وأقبل الصبيان فأخذت أقبلهما كأنهما كانا في سفر طويل ثم عادا اليوم منه، أو كأنما كنت فقدتهما ثم لقيتهما، وشعر الصبيان - برغم عبرات جادت بها عيناي - أنني فرحة مستبشرة، فغمراني بقبلاتهما، وأمسكا بيدي يعبثان في نشوة وطرب، ويدعوانني بأعذب الأسماء التي تمر بخاطرهما، وكذلك عمت البيت كله نشوة لم تكن المربية أقلنا غبطة بها واشتراكا فيها.
ومرت الأيام وهذه الغبطة تملأ البيت بشرا وحبورا، وأنا لا أفكر في شيء إلا فيما غمرنا من نعمة الرضا، وأحسب أن أيام الهموم قد ابتلعها اليم في جوفه، وأن المستقبل كله سيكون معطرا بشذا السعادة، بعد أن بدأت أزاهيره تتفتح عن الأمل الباسم.
الفصل التاسع
لم يكن لي بد من أن أشكر مطلقي على ما أسدى إلي من يد وطوق عنقي به من كريم مروءته ونبله، ولم أكن أستطيع أن أذهب إليه بنفسي وأنا في عصمة صديقنا، وأنا معرضة إن فعلت أن ألقى عنده صديقتي فأضطر للفرار من وجهها فلا يحمد الرجل أدبي، وأنا لا أملك في هذه الحال إلا الفرار، لهذا رأيت أن يكون ولدانا رسولي إليه عني وعن نفسيهما، فلما كان الموعد الذي يذهبان إليه فيه كل أسبوع علمت ابنتي ما تقول لأبيها، وجعلتها تكرره حتى حفظته عن ظهر قلبها، فلما عاد الصبيان من عند أبيهما ذكرت لي ابنتي أن أباها بلغ منه التأثر غايته حين قبلت يده وقالت له: «إن والدتي تشكر لك برك ومروءتك من أعماق قلبها»، وأنه ازداد تأثرا حين قبلت هي وقبل أخوها يديه وقالا له معا: «ونحن كلانا نشكر حنانك وعطفك»، فقد أجلسهما عند ذلك إلى جانبه وأوسعهما تقبيلا، ولم يستطع وعبراته تنهمل من عينيه أن يقول كلمة واحدة.
تعاقبت الأيام بعد ذلك وأنا في غبطة بما ظفرت به من بقاء طفلي في كنفي وتحت جناحي، فلقد كنت أراهما نهاري، فإذا جاء موعد نومهما ذهبت إلى غرفتهما أتحسسهما بيدي أريد أن أطمئن اطمئنانا ماديا إلى أنهما بجانبي وتحت سقفي، كأنما كنت أخشى أن يختطفهما أثيم فيحرمني متاع عيشي وموجب حياتي.
وفعل الزمن فعله فهدأت بمرور الأسابيع نفسي، وعدت سابق سيرتي، لكن الزمن لا يرضيه أن يبقى مطمئن في طمأنينته ولا سعيد في سعادته، فقد عاد الصبيان من عند أبيهما يوما فذكرا أنهما رأيا هناك صديقتي ومعها كبرى بناتها، وأنها نظرت إليهما وقالت - توجه الكلام إلى أبيهما: «ما شاء الله! لقد كبر الصبيان وترعرعا.» لقد انتفض جسمي كله حين سمعت ما ذكرا؛ أكان ذلك لأنني خشيت أن تحسدهما عيناها الجميلتان؟ أم أن وجودها مع ابنتها عند مطلقي أثار نفسي وحرك ما كاد يندمل من شجوني؟ لست أدري، لكن عاطفة الشكر لمطلقي بدأت من هذه اللحظة تضطرب في نفسي، وبدأت أشعر بأنني لم أخلق لأكون يوما على وفاق معه.
وأخذ ذهني يفيق من السبات المسعد الذي كان قد استراح إليه، وجعلني أستعيد ماضي حياتنا، وآخر أحاديثه عني للرسول الذي كان سفيره إلي وسفيري إليه، ولقد وقفت عند كلمة قالها لهذا الرسول وقالها قبل ذلك لي: إنه لولا غروري وغيرتي لما جررت عليه وعلى نفسي وعلى ولدينا ما أصابنا من المتاعب، وإنه مع ذلك لا يزال يحبني ولن يحب غيري، وابتسمت حين استعدت هذه العبارة وخيل إلي أنه لولا هذا الغرور وهذه الغيرة لما أحبني، ولما ظل متشبثا بحبي برغم ما أذقته من أهوال، لكن ابتسامتي لم تلبث على شفتي غير لحظة ثم تلاشت؛ لأن طيف صديقتي تعرض أمامي وكأنها تقول: «لا تخدعي نفسك، فما يدور بخاطرك الساعة ليس إلا أثرا من آثار غرورك وغيرتك.» أزعجني هذا الطائف ودفعني لأن أتساءل: «إذا كان مطلقي لا يزال يحبني وإن لم أحبه فما تردد هذه المرأة عليه؟ وما استماعه لها حتى كاد يتردد في إجابة مطلبي بقاء ولدي في كنفي ورعايتي؟!»
واضطربت في نفسي عاطفة الشكر لمطلقي حتى بلغ من اضطرابها أن عدت ألعن يوم تزوجنا، وأسأل نفسي كيف استطعت حينذاك أن أحبه، وكيف استطعت أن أعيش معه السنين التي عشناها جبنا إلى جنب، ولم يكن قد جد ما يحرك هذا الشعور عندي إلا إحساس بأنه يخدعني حين يذكر أنه لا يزال يحبني وإن كنت لا أحبه، فلو كان ما يقوله صحيحا لأقصى عنه صديقتي، ولما سمح لها بزيارته منفردة أو مع ابنتها، ولا سمح لها بأن تتدخل في أخص شئونه. لعلي كنت ظالمة، أو على الأقل كنت مبالغة في ثورتي هذه برجل أحسن إلي ولا يزال يظهر لي خالص الود بإحسان معاملته ولديه، ولعلي كنت يومئذ لا أجد جوابا إذا سألني سائل: وماذا تقولين إذا تزوج مطلقك صديقتك كما تزوجت أنت صديقه؟ وهلا يكون يومئذ قد جزاك أعدل جزاء؟ بل لقد كان حقا أن أذكر أنا ذلك وإن لم يسألني عنه أحد، لكني لم أفعل، وبقي طيف صديقتي يتبدى الحين بعد الحين أمامي ليزيد ثورتي احتداما، وليزيدني حنقا على الرجل ومقتا له وغضبا منه.
على أنني لم أكن أستطيع أن أجاهر بثورتي هذه أو أبرز لها في الخارج أثرا، وهل تراني كنت أستطيع حجب ولديه عنه إعلانا لغضبي؟ إنه لم يقصر قط في حقهما، فلو أنني فعلت لاتهمني الناس جميعا بالجحود وإنكار الجميل، ولم يبق بيني وبينه غير الولدين، فلأكتم إذن حفيظتي في قلبي حتى إذا حانت الفرصة لإظهار هذه الحفيظة من غير أن يلومني الناس لم أتركها وانتهزتها.
لقد كنت أعلم أنه عسير أن تحين هذه الفرصة، فلم يكن الرجل يقصر في حق الولدين ولا في نفقتهما، وكانا كلما ذهبا إليه أغدق عليهما من فيض حنانه وبره ما يجعلهما يعودان إلي ولساناهما يلهجان بالثناء عليه ومحبته، فلا بد لي من أن أصبر، والصبر وحده يحسم الأحداث والنوب.
صفحه نامشخص