ولم أكن أستطيع أن أشكوه إلا لصديقنا، فزوجي اليوم طبيب مشهود لطبه بين زملائه وبين مرضاه، ولو أنني شكوته إلى أبي لرماني بالجنون، ولنسب جنوني إلى خلة ورثتها من أمي، فذلك دأب الرجال ينسبون فضائل ذريتهم إلى ما ورثوه منهم، وينسبون عيوبها إلى ما ورثوه من أمهاتهم؛ ذلك شأنهم ولو كانت الأم لا تزال معهم وكانوا لا يزالون يحبونها، ما بالك بهم إذا انفصلت الأم عنهم أو ماتت وحل غيرها محلها عندهم؟!
والآن ماذا أفعل إزاء ذلك الجمود الذي يلقاني به زوجي؟ إنه لا يزيد على أن يسألني عن حاجاتي وحاجات أطفالي، فإذا ذكرتها قضاها أو أتاح لي فرصة قضائها، لكنه لم يعن يوما بثوب جديد أرتديه، ولا بقبعة ألبسها، ولا بحذاء أنتعله، ولم يقف أمام شيء من ذلك مثنيا في إعجاب، وهو إنما يتحرك بعض الشيء للجديد الذي يلبسه الطفلان، هذا وما حباني به القدر من جاذبية استهوت كثيرين لا يحركه نحوي، ولا يثير غيرته علي، وقد حاولت أن أحرك هذه الغيرة في نفسه في أثناء مرحنا في الليالي القمرية التي نعمنا بها مع أصدقائنا الذوات فلم أنجح، أتراني انهزمت، ويجب أن ألقي سلاحي؟! لكنه لم يجرحني يوما بكلمة ولم يغض يوما عن تلبية رغباتي ما استطاع، ولم تتغير معاملته لي قط، ولم أعلم من صلاته بصديقتي ما يثير شبهاتي، وإن أثار غيرتي.
ولم يكن صديقنا يزيد حين أذكر له ما يعنيني من خلجات نفسي على أن يسخر مني ومن نزعاتي الخيالية نحو رجل لم يهبه القدر ذرة من نعمة الخيال، وانتهى بي الأمر إلى أن أستسلم للمقادير، وأن أذعن لقضاء الله في.
وأقبل الصيف فقضى زوجي جانبا منه في ربوع لبنان، وبقيت أنا وأطفالي بالقاهرة، والعجيب أنه كان يحدثني كل يوم بالتليفون من مصيفه يسأل عن صحتنا وحاجاتنا، مما يشهد بشديد عنايته براحتنا وطمأنينتنا، وعظيم حرصه على أن يطمئن علينا، أم تلك نعرة الفلاح يريد أن يتظاهر أمام أصحابه الذين يصطاف معهم بأنه أكثرهم جميعا برا بأهله وعطفا عليهم؟
وبقيت في حيرتي، تضيق نفسي أحيانا، وتدفعني إلى الثورة على ما أنا فيه، وأستسلم أحيانا أخرى إشفاقا على طفلي أن يصيبهما من ثورتي ما يفسد حياتهما. وأفكر في أثناء ثورتي وأثناء استسلامي في هذا القضاء الذي نزل بي، وفرضته الأقدار علي، والذي جعلني أضطرب في حياتي ولا أعرف لها مستقرا.
وهداني تفكيري آخر الأمر إلى خطة رسمتها، واعتزمت تنفيذها، فما الذي يمسكني في هذا الوضع؟ هو شعوري بأنه مفروض علي ولا فكاك لي منه، ومبعث هذا الشعور حرصي على مستقبل الطفلين، فلو أنني تخلصت من هذا الشعور واسترددت استقلالي لاستطعت أن أصور حياتي على ما أريد، وأن أطرح كل ما أضيق به، فكيف أبلغ هذه الغاية، وأحقق هذا الغرض؟
فكرت أولا وقبل كل شيء في أمر الطفلين، وقررت أني لن أتخلى بحال عنهما وأدعهما لأي سبب لأبيهما، هما منعاني من الانتحار مخافة يتمهما، فليس يجوز أن أراهما بعيني يتيمي الأم وأنا على قيد الحياة؛ إنهما يتقدمان الآن من الطفولة إلى الصبا، وهما مبعث سروري ومصدر ما أشعر به أحيانا من السعادة، فمن الحمق الذي لا حمق بعده أن أحرم نفسي منهما، وأحرمهما من حناني وعطفي، وهما لن يشعرا قط بالحرمان من أبيهما، فعمله يشغله عنهما، وهو قليلا ما يراهما، لا بد لي إذن من أن أحتفظ بهما، وأن أبذل في سبيل ذلك كل ما أستطيع بذله.
ثم يجب أن أوفر من المال كل ما أستطيع ليكون سندي في تنفيذ خطتي؛ ولهذا فتحت لنفسي حسابا خاصا في البنك، جعلت أودع فيه كل ما يصل إلي من والدي، وكل ما أقتصده من نفقات المنزل ومن أي مصدر أحصل عليه لي وللطفلين، قد لا يكون ذلك وفيرا، وقد يحتاج اقتصاد مبلغ ذي قيمة إلى سنوات، لكن الخطة التي رسمتها للنضال كان أساسها الصبر والاحتمال، فليس يسيرا أن ينجح في نضال من ليس يستطيع الصبر، وأنا بعد أدافع عن حريتي وعن كرامتي، وذلك نضال لا أذكر أن مصرية سبقتني إليه، بل قل أن سبقتني إليه في غير مصر امرأة يحيط بها وبمجتمعها ما يحيط بي من ظروف.
وكانت الخطوات الأولى لتنفيذ هذه الخطة بطيئة بالفعل، انقضت الشهور الأولى ولم أستطع أن أقتصد شيئا يذكر، وشعرت إثر انقضائها بشيء من اليأس في نجاح ما اعتزمت، وبدا لي أني لو سلكت خطة أخرى، فهاجمت زوجي في سمعته الطيبة - وبخاصة فيما يتصل بعنايته بصديقتي وبميراث أطفالها - فقد أختصر الطريق إلى غايتي، ولعلي أشرت إلى شيء من هذا في حديث جرى بيني وبينه في نوبة غضب لم أملك معها صوابي، فقد جاءني صديقنا يوما متجهما، فلما سألته عن سبب تجهمه قال: «هو هذا الجنون الذي قام برأسك وجعلك تهددين زوجك بتحطيم سمعته، بل بتحطيم حياته، أولا تعلمين أن ما يمس زوجك يمس طفليك في صميم حياتهما؟ إنهما ابناه رضيت أنت أم أبيت، فإذا حاولت أن تشوهي سمعته أو تحطمي حياته فاعلمي أن الحجر الذي تقذفينه يصيبهما قبل أن يصيبه، ولن يقول الناس يومئذ إنك زوج غاضبة أو عاقة، بل سيقولون إنك أم شريرة، وقد يقولون أكثر من هذا، وقد جئتك الآن لتقسمي أمامي بحياة طفليك أنك لن تجازفي بشيء من هذا الجنون، الذي يضر بك قبل أن يضر بأي إنسان آخر، ولن أقبل يمينا أخرى غير حياة هذين الطفلين العزيزين عليك، فأنا أعلم أنهما أعز عليك حتى من نفسك.»
ووجمت برهة غير قصيرة تردد في أثنائها أمام خيالي طيف الطفلين؛ فانحدرت من عيني دمعة قلت بعدها: «أعدك بألا أفعل، وأرجوك في ألا تلح علي في هذا القسم الذي تطلب، فلن أستطيع أن أقسمه، لكن هذا الوعد الذي بذلته لك وعد قطعته ولن أخل به إلا أن يكون ذلك بعلم منك.»
صفحه نامشخص