قلت: «فلنستعن بالله فيما يعصي عليك، فإذا جاءت ابنتي خاطبتها آملة أن أردها إلى صوابها لترد هي زوجها إلى صوابه.»
وذهبنا إلى الحرم وصلينا المغرب والعشاء وراء الإمام، ثم عدنا وعادت ابنتي معنا، فلما تناولنا طعامنا، واستقر بنا المجلس، قلت لها: لقد دار بظني أنك على خلاف مع زوجك إذ كنت أراك وعمك تنقبض أساريركما كلما جرى اسمه على لساني، وقد سألت عمك عن ذلك فأخبرني أنكما بلغ من أمركما أن خشي انفصالكما، وأن كاد ييأس من إصلاح ذات بينكما، ففيم تختلفان؟ قالت وهي تحبس دمعة ترقرقت في عينيها: «لقد أصبحت حياتنا لا تطاق يا أماه؛ إن زوجي يريد أن يستأثر بكل شيء داخل المنزل على حين لا أسأله أنا شيئا فيما خرج عن دائرة المنزل، إنه يريد أن يكون السيد المطاع، وأن تكون كلمته أمرا لا أناقشه فيه، فإذا أردت أن أبدي له ملاحظة عن لون ثيابه أو زيه قال: ما لك أنت وذاك؟ هي ثيابي أنا، متناسيا أن ما يوجه إلى ثيابه من نقد موجه إلى ذوقي وحسن عنايتي، وهو يريد مع ذلك أن يكون صاحب الرأي في ثيابي، في لونها وقماشها وتفصيلها، وأنت يا أماه تعرفين أن الرجال لا يعلمون شيئا عن ثياب النساء، فالنساء يغيرن أزياءهن، والرجال معجبون دائما بكل ما يصنعن، حسب المرأة أن تملق غرور الرجل فتسأله رأيه في ثوبها ليبدي غاية الإعجاب بالثوب وبها، وهذا وإن أوهمت المرأة زوجها بأنها تستشيره قبل أن تختار القماش وطراز الثوب، وبلغ من أمر زوجي معي حين ثرت باستبداده أن قال يوما: «إنني لا أريد أن تصيري إلى ما صارت إليه أمك!» عند ذلك رأيت الكأس قد طفحت، وأنه وقد تخطاني إليك اليوم، فإنه سيتخطاك إلى أبي غدا، وإذا لم تقم الحياة بين الزوجين على تبادل الاحترام فلا خير فيها، فالحب الذي يتجاوز الاحترام لا يكفي وحده لاتصال الحياة بين الزوجين.»
شعرت بأن ابنتي ذكرت إشارة زوجها إلى مصيري لتثير حماستي، لكنني كنت أشد حرصا على مصيرها هي؛ لذلك سارعت فأجبتها: «لا تحسبي رجلا يستطيع أن يستبد بامرأة إلا أن يكون وحشا كاسرا، أو تكون المرأة عنيفة فقدت كل معاني الأنوثة، أو مغرورة عبثت بها أنانيتها فلم يبق لزوجها إلا أن يفرض وجوده عليها.»
قالت ابنتي: «فأشيري علي يا أماه، أنت تعلمين أنني أحب زوجي وأنه يحبني، لكنني أرى أن مشاركته في الصغير والجليل من الشئون فقدان ثقة بي، ولشد ما أخشى أن أبادله عدم الثقة فيكون لذلك من سوء الأثر في حياتنا ما أريد جهد طاقتي تجنبه.»
قلت: «فاسمعي يا صغيرتي، لا تطلبي إلى زوجك أن يثق بك ثقة عمياء، وهو لن يطلب إليك مثل هذه الثقة به، أنتما شريكان في كل شيء، ومن حق الشريك أن يحاسب شريكه، لقد خبرت هذا الأمر وبلوت من مره علقما، فثقة أبيك العمياء بي هي التي أضلتني، وسبقه إياي إلى رغباتي هو الذي جر عليك وعلى أخيك أبلغ الضرر، فهو لم يكن يراجعني أو يصدني عن شيء، وقد كنت معرضة للخطأ فيه، حسبه مني أنه كان يحبني، وكنت أول سني زواجنا أحبه، وأنني لم أكن أسأله عن شيء في عمله؛ لأنني لم أكن أعرف ألف الطب ولا باءه، وكان ذلك دافعي يومئذ لأرغب إليه في الانتقال من الطب إلى السلك السياسي؛ ليكون سلطاني أفسح مدى، لكنه أبى وأصر على إبائه، عند ذلك بدأ حبي إياه يضطرب في نفسي، والحب إذا اضطرب فمصيره إلى الاحتضار والموت، وما قيمة حب لا مظهر له إلا أن يقول الرجل للمرأة، أو تقول هي له: إنني أحبك، وألا يلتقيا إلا لإنجاب ذريتهما، وألا يحاول كل منهما أن يكمل نقص صاحبه ليسمو به إلى ما يقربه من الكمال، ولو أن أباك راجعني بدء زوجيتنا فيما يخشى أن أتعرض للخطأ فيه، وردني برفق لا يعرف العنف الذي كنت أراجعه به بعد أن فتر حبي له، لما بلغت الأمور بيننا إلى ما تعلمين من انفصالنا، فلا تبالغي يا صغيرتي إذ تتحدثين عن حرص زوجك على الاستئثار بشئونك، بل تسامحا وتشاورا، وتشاركا في كل ما تستطيعان فيه تسامحا أو مشورة أو اشتراكا، ينتقل ذلك بحبكما من القلب إلى الروح، ولا حب كالحب بالروح بقاء ودواما.»
أحسنت ابنتي الإنصات إلى حديثي، فلما فرغت منه قالت، وعلى ثغرها ابتسامة تشوبها السخرية: «سامحيني يا أماه إذا قلت إنك لم تعرفي الرجال بعد برغم خبرتك الطويلة، إنهم لا يكفيهم أن يستأثروا بأجسامنا، فهم يريدون أن يستأثروا بقلوبنا وعقولنا وأذواقنا وكل شيء في وجودنا، إنهم لا حد لأنانيتهم، وهم أشد حرصا على أن يستأثروا بكل ذلك من المرأة ما كانوا أشد لها حبا، وحرصهم يتجاوز كل حد إذا بلغ حبهم العبادة، فإذا لم تصدهم المرأة عن غيهم في الاستئثار المطلق بها فني أمامهم وجودها، وأصبحت أمة رق لهم، وهذا ما لا أرضاه ولن أرضاه مخافة الغد، وما أخشاه من مذلتي فيه.»
وابتسمت كما ابتسمت وقلت: «أنت على حق يا صغيرتي، أنا لم أعرف الرجال بعد كما عرفتهم أنت، ولكنما عرفت أن الرجل ضعيف عنيف، وأن المرأة ضعيفة قادرة، فالرجل إذا استثير جابه الخطر ولو كان في مجابهة الخطر حتفه، وجابهه مضطرب الروية زائغ البصر، غير مؤمن بسلاح غير سلاح العنف. أما المرأة فالعنف ألد أعدائها، هي حمامة السلام، فإذا نصبت نفسها للقتال فويل لها وويل للسلام، وقدرة المرأة في ذكاء أنوثتها، هذه الأنوثة الذكية هي السلاح الحاسم الذي تستطيع به كل شيء، وتستطيع به أن تملك عقل الرجل وقلبه وروحه وكل حواسه، والأنوثة الذكية تأنف العنف في كل مظاهره؛ لأنها تدرك ما للرفق والمحبة من سلطان قاهر يعنو له العنف ويتلاشى أمامه. بالرفق والمحبة تجعل المرأة هزيمتها نصرا، وإذعانها أكبر من النصر، فعالجي يا صغيرتي زوجك بذكاء أنوثتك، وأنا كفيلة لك بأنه سيكون طوع إرادتك في كل ما تطلبين.»
قالت ابنتي في استسلام مصطنع: «سأحاول يا أماه، ولعلي أجد في حياتك درسا لي، وإن كنت أخشى أن تغلبني كبريائي يوما فلا أبلغ ما يشتد حرصي اليوم عليه.»
وقاطعتها في عنف قائلة: «تعسا لباطل الكبرياء الذي ينفث فينا سموم الغرور، إنه هو الذي يهزمنا ويذلنا حين يكون النصر في قبضة يدنا، لا شيء يا ابنتي خير من التواضع ما لم ينزل بصاحبه إلى هوان المذلة، وإنني لأدعو لك من كل قلبي أن تبلغ أنوثتك من الذكاء ما يفتح لك بالتواضع أبواب السعادة والهناء.»
قالت: «ومتى تحضرين إلى القاهرة يا أماه لتسددي من خطاي ما أخشى أن يتعثر، ألا تعودين مع عمي ومعي؟»
صفحه نامشخص