هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
ژانرها
موضوع المحاضرات التي سأقدمها كباحث مقيم هي مجموعة من المحاضرات المترابطة، وإن كانت كل محاضرة منها تستقل بموضوع، فهناك انفصال في الموضوع، لكنه تواصل في المنهج. هذه المحاضرات تقدم السيرة العلمية للباحث الذي يتحدث معكم، نبدأ اليوم بقضية التأويل اللاهوتي للقرآن كما قدمه المعتزلة.
فقد بدأت حياتي العلمية بدراسة قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، طبعا ما سأعرضه اليوم ليس هو نفسه ما طرحته في بحثي منذ أكثر من ربع قرن. إن ما سأطرحه اليوم هو تطور وعي وتطور تحليلي لأفكار المعتزلة. فكما تعلمون أننا جميعا نبدأ كباحثين صغار في السن، الحماس لمواضيعنا يجعلنا نتلبس بفكرهم، والمعتزلة لهم تأثيرهم الساحر، خاصة فيما يرتبط بالعقل وأهمية العقل؛ لذلك حين كتبت عن المعتزلة في البداية كنت معتزليا. ود. جابر عصفور نشر مقالة في ذلك الوقت سماها «الاعتزال الجديد»، طبعا لا أعتقد الآن أنني معتزلي،
2
لكن أنا أحاول أن أقدم تطور رؤيتي النقدية للفكر الاعتزالي اليوم.
عبد القاهر الجرجاني هو الذي صاغ نظرية المجاز وربطها بنظرية التأويل، وبالتالي سنجعل المحاضرة حول عبد القاهر وإنجازه اللغوي في المحاضرة الثانية، لكن هذه المحاضرة عن التأويل اللاهوتي في القرآن، وبعدها محاضرة عن عبد القاهر الجرجاني.
من هم المعتزلة؟ وأنا لا أريد أن آخذكم في دراسة تاريخية وتحليلية اشتقاق الاسم، أعتقد أن كل هذه المرويات تفسر الاسم ولا تفسر الظاهرة، وأنا أريد أن أقدم لكم المعتزلة من خلال إضاءات، من خلال مجموعة من الأقوال تكشف لكم من هؤلاء الناس.
المبدأ الأول عند المعتزلة، طبعا بعيدا عن المبادئ الخمسة المشهورة جدا، العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، ولا بد أن نتساءل؛ هذا المبدأ من أهم مبادئ التنوير ومن أهم مبادئ الفلسفة، كيف تأتي للعقل العربي في القرن الثامن والقرن التاسع أن يعلن هذا؟
السياق السوسيو/ثقافي هو الذي سيكشف لنا لماذا كان على المعتزلة الأوائل أن يؤكدوا هذه القسمة أن العقل يوجد في كل البشر؟ ربما لكي أضيء هذه القضية (أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس)، وأن المعتزلة والفكر الإسلامي قد بالغ أحيانا هنا في أهمية العقل؛ لا أقصد ب «بالغ» هنا أنهم رفعوا العقل على النقل؛ لأنه حين يقول البعض إنهم بالغوا في شأن العقل؛ لأن هذا البعض يريد أن يبالغ في شأن النقل. لا أقصد هذا؛ لأن مفهومهم للعقل يتجاوز مفهوم العقل كبنية ثقافية، تتطور مع البنية الثقافية. مفهوم العقل عندهم قد يكون مفهوما مطلقا، وأبرز مثال لهذا المفهوم المطلق لمفهوم العقل نجده في رائعة حي بن يقظان التي كتبها ابن طفيل، ذلك أن حي بن يقظان وحده بعيدا عن اللغة، وبعيدا عن الثقافة وعن المجتمع، توصل إلى أسمى آفاق المعرفة، الإنسان المتوحد. فيه دراسة أنا كتبتها عن هذه القصة الرمزية أسميته - العقل المعتزلي - العقل الخالص، طبعا ليس بالمعنى «الكانطي». العقل الخالص، أي العقل المبرأ من شبهة أنه ينتمي لسياق اجتماعي وسياق لغوي، أو إلى أي سياق. العقل الإنساني هنا يستطيع أن يصل إلى أسمى درجات المعرفة قبل أن يتعرف على الشرع، واللقاء الذي نجده في حي بن يقظان بين حي بن يقظان وبين «اسأل» الشخصية التي جاءت من الجزيرة الأخرى. لقاء مذهل ولا أعتقد في عصر الترقب - عصرنا - الذي تكلم عنه الدكتور يوسف. إن هذا اللقاء يمكن أن يكتب. هذا لقاء العقل الخالص، مع الوحي المؤول؛ لأن «أسال» كان يمثل تأويل الوحي، فقد كان هاربا من جزيرة ترفض التأويل.
المقولة الثانية: «قيل لأحد الحكماء، متى عقلت؟ قال أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أعطيها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل.» الجاحظ. هنا تعريف للعقل يضعه في قلب الحاجة وفي قلب المجتمع. ولا بد في دراسة المعتزلة أن نضع هذا التعريف «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وأن نرى أن الجاحظ لا يورد اسم الحكيم الذي يأخذ منه هذا القول، وإنما يربط العقل بالحاجة. إذا وضعنا هذا في لغة عصرنا الحديث؛ إنه يربط العقل بالسؤال، فإنه من خلال عمل السؤال ينبثق عمل العقل، يتحرك العقل لكي يبحث عن إجابة للسؤال. الطفل يبحث عن الثدي حين يجوع، هذه حاجة لكنها أيضا تعني بدرجة ما وجود بذرة عقلية عند الطفل، ربما يمكن تسميتها أسماء أخرى.
يعني فيه في فكر المعتزلة وفي الفكر الإسلامي بشكل عام، هذا الجانب في الإعلاء من شأن العقل حتى يصل إلى عقل خالص مجرد من قيود الزمان والمكان والمجتمع، وربط العقل بالحاجة الإنسانية، وبالتالي احتمال الإيمان بتطور العقل، العقل كصيرورة وليس معطى نهائيا.
صفحه نامشخص