قالت: «ليتني عرفت الإيمان يا صديقتي في شبابي لألجأ إليه اليوم! أما ولم أعرفه إذ ذاك فإنني أخجل من نفسي أن أستعيره اليوم لأجعل منه وسيلة سلواي وعزائي، ولو فعلت فمن ذا أخدع؟ أأخدع رب السموات، والمؤمنون يذكرون أنه يعلم السر وأخفى؟ أم أخدع نفسي وأتخذ من هذه العارية علالة أعالج بها سقم حياتي كما يخدع الطفل باللعبة يقدمها إليه أهله ليتسلى بها عن مرضه أو عن ألمه؟»
لم أدر بم أجيبها فصمت برهة جالت بخاطري في أثنائها حكمة لقاسم أمين: «أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته، فيفسد عليه لذتها، وينغص عليه شهوتها.» ودعاني تذكر هذه الكلمة للعدول بالحديث إلى أمور لا تثير نفسها، فسألتها: كيف تريد أن تقضي إقامتها في مصر؟ وأجابتني أنها تريد أن تقضي ستة أسابيع بأسوان، وأنها كانت تود لو نصطحب في هذه الرحلة، واعتذرت بأن عاداتنا القومية لا تجيز لحزينة مثلي أن تغادر المدينة التي تقيم بها، إلا أن تذهب لأداء فريضة دينية، عند ذلك سألتني عن ولدي وما صارا إليه، فذكرت لها أنهما تزوجا. قالت: «أسعدك الله بهما، وكم أتمنى اليوم لو كانت لي ابنة تجعل المستقبل أملا أرجوه، وتكون لي في هذا الحاضر عزاء وأنسا. لقد كنت صدر شبابي أعجب لبنات وطنك كيف يحز في كبدهن ألا ينجبن، وكنت أسائل نفسي: ما لهن يردن أن يحملن في الحياة أعباء ما أغناهن عن حملها؟! وكان عجبي يزداد حين أسمع الآباء؛ إذ يكفل الواحد منهم عدة أبناء، وينفق على كل ابن وابنة أضعاف ما أنفق عليه أبوه ليكون خيرا منه في المجتمع مكانا.
أما اليوم فإني أشعر بالحزن أن لا ولد لي كشعوري بالحزن لفقد زوجي، لقد أظلم ماضي بموت زوجي والأحبة من أهلي وأصدقائي، وأظلم مستقبلي لأنني لا أرى فيه طفلا يمت إلى أحشائي، وتبعث براءة ابتسامته إلى نفسي أجمل الرجاء في أن أسعد بسعادته، لم يبق لي إذن ماض ولا حاضر، ولم يبق لي إلا أن أجاهد الحياة بعزيمتي المفردة ما بقيت، وسأجاهدها وسألتمس في ظلمائها قبسا من نور، لا أدرى كيف أجده ولكني موقنة بأن العزم القوي الصادق قدير على كل شيء، بل قدير على المستحيل!»
لا أريد أن أقص هنا ما دار بيني وبين صاحبتي من حديث عن ذكريات شبابنا، فالحديث في أيام الكهولة عن ذكريات الشباب يوجب الحسرة، وحسبي - وأنا موشكة أن أختم قصتي - ما سطرت فيها مما أثار ألمي وتندى له جبيني، ثم حسبي أن أذكر أني زرت صاحبتي هذه وزارتني من بعد غير مرة، وأني رأيتها - برغم صلابة عزمها في مجالدة الحياة - تضعف أحيانا حتى تنحدر الدموع من عينيها حين تذكر أحبتها، وحين تذكر زوجها، وحين تذكر عقمها، وكم قبلت بعد كل زورة من هذه الزورات ظاهر يدي وباطنها شكرا لله على ما أنعم به علي من ولد، وما أبقى لي في كهولتي من صحة وحيوية لا تخجلان حين يذكر الشباب. أما الأحبة الذين انحدروا إلى ظلمات القبور فهم السابقون، ونحن اللاحقون، وشكرا لله أن أنعم علي في صباي وكهولتي بنعمة التقوى والإيمان؛ لأستغفر لهم الله، ولأتوب إليه لعله يشملهم ويشملني برحمته.
وكم أدخلت هذه المقارنة بين حظي وحظ هذه الألمانية من الطمأنينة إلى نفسي، وذكرتني بأن متاعب الحياة ومصائبها لا تحصى، فحق علينا أن نحمد الله، كلما رأينا حظنا من ذلك خيرا من حظ غيرنا.
وذكرت لي الألمانية حين زارتني للمرة الأخيرة أنها مسافرة إلى أسوان بعد ثلاثة أيام بقطار عربات النوم، وذهبت إليها قبيل الغروب من يوم سفرها أودعها فرأيتها في بهو الفندق الذي تقيم به، فندق سميراميس، ورأيت معها رجلا يتحدث إليها وكأن بينهما معرفة قديمة، فلما اقتربت منهما قام الرجل فأقبل نحوي مبتسما وهو يقول: هذه أنت! وحدقت به فإذا هو الألماني الذي عرفت بالأقصر منذ أكثر من عشرين سنة، ولا تزال تبدو عليه مع ذلك مخايل الفتوة؛ برغم بياض فوديه وبياض شعرات في شاربه وحاجبيه، واغتبطت لمرآه، وذكرت إعجابه بي كما ذكرت الهدية التي قدمها لي من صنع يده، وابتسمت حين حييته وقلت: «ألا ترى أن العالم ضيق الرقعة، وأن الزمن سريع الدوران؟!» قال وهو يبتسم كذلك: «كما أرى أن كهولتك لا تقل جاذبية عن شبابك، ألا تسافرين الليلة مع السفيرة؟ أنا مسافر في القطار الذي تسافر به، ولكني سأغادره بالأقصر أقضي بها أياما أستعيد بها أسعد ذكرياتي قبل أن أذهب إلى أسوان.» وأجبته: «أمتعكما الله بالسلامة، أما أنا فإني أعد منذ الآن عدتي للسفر إلى الحجاز.»
وجلست معه إلى السفيرة فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث، ونذكر خلاله ما بالأقصر من روائع الفن الفرعوني، وفيما نتحدث سمعنا ضجة إعجاب في شرفة الفندق، فأسرع الألماني يرى سببها، ثم نادانا قائلا: «هلما، إن مغرب الشمس اليوم بديع، وهي تلقي من أشعتها على صفحة النيل وعلى أشجار الجزيرة ما يحيلهما سحرا رائعا»، وقمنا في بطء؛ السفيرة لسمنتها وشيخوختها، وأنا لزهدي وتقواي، لكنا ما لبثنا حين رأينا هذا المنظر البديع أن وقفنا نستمتع بروعة جماله في مثل حماسة الشباب، وكأنا لم نر من قبل مثله على كثرة ما تنعم به مصر من مغارب الشمس الرائعة، فلما آن للشفق أن يولي، والليل أن يسحب على هذا المنظر البديع رداءه ، بدأ الناس يعودون إلى مجالسهم، وبدأت أستدير لأدخل بهو الفندق من جديد، لكني شعرت بيد ناعمة على كتفي، فنظرت فإذا صاحبتها صديقتي، وما لبثت حين استدرت إليها أحييها أن قالت: «أنت هنا! ذلك ما لم أكن أصدقه!» على أنها رأت صديقنا الألماني مقبلا نحونا وسرعان ما عرفته، وقالت: الآن فهمت، وسألتها: ماذا فهمت؟ ولم تجب، ولم يذكر الألماني شيئا عن سحر عينيها، وكأنه لم يفتن بهما في شبابها، فسرني ذلك منه، واعتبرته خير جواب على سوء ظنها، وجاءت السفيرة بخطاها المتثاقلة فقدمت إليها صديقتي، ثم قلت: أخشى أن يحول وجودي دون إلقائك النظرة الأخيرة على متاع سفرك، ووجهت الكلام إلى صديقتي قائلة: «لقد جئت أودع السفيرة في سفرها هذا المساء إلى أسوان، فألفيت صديقنا الألماني معها، فسررت لهذه المصادفة كسروري لمقابلتك الساعة مصادفة كذلك.»
واستأذنت السفيرة وصاحبنا الألماني، ورجوت لهما سفرا سعيدا، واستأذنت كذلك صديقتي، وعدت إلى بيتي، فلما خلوت إلى نفسي أثارت هذه الزيارة بمصادفاتها أمام خاطري منظرا تعدل روعته منظر مغيب الشمس الليلة على صفحة النيل وعلى أشجار الجزيرة، ذلك منظر مغيب الشمس الذي كنا نشهده ونحن في شرفة «ونتر بالاس» بالأقصر، ونرى النيل، ونرى هضاب «طيبة الأموات» تتابع عليها ألوان هذا المغيب، فتبعث إليهما من الجلال والجمال ما يثير في النفس أعظم الإعجاب. عند ذلك ذكرت الإنجليزية التي لقيتني عامين متتابعين بونتر بالاس، والتي أخذ المنظر بمجامع قلبها فحدثتني - وهي تحدق بي - عن إعجابها الذي لا حد له بالفراعنة وحضارتهم، وقلت في نفسي: من يدري؟ لعلها كانت بين الحاضرين في شرفة سميراميس الليلة، هذا إن لم تكن قد تخطت حدود عالمنا إلى عالم الأرواح.
وهاجت هذه الذكرى خواطر شبابي، فأردت كبتها فأويت إلى حجرة خلوتي، وقسرت نفسي على التفكير في جهاز سفري إلى الحجاز، فقد كنا إذ ذاك في منتصف ذي القعدة، ولم يكن باقيا على سفر الباخرة التي أبحر عليها غير أسبوعين اثنين، وإنني لأفكر في ذلك إذ دخلت علي ابنتي ومعها زوجها، وقالت بعد أن قبلتني: جئت يا أماه أزف إليك البشرى، لقد استجاب الله دعاءك أن تصبحي جدة لطفلنا المنتظر.
لم أشعر منذ عهد بعيد بمثل هذه السعادة التي شعرت بها لسماع هذه البشرى، وقمت إلى ابنتي أقبلها، وأقبل زوجها، وأنا في فيض من الغبطة أنساني كهولتي، وأنساني خلوة عبادتي، وفتح أمامي آفاقا من الأمل الحلو، وصور لناظري الطفل المرجو باسم الثغر والعينين، ورأيته يكبر بعناية أمه وعنايتي، فيملأ البيت على أبويه وعلي بشرا وحبورا، وخرجت من خلوتي ومعي ابنتي وزوجها، وذهبنا إلى غرفة نومي وقد عقد السرور لساني، فلما اطمأنت الأنفس قلت: كنت أفكر الساعة في جهاز سفري إلى الحجاز لأهب حجتي إلى عمكما، ولأقيم بالمدينة حتى عامنا المقبل لأحج كرة أخرى، وأهب حجتي لأبيك يا ابنتي، ثم أبقى بعد ذلك بالمدينة راجية أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها، وأدفن في ترابها، أما وقد وهبنا الله هذه النعمة التي بشرتني الساعة يا ابنتي بها، فسأعود بعد حجي وزيارتي هذا العام أنتظر إلى جوارك حتى أطمئن عليك وعلى وليدك، ثم أعود العام المقبل فأحج وفاء بنذري، وراحة لضميري، وعند الله حسن الثواب.
صفحه نامشخص