبارات التي نسمعها إعجابا بالقرآن، حتى من قبل من لم يؤمنوا بالدعوة المحمدية، هي عبارات تعكس هذا الإحساس بالرهبة وقوة التأثير الشعري.
أصبح القرآن في البدء هو المعطى الأساسي، الذي تكون حول رسالته بعض الناس في مكة. ترابط هؤلاء البشر كونوا ما يشبه قبيلة، لكنها ليست قبيلة على نمط القبائل التي كانت قائمة، لا تربطها علاقات الدم والنسب، ولا تربطها علاقات القحطانية ... إلخ. هؤلاء الناس اجتمعوا حول هذا المفهوم، يعني يمكن أن نقول إنه تكونت قبيلة جديدة لكنها لا تقوم على نفس الأسس التي كانت تقوم عليها القبائل. رحلت هذه القبيلة إلى المدينة؛ لأن القبائل رفضتها، فتكونت بالتدريج دولة المدينة، هنا التحولات من البداوة، القبلية، القبيلة التي يمكن أن نطلق عليها
community
إلى دولة المدينة، كنص مؤسس يتحرك مع هذه الحركة. من هنا العلماء يميزون بين القرآن المكي والقرآن المدني، يميزون بينهما لا فقط على مستوى المضمون وإنما على مستوى الأسلوب، وعلى مستوى درجة الشعرية ودرجة النثرية ... إلخ.
من دولة المدينة، وهذه النقطة الثانية بدأ بناء الإمبراطورية، وقد بدأ بناء الإمبراطورية يتجسد في نقل العاصمة من المدينة إلى دمشق، ثم بعد ذلك من دمشق إلى بغداد، كما نعرف جميعا. لكن هذه النقلة من دولة المدينة إلى بناء المدينة اتسمت بالحروب الأهلية؛ الحروب الأهلية سواء نتحدث عن موقعة الجمل أو موقعة صفين. وفي الحروب الأهلية، بدأ جدل سياسي، وهذا الجدل السياسي أخذ تدريجيا طابعا دينيا.
مثلا علي بن أبي طالب، في موقعة صفين، يقول عن الأمويين وعن بني أمية: «قاتلناهم بالأمس على تنزيله، واليوم نقاتلهم على تأويله»، بمعنى قاتلناهم بالأمس كي يؤمنوا، يقصد بالطبع بني سفيان - بني أمية - قاتلناهم بالأمس على تنزيله، واليوم نقاتلهم على تأويله؛ لأن القضية هنا لم تعد حول الإيمان وإنما القضية هنا حول المعنى، أو هكذا فهمت. وهنا في فترة مبكرة جدا ربط علي بن أبي طالب بين التنزيل والتأويل، التأويل هو الوجه الآخر للتنزيل. في الحروب الأهلية بدأت الأسئلة، بدءا من سؤال الحاكم، من الحاكم ... إلخ من هذه الأسئلة، سنرى من هذه الأسئلة كيف بدأت بذور ما يسمى علم الكلام أو اللاهوت.
من عروبية الأمويين إلى أممية العباسيين، هذه هي النقلة الأخرى. الدولة الأموية دولة عروبية؛ لذلك لم يتحل أي خليفة أموي بأي لقب ديني، ليس عندهم ألقاب دينية، دائما فلان ابن فلان، وهذه سمة عربية. طبعا فيه تأثيرات فارسية، حين أقول عروبية الأمويين لا أعني تلك العروبية القائمة من البداوة. إنما الدولة العباسية قامت بشكل مغاير. قامت على أساس تكاتف قوى مختلفة، على إنهاء قوى من يسمون بالعلويين. في هذا الوقت لا نستطيع أن نتحدث عن الشيعة العلويين خاصة بعد مأساة مقتل الحسين تطورت الأسئلة، ومع تطور الأسئلة، برز علم الكلام وتطور، وهذا أيضا سنأتي إليه.
صفحه نامشخص