كدت أشفق عليه وأضعف لضعفه، بل كدت أتلطف معه وأعتذر عما بدر مني أمس له، ولكني ما لبثت أن رأيت طيف صديقتي يتبدى في خيالي، ويجفف في عيني عبرات كانت توشك أن تنحدر، عند ذلك سحبت يدي من يده، واستويت جالسة في سريري، ونظرت إليه بعينين انقلب حنانهما حزما، بل قسوة، وقلت: «يرحمك الله يا صديقي! لقد كدت تمس قلبي كما لم تمسسه من قبل قط، فما عهدتك في كل ما خلا من سني حياتنا تتقن التمثيل المسرحي، وتستطيع أن تتلاعب بالعواطف، أما اليوم فما أبرعك ممثلا تتقن الأدوار المتناقضة، فأنت «روميو» وأنت «عطيل» في وقت معا! أتراك لعب بك إغرائي وأنا في هذا السرير فانتقلت من التهديد الذي حفظت دوره قبل أن تحضر إلي، إلى الاستعطاف وإلى الحديث عن الهوى والغرام؟! وإني لأسأل نفسي ولك هذه المقدرة: أي دور تمثل حين تلقى صديقتي؟ أحسبك حين تراها لا يبقى أمامك من الوجود كله سواها، فهي أمامك الشمس والقمر، ولعلها في نظرك أبهى من الشمس والقمر.
أيقظته عبارتي الأخيرة فنظر إلي بعينين فيهما عطف وفيهما حزم، وقال: «حسبك الله يا ظالمة، فأنت تعلمين أني لو أردت أن أتزوج صديقتك بعد وفاة زوجها لما عزت نفسها علي، وأنني لو أردت أن أتزوجها بعد أن بدا اليأس لها من صديقنا لاستجابت في غير تردد، وأنني لو أردت أن أتزوجها اليوم أو غدا لقبلت في اغتباط أي اغتباط، لكني لم أفكر قط في أن أتزوجها، ولن أفكر في ذلك، فهي لي منذ مات زوجها بمثابة الأخت المحرمة علي، وأنت تعلمين أني أعرفها وأعرف أسرتها منذ بدأت أمارس مهنة الطب، ولعلي فكرت في أن أتزوجها قبل أن أعرفك، وأن يكون بيننا من الود ما أدى إلى زواجنا، ولم أجرب عليها من يومئذ إلى اليوم ما يمس شرفها وعفافها برغم ما تتهم به من خفة، وبرغم جمالها الفاتن، فبالله عليك لا تسرفي في تصوير عواطفي نحوها، فعواطفي كلها لك، وليس بيني وبين صديقتك إلا الإخاء يدفعني إليه سابق معرفتي بها وبأسرتها وبزوجها.»
دهشت لهذا الدفاع الحار عن امرأة قاطعتني، وأذاعت في كل مجتمعات القاهرة ما أذاعت عني، فلو أن عواطف زوجي كانت كلها لي كما يقول لغضب لي من صديقتي، ولما ذكر جمالها الفاتن وريقه يتحلب، وكأنما يريد أن يطير إليها ليستمتع بنظرة من عينيها الساحرتين، لذلك قلت له: «إنك يا صديقي لست ممثلا بارعا وكفى، بل أنت محام بارع كذلك، وكنت أود أن تكون قضيتي أقرب إلى قلبك من قضية صديقتي، فتدفع تخرصاتها عني في كل مجالسها بهذه الحماسة التي تدافع بها عن عفافها وشرفها.»
وبعد هنيهة أردفت: «ولو أنني أردت أن أدافع عن صديقنا - كما تدافع أنت عن صديقتي - لما أعوزتني الحجة الصادقة، فهو لم يخنك كما تزعم، ولم يحاول التسلل إلى قلبي، ولكني أشعر بأن حديثنا الليلة طال، وأن من الخير أن تنسحب أنت إلى غرفتك، وأن تدعني أستريح في مخدعي.»
وابتسم هو وقد بدا عليه شيء من الاطمئنان، أو من الإذعان، وأطفأت أنا مصابيح الغرفة، وحاولت أن أنام فذهبت محاولتي عبثا، فقد أخذت أستعيد الحديث الذي دار بيني وبين زوجي كلمة كلمة وحرفا حرفا، ثم أخذت أفكر كيف أواجه هذا الموقف؛ فلو أن هذا الحديث جرى بيننا قبل أن أوجه إليه في وجود أصدقائنا تلك الإهانة التي أدمت قلبه ودفعته لما فعل لكان لي فيه رأي، أما وقد شعر بأني أتعمد إحراجه، فأراد بما فعل أن يفسد خطتي، فلن أمكنه مما أراد، لقد تحطم ما بيننا منذ عهد طويل، وهو قد واجهني خلال هذا العهد كله بجمود يدل على أنه لا يحس نحوي بأي عاطفة، فمجيئه اليوم بعد اللطمة القاسية التي نالته مني يتحدث عن قلبه وحبه ليس إلا أحبولة يتوهم بها القدرة على تغيير ما استقر عليه عزمي، وذلك ما لا سبيل إليه.
وفكرت فيما عساي أفعل في هذا الموقف الذي خلقه هو بأسلوب لا يخلو من براعة، واستقر بي الرأي بعد طول الروية على أن أكتب إليه خطابا يكون عريضة اتهام، وإنذارا نهائيا في الوقت نفسه، وأردت بالفعل أن أبدأ الكتابة رغم تقدم الليل، ولكني شعرت بالجهد، فأطفأت الأنوار من جديد ولزمت سريري.
وكان النهار ضحى حين استيقظت في الغداة أجمع أعصابي المهدمة، وسألت عن زوجي فإذا هو قد استيقظ وتناول فطوره وخرج كعادته إلى عمله، وشعرت بالضيق يكاد يخنقني، وبالحاجة إلى الهواء أتنفسه، وكأن المنزل على سعته لم تبق فيه أثارة من هواء؛ ولذا قمت فتناولت فنجانا من اللبن والقهوة، واكتفيت به عن كل فطور، وخرجت إلى الشوارع ألتمس فيها متنفسا، وجعلت أسير حتى انتهيت إلى حدائق الجزيرة، هنالك وقفت على شاطئ النيل أستنشق الهواء ملء رئتي أسترد به نشاطي وهدوء أعصابي، فلما ردت إلي حيويتي أخذت أفكر فيما حدث أمس، وفي الخطاب الذي أكتبه إلى زوجي.
ولم تطاوعني نفسي على العودة إلى المنزل ساعة الظهيرة، وتابعت السير حتى بلغت حديقة الحيوان، فدخلتها وذهبت إلى جزيرة الشاي، وتناولت فيها طعام الغداء، جالسة إلى مائدة على حافة بحيرتها الصغيرة، ونظري كله إلى الماء، وإلى الطيور الجميلة التي تعوم فيه، وفكري مشتت يحاول أن يجمع ما يحويه خطابي إلى زوجي، فلما كانت ساعة الشاي أقبل قوم وعليهم سيما المرح، وفي أصواتهم رنين المسرة ، وأفسدت ضجتهم الطروب علي خلوتي، فغادرت مكاني وخرجت من الحديقة، وناديت سيارة أقلتني إلى المنزل.
فلما احتواني المنزل عاد الضيق يأخذ بخناقي، فذهبت إلى غرفتي، وجلست إلى نضد زينتي، وهيأت منه مكتبا، وأخذت أدون ما أريد أن أكتبه لزوجي، لقد كانت الكتابة تستعصي علي حين ألجأ إلى الحجة والمنطق، فإذا أرخيت العنان لعاطفتي وما تتنفس عنه اندفع قلمي لا يكبو ولا يتعثر، وسطرت بضع صفحات أعدت قراءتها فإذا هي ليست عريضة اتهام وكفى، بل تأنيبا موجعا في لهجة مقذعة لا تتفق ومألوف رزانتي واتزاني، ولا مع الهدوء الذي حاول زوجي به أن يصوغ كلامه لي، لذلك أعدت الكتابة وحاولت التخفيف من حدتي، لكني لم أستطع أن أكون هادئة ولا موجزة، بل كتبت عشرات من الصحف كانت سطورها تتدافع إلى قلمي، ولا تكاد يدي تجاريها في سرعة تدفقها لتدون كل كلمة من كلماتها، فلما فرغت من تدوين الكتاب وراجعته بعثت به إليه، وأقمت أنتظر النتيجة التي يرتبها عليه.
ولست أريد أن أنقل نص ذلك الكتاب إلى هذه القصة، وأنا كلما تلوته بعد السنين التي انقضت على كتابته خجلت وتولتني الدهشة كيف استطعت أن أفرغ كل ما فيه من قحة وإقذاع! وحسبي أن أذكر أنني قلت فيه إنني لم أشعر بالسعادة منذ زواجنا يوما من الأيام، وإن مسلكه فيما ادعاه من معاونة صديقتي للحصول على ميراثها وميراث أبنائها كان معيبا دنيئا، وإنه أهملني وأهمل ولدينا وكأننا من سقط المتاع، وإنه عاملني كما لو كنت خادمة أبيه، وإنه كان يغتبط بسفري إلى أوروبا ليخلو له الجو ليندفع في تيار أهوائه ومفاسده، وإنه ضيق الفكر ريفي العقلية إلى الحد الذي جعله يقول لي في آخر حديث له إن هذا البيت بيته، وإنني أقيم فيه بأمره وإذنه وتسامحه. وذكرت أنني لن أبقى في هذا البيت، ولن يعرف هو بعد ذلك مقري، وأنه يستطيع إن شاء أن يطلبني إلى بيت الطاعة، وإنني أتحداه أن يفعل ليتيح لي فرصة الدفاع أمام القضاء عن نفسي وعن حياتي التي حطمها، ولأتمكن بعد ذلك أن أطلب الانفصال عنه، ويومئذ لن يتردد قاض في الحكم لي، ثم يعلم الناس كم قاسيت في سبيل المحافظة على سمعته وسمعتي، لا حبا إياه ولا حرصا على الحياة معه، لكن من أجل طفلينا حتى لا يصيبهما رشاش من مسلك أبيهما المشين.
صفحه نامشخص