الإهداء
رسالة
لمحة تاريخية
طعبروس
حفنة ريح
إلى المخرج
الإهداء
رسالة
لمحة تاريخية
طعبروس
صفحه نامشخص
حفنة ريح
إلى المخرج
حفنة ريح
حفنة ريح
تأليف
سعيد تقي الدين
الإهداء
إلى التي نادت بي يوم كنت كسيحا: «هيا انهض فاستبق الناس فأنت في ميدان الحياة مجل.»
إلى التي آمنت بي يوم هزئ الناس، وأوشكت أن أسخر بنفسي.
إلى التي جعلت جهنم حياتي جنة.
صفحه نامشخص
إلى التي محت عن وجهي ميسم الضعة، وأبدلت به منطح التفوق.
إلى التي طوت كفي المترهلتين، فجعلت منهما قبضتين فولاذيتين أصرع بهما الجبابرة.
إلى التي ملأت قلبي حبا وأملا وأغاريد.
إلى رفيقة أسفاري، بين القصر والكوخ، والكوخ والقصر.
إلى زوجتي
بياتريس تقي الدين
رسالة
تفضل مليك البحث والاستقراء، وبادشاه المؤرخين، سمو البرنس حمد باشا السبعلي، فأرسل للمؤلف كتابا هذا بعضه:
أخي الشيخ سعيد بك آل تقي الدين ... كذلك لم أدر حين دفعت بك عن شريط القطار المداهم
1
صفحه نامشخص
أنني أنقذ للبشرية عبقريا يتحف الأدب الخالد بمثل «حفنة ريح» ... فيا للنبوغ الموهوب يقترن بكياسة الصناعة التمثيلية! ويا للرائعة لم يجد بمثلها الأولون ولا المعاصرون من زمن «فاجعة الإغريق» إلى يومنا هذا في صخب «برودواي» ولغبه ... ويقيني أن صلابة الخلق فيك لن تلين فتستمر في الإباء بأن تبيع أدبك - على وفرة ما عرضوه عليك - إلى معمل السخافة والتبذل الذي يسمونه «هليوود».
سلمت يا موليير لبنان، وشكسبير العرب.
لمحة تاريخية
يقول المتهجمون الذين يريدون التنقص من الأدب العربي القديم: إن العرب لم يعرفوا الدرامة.
ونحن لسنا نحاول في هذه الكلمة المقتضبة التبسط في تكذيب هذا المفترى، غير أننا نريد أن نثبت أن الدرامة ذات الفصل الواحد هي من مخترعات العرب الأقدمين، وكانوا يطلقون عليها اسم «مثال» للمغزى الذي يجب أن تؤديه، جاء في «الحواشة السخفولية»:
1
كان للبساطرة - وهم فخذ من قبيلة ثعلة - عادة كلما اكتمل القمر، أن يمثلوا رواية في فصل واحد، فينتحون هضبة يجعلونها مسرحا، ويحجبونها عن القوم
2
بستار، يعلق جانباه على رأسي بعيرين واقفين، بينهما عشر فشخات وأربعة أشبار، فإذا احتشد القوم صاح الحقريف
3
صفحه نامشخص
وأناخ الجملين، فهبط الستر وابتدأ التمثيل، فإذا انتهت الرواية ضرب الحقريف البعيرين بعصا فنهضا، فحجب الستار المسرح عن القوم وانتهت الرواية.
وقد أشار إلى هذه العادة أبو العبث الشوفاني في موشحته الأندلسية الشهيرة التي مطلعها:
يا شوق قلبي لل «مثال»، يا ليلة
البدر فيها قد استدار
والجمع حشد كالرمال، يا صرخة
تعلو إذا هبط الستار
ويدي على كتف الحبيب تلاعبه
طعبروس
نهض عريف الآلهة عن كرسيه الحريري، وتمطى تعبا فرحا، ثم انتزع من جيبه الهائل محرمته الحريرية الخضراء، وراح ينظف صولجانه الذهبي متكلما فيما هو ينظف: «يا له من يوم غني الحوادث!» فأجابه صدى من متملقي البلاط: «يا له من نهار غني الحوادث!» وتابع العريف كلامه: «لقد أنزلت عن عاتقي معظم عناء شئون حكم الكرة الأرضية، إن الحكم المباشر كان خطأ، لقد أبهظ كتفي، وإني وجدت الإنسان - مثلما هو في قرارة نفسه - يهوى تعدد الزوجات، كذلك هو في صميم مشاعره يؤثر تعدد الآلهة، لقد أرسلت لبني البشر سربا من آلهة: واحدا للمواسم، وآخر للحب، وغيره للصواعق، لكل شعور، وغريزة، وحادثة إلها، ولم يبق لي إلا أن أقرأ التقارير وأصدر الأوامر.
وأمسك مدير البروتوكول السترة، فأنشب عريف الآلهة في كميها ذراعيه، وفيما هو يتهيأ للانصراف، سمع نأمة من زاوية الديوان تقول: لماذا أهملتني يا سيدي؟
صفحه نامشخص
فتطلع عريف الآلهة، فرأى جسدا هائل البطن، وعينين مائعتين بالشر، ويدا مرتفعة، علتها أقذار كأنها برص، وكاد عريف الآلهة أن يبتسم ويمشي؛ إذ استأنف الصوت نأماته: أنا رجلك يا سيدي، أنا طعبروس، أنسيتني؟ ألا تذكر الانتخاب الماضي منذ مليون سنة، كيف كان «أبولو» و«أدونيس» يتخطيانك بالأصوات، وكاد «أبولو»، لو لم أزور لك أصوات الكوكب، حيث كنت رئيس الاقتراع؟ انظر إلى يدي وقد دنست بإثم التزوير! لقد غمستها بالبحر ألف سنة، وغسلتها بحمم البراكين مائة عام، ودفنتها في البحيرة الملتهبة عشرين جيلا، وتمتمت لها تعويذة ديوان المتنبي، وروايات شكسبير، وإلياذة هوميروس، وعلقت في زندي حرزا ملأته بدساتير دول الأرض، وتصريحات يالطا، ونقاط ويلسون الأربع عشرة، وقوانين جمعية الأمم ومنظمة الدول، فما محوت من أقذارها ذرة، وها أنت قد نثرت الوظائف على سواي، وأهملتني أنا الذي وبئ في الجهاد من أجل انتخابك.
وليس آلم على الكبير من معروف سابق يذكره به صغير ...
فعبس عريف الآلهة وأجاب طعبروس: ألم أهبك برميل نفط بعد الانتخاب؟ ولئن كنت ناقما علي، فلم لا تلتحق بصفوف المعارضة؟
قال طعبروس: إني معجب بك يا مولاي، وإني أوثر جهنم الحاكمين التي أعرفها على جنة المعارضة التي لا أعرفها، ثم إن المعارضة لا تملك شيئا تهبه، أما مولاي ...
قال عريف الآلهة: إني آسف لما أنت فيه، ولقد فرقت الوظائف وانتهى الأمر ...
وأجاب طعبروس: أيعجز مولاي عن خلق وظيفة لأحد محاسبيه وهو الذي ملأ الدنيا وظائف؟ وظفني في السلك الخارجي ... أسمع أن دولا كثيرة نشأت في الكرة الأرضية حديثا فهل اعتمدتني لأي منها؟
فهز العريف رأسه وقال: كيف أرضى أن يمثلني شخص موبوء؟!
فأجاب طعبروس: أنسيت يا سيدي أني أملك برميل نفط، وأن هذا السائل من الذهب الأسود مرهم، يلون الأمور والأجساد بألوان زاهية تستحبها الناس؟ ثم إن الطبيب أعطاني وصفة، هي أن آخذ براءة تعييني في الوظيفة فأحرقها، ثم أسحق رمادها فأذره في العيون، فلا ترى بي غير الجميل! إني مؤكد لمولاي أن مرهم النفط ورماد البراءة يجملانني حتى ليخلط البشر بيني وبين أدونيس!
وكان عريف الآلهة من تلك الشخصيات السياسية التي بلغت القمة بعد ألف معركة في الوادي وعلى السفح، ولقد صار من القوة بحيث أمسى في وسعه أن يتناسى الأنصار ورفاق الجهاد، ولكنه نظر إلى طعبروس ثانية وذكر حادثة الكوكب، حيث ترأس طعبروس الاقتراع، وكيف جاءه بصندوق الاقتراع، وفيه 153 مليون صوت للعريف، و35 صوتا لأبولو، و48 لأدونيس.
فابتسم وسرت به رعشة السطوة في القوي إذ يمنح أو يمنع، فصاح برئيس المواصلات أن يسهل لطعبروس سيارة أو «جيب» للكرة الأرضية، فطعبروس ذاهب إلى هناك بصفة غير رسمية؛ عله يحتال بذكائه على أن يخلق طائفة تؤمن به فيكفي بذلك العريف مئونة تعيين إله جديد، وكان وزير المواصلات مكبا على دفتر يقلبه وقد تجمر وجهه، فاقترب من عريف الآلهة وهمس بأذنه: لتتكلم بصوت خافت مخافة أن تسمعنا الصحافة، إن في دفتري قيدا ب 84 سيارة و125 «جيب!» وتذكرون أن سلفي باع أكثرها، ولما نزل نطالبه بثمنها، ثم إن بعضها مخرب، وما بقي فقد أرسلته لاستقبال ابن عمي، وهو راجع من زحل مصطحبا هدية ثمينة لمولاي.
صفحه نامشخص
فسأل العريف: أليس عندنا من مخلفات الجيش ما نقدر أن نستعمله؟
فتناول الوزير دفتر «المستحيلات» وقلب صفحاته وأجاب: بلى، يا سيدي، عندنا مظلة هوائية يستعملها القافز من الطيارة، إنما ... إنما ...
وصار الوزير يتلعثم، فحنق العريف وصرخ: إنما ... ماذا؟
أجاب الوزير: لقد اقتطعنا من نيلونها سروالا أهديناه إلى رئيس بلدية «الثريا»، أنت تذكره يا مولاي، رجل مخلص، كذلك انتزعنا الكثير من حبالها لنشر غسيل الوزراء يا مولاي، إذ إن الصحافة ترش عليهم الوحول، فأثوابهم أبدا قذرة يلزمها التنظيف، وإني أخاف إن نحن أعطينا المظلة لطعبروس ألا تنفتح حين يقفز فيهلك، وإن انفتحت، ذلك الخرق ... سروال رئيس البلدية يا مولانا ...
طعبروس إله الغلو والادعاء.
وسرعان ما دار عريف الآلهة وخاطب طعبروس: معاذا أن ينسى عريف الآلهة رجاله المخلصين، إني لا أريدك أن تذهب إلى الكرة الأرضية كرجل عادي في سيارة أو «جيب»، انزل إليهم كبطل، لقد جهزت لك مظلة هوائية جديدة من مخلفات الجيش، ومن صنع الأميركان، وأنت تعرف أنهم لا يصنعون إلا الأجمل والأفخم والأمتن.
فشكر طعبروس للعريف حنانه وشد المظلة إلى كتفيه وقفز، وراح العريف يتطلع من كوة السماء مقهقها فرحا أنه تخلص من شخص يذكره بمعاركه الماضية، واستفاقت «ساديته» فحدق بالأرض يريد أن يرى طعبروس يلتطم بالأرض فيتمزق، غير أن طعبروس حينما وقع لم يصطدم إلا بكومة رمال، فسرعان ما انتصب واقفا على قدميه سالما، فأحرق مظلته وتأبط برميله، ومشى صاخبا يحدث نفسه بالفتك والأخذ بالثأر، ويحلف بأن يثير على العريف سكان البسيطة، وما طال سيره حتى لمح بدويا شرس الوجه يرعى جمالا ويحمل بارودة، فهلع طعبروس وصاح: أنا بوجهك با بدوي .
أجاب البدوي: كنت على همة أن أرديك برصاصة، ولكنك سبقتني إلى الاستجارة، فما أنا بقاتلك، ولكن قل لي: من أنت، وما تريد؟ وهات، أعطني نهلة من هذا البرميل الذي تحمله فإني عطش.
ومد البدوي يده، وقلب البرميل إلى شفتيه، وسرعان ما بصق ما دخل فمه، وشتم طعبروس الشرير الذي يحمل ماء لا يشرب.
قال طعبروس: رويدك يا بدوي، أنا جئت هذا المكان لإسعافك.
صفحه نامشخص
ما صنعتك؟
أجاب البدوي: أنا راعي جمال. - ومن هو شيخ القبيلة؟ - درداح الغمدوش. - ولماذا هو شيخ القبيلة وأنت راعي جمالها؟ - هذه إرادة الله، واحد يرأس القبيلة، وآخر يرعى جمالها.
قال طعبروس: ما أنا ممن يخالفون مشيئة الله، صدقت، إنه تعالى قسم المهن والأرزاق، وجعل للقبيلة شيخا يدير أمورها، وراعيا يتعهد جمالها، ولكنك يا بدوي أشجع من درداح الغمدوش، فلماذا لا تحاول أن تكون شيخ القبيلة وتترك هذه الإبل لدرداح؟
فلمعت عينا البدوي وعض على شفتيه، وشع وجهه بحلم جميل، الخيمة الكبرى هو يملكها، و... وتطلع بطعبروس من جديد وأجهم وجهه، وقال: اسمع يا مخلوق، إن كلامك معقول، غير أننا هنا في البادية نصغي إلى من يقول، لا إلى ما يقال، نحن هنا لا نخاف الإعصار، والجوع، والعطش، والأمراض، ورصاص العدو، ولكننا نخشى اللسان الذرب ... إخال كلامك شبيها ببرميلك، تنظر إليه فتحسب فيه ماء يروي، فما إن تنهل منه حتى تعرف طعمه الكريه، وكلامك تسمعه، فإذا هو مقنع، وفي يقيني أن من أراد السير على ما أنت به تبشر، سيعثر، لقد أمنتك على روحك، ولكني أخشى ثورة غضبي فأكفر بتقاليد قومي، هيا انصرف عني، رح إلى هناك إلى بلاد الحضر الملاعين في القرى والمدن؛ حيث الرجال ذوو أيد ناعمة ووجوه حليقة معطرة، هناك يحبون اللسان الذرب، وأحسب أن ستكون بينهم ذا شأن.
وكان طعبروس من أولئك القلائل الذين يفهمون الحكمة من أي سمعوها، ويعرفون أن يلتقطوها حيث كانت؛ لذلك أعجب بقول البدوي، فودعه وراح يقطع البادية ميمما قرى الحضر ومدنها، فأدى به التسيار قبيل الغروب إلى ضاحية قرية ، فرافق بعض فلاحيها، وكانوا منصرفين من حراثة أراضيهم وعائدين إلى قريتهم، وسمع الفلاحين يتحادثون فرحين، وأدى بهم الحديث إلى الدعابة، والدعابة إلى قول «القرادي» فزج طعبروس نفسه بينهم وسألهم: ما هذا الذي تنشدون؟
أجابوا بشيء من الخجل: نحن أناس أميون ننظم القرادي - في بعض الأحيان - للمباسطة وللغناء في الأفراح والمآتم.
أجاب طعبروس: إنكم لا تعرفون أي شيء قيم تملكون، ما هذا «قرادي»، هذا شعر، أنتم شعراء، أنتم الشعراء.
فراحت قلوب أولئك الفلاحين تدق جذلة كأنها أجراس الكاتدرائية في يوم العيد، ونفخوا صدورهم ورموا بمعاولهم وآلات الحراثة وطفقوا يصيحون في القرية: نحن شعراء، نحن شعراء.
وسرت الصيحة في القرى المجاورة ومدن البلاد، وصار كل من نظم في حياته، أو هم بنظم «قرادي» أو أي كلام عامي مقفى، يقف على سطح بيته أو شرفة منزله، ويصرخ «أنا شاعر»، واجتمع الشعراء فانتخبوا لهم أميرا وشيخا، وفرقوا الألقاب والأوسمة فرحين.
أما طعبروس فقد هزه فوزه السريع، فلم ينم تلك الليلة، شأن كل من ينعم ببكر انتصاراته، وفي فجر اليوم الثاني طفق يطوف في طول البلاد وعرضها، ولقي من الصحافيين أعوانا له، فإذا لاعبت فرقة من بيروت بالفوتبول فرقة من حلب سموها «مباراة دولية»، وإذا فاز تلميذ بدروسه سموه «النابغة العبقري»، وأشار على الناس، فأسسوا الجمعيات والمنظمات التي هي في حقيقة مراميها أبواق لطعبروس، وتحالف مع رأسمالي، فبنى مصنعا للمرايا المقعرة متى تطلع فيها الرائي وجد نفسه عظيما، فراجت تلك المرايا، وأغنت صانعها، ومن أرباح ذلك المصنع بنى الرأسمالي مصانع للأبواق والطبول، وأخذ طعبروس يدور على البيوت فيبيعها بدون ربح، حتى أصبح كل من السكان يحمل مرآة مقعرة في جيبه، وبوقا في يساره، ويعلق طبلا في رقبته، تضرب لحنا واحدا: «ما أعظمني!» وكان طعبروس شديد المراقبة، فلمح في تطوافه أن الأسلحة كثيرة في البيوت؛ فخشي على نفسه أن يؤلف الشعب جيشا، والجندي - جنرالا كان أم نفرا - هو مثال الطاعة والنظام والدعة والتواضع، وهذه صفات إن فشت قتلت نفوذ طعبروس، فحمل تلك الأسلحة أصحابها، وصاح بهم : «هيا أطلقوها في الجو!» ففعلوا وطربوا لدويها، إذ ذاك قام طعبروس فيهم خطيبا، وقال: أنتم الأبطال الصناديد، من غيركم يقوى أن يطلق الأسلحة في الهواء؟
صفحه نامشخص
فصاروا يطلقون الرصاص لأية مناسبة، فيصم آذنهم عن ضحك شرذمة من الشذاذ جاءتهم غازية واغتصبت بعض دورهم، ووقفت متسلحة يقظة توسع تخوم مغتصباتها شيئا فشيئا، وقد وجدت تلك الشرذمة في «طعبروس» أعظم حليف، إذ شغل القوم عن الدفاع عن دورهم بالإعجاب بنفوسهم، ونفخ ذاتيتهم المتضخمة.
وأصبح طعبروس كلما كثرت انتصاراته اشتد دأبه، فبنى حول تلك البلاد سورا عاليا، وأقنع الناس أن ليس وراء السور من بلدان، بل هو شيد حول كل قرية وشارع وضاحية سورا، وقال للسكان: «هذه هي الدنيا» فضيق الآفاق على الناس، وقصر طموحهم، ولم يعف عن معبد أو مدرسة، فزين للتلامذة ترك دروسهم والمشاغبة في الأسواق أملا بالتزعم، وصرف من كان شأنه تعهد المعبد عن الأغاني الروحية، إلى الصخب السياسي رجاء التسود.
وذات يوم طاف طعبروس مملكته، وقد استحس أنه أمسى فيها ملكا مطلقا، فوجد فيها شخصا واحدا قانعا يعنى بتربية النحل، ولا يأبه لشيء غيرها، وعبثا حاول طعبروس أن يقنع مربي النحل أنه شاعر، أو أنه خليق بأن يرشح نفسه للنيابة، وأخيرا جاءه طعبروس وهمس بأذنه: إني أريد أن أسر إليك اكتشافا ... فقد قرأت في «الحواشة السخفولية» أن نابليون هو جدك الأعلى، وأن الملكة اليصابات هي ابنة خالتك لجد جدك، فما بالك تربي النحل وأنت يليق بك أن تتربع دست الوزارة؟
فباع المسكين منحلته، وراح يشاغب على الوزراء رجاء أن يستبدل بواحد منهم.
وأصدر طعبروس طبعة جديدة - ملايين النسخ - من «الحواشة السخفولية» وفيها تواريخ عائلات البشر، وإشادة بذكر جدود الناس أجمعين، فمن عدم شيئا يتبجح به في نفسه، وجد في تاريخ أجداده موضوعا للتباهي يصرفه عن الجهود المفيدة.
هكذا نعم طعبروس في ملكه فكثرت الألقاب، والأوسمة، والحفلات، والمآدب، ونفخت الأبواق، وقرعت الطبول، وكان من الطبيعي، متى ازدحمت الأقدام وضخمت الذاتيات، أن ينشأ العداء، وكان الخصام على أشده في «شارع النيابة»، حيث تقاطر الناس بأجمعهم يريدون أن يجتازوه طريقا إلى «القبة»، حيث علق أكبر بوق وأضخم طبل، في قاعة حيطانها مرايا مقعرة.
واختفى الحب، وضاقت الأخلاق، وانمحى التسامح والحلم، وتكالب الناس على الظهور بمظاهر التفوق، ولم تعد الأسلحة تطلق في الهواء فحسب، بل صارت تطلق في الصدور أحيانا، ونقم الناس على الناس، وكفروا بما كانوا يؤمنون؛ إذ إنهم قبل طعبروس كانوا يؤمنون بأمور منها سخيفة أو ساذجة، ومنها كريمة شريفة، ولكنها كانت في مجموعها إيمانا يملأ النفس ثقة وإقداما، ويغسلها من أدرانها، «ويقولز» عناصرها، أما حينما ضخمت ذاتيتهم فقد فر الإيمان من صدورهم فماعت شخصياتهم، ألا ويل لقوم نفوسهم كهوف خالية هجرها الإيمان.
أما الآلهة فقد ساءهم إعراض الناس عنهم، فما يرتاد مفوضياتهم وسفاراتهم الزائرون، وضعف شأنهم فما يسمعون صلاة ولا ضراعة، فعادوا إلى العريف يشكون أمر طعبروس، ويخبرونه أن البشر انصرفوا إليه يعبدونه، في حين أنه ليست له صفة رسمية، وأن الأمر إذا استمر هكذا، فقد يضطر العريف إلى سحب ممثليه من الكرة الأرضية وشطبها من خارطة مستعمراته.
والحنق أنواع، أشده تلك الحمم التي تقذفها النفس إذ تغضب على نفس كانت لها مرءوسة؛ ولذلك نادى عريف الآلهة على مدير البوليس، وأمره أن يرمي كل كتب القانون في النار، وأن يختار من رجاله أشدهم بأسا وأوسعهم حيلة، وأن يهبط إلى الكرة الأرضية فيرجع منها بطعبروس أو بجثة طعبروس.
وانتصب مدير البوليس بعد لمحة أمام العريف فسأله هذا: ما بالك لم تذهب بعد؟ - سيدي ... إني رجعت ولم أجد من آثار طعبروس إلا برميله الفارغ! أما هو فقد عشش في رءوس الناس؛ لذلك لم أوفق بالعودة به حيا؛ إذ إنه مختف، وإني خشيت إن أنا قتلته أن أقضي على الناس أجمعين فهو في كل رأس، وطي كل قلب، وعلى كل لسان.
صفحه نامشخص
وتمطى الإله «فرنسوا»، وهو الإله العملاق الذي قتله الإله «جرمانيوس» بضربة من قبضته، وأعادته إلى الحياة الآلهة التي تكاثرت على «جرمانيوس» فدحرته، ولكن «فرنسوا» - وقد قتل عملاقا - بعث قزما بدون ذراعين، قال «فرنسوا » لعريف الآلهة: سيدي! أعدني إلى البشر حاكما عليهم، وإني أعدك بأن أمزق أعلامهم، وأذلل نفوسهم، وأطرد طعبروسهم، وأفتل ألسنتهم، فلا يتكلمون إلا اللغة التي تريد، وإني فوق ذلك منتزع من كوارتهم ما فيها من مئونة ينعم بها مولاي العريف وأصفياؤه من الحاشية.
غير أن عريف الآلهة أعتاد ألا يصغي إلى «فرنسوا»، ولكن أذنه اشرأبت؛ إذ سمع كبير الحكماء يقول: مولاي ... متى دخل إله قلب المرء ورأسه، وسرى على لسانه، فمن العبث محاولة طرده برجال البوليس، إني على ثقة أنه لن يطرد هذا المارق طعبروس إلا فنانونا، إني أشير على سيدي أن ينادي على النحاتين يبنون التماثيل لطعبروس، تنصب في ساحات الكرة الأرضية، ثم فليرسمه نبغاء مصورينا ولتعلق صورته في كل بيت، كذلك ليصفه كتبتنا وشعراؤنا.
فقلب عريف الآلهة شفتيه ساخرا غاضبا، وقال: ما كنت أحلم أن أعيش إلى يوم أسمع فيه الحمق من فم كبير الحكماء، ها أنا أريد الفتك، يا له شرير يعبدونه، وأنت تقترح التمثال والصورة والقصة والقصيدة لتفخيمه؟
أجاب كبير الحكماء: إني أبغي من ذلك إظهاره للناس ليروه، إن الناس لا يعبدون ما يرون ... إنهم يعبدون ما لا يرون!
وغطس عريف الآلهة في بحيرة التفكير، وراح يسبح حينا، ثم خرج منها مبتهجا، وأعلن أن رئيس الحكماء على صواب، فمتى رأى الناس طعبروس طردوه، لا سيما وقد فرغ برميله من النفط، فلن تخفى أقذار يده، وخلت يده من براءة توظيف يذر رمادها في العيون، ونادى على الفنانين ففرق عليهم جبال المرمر، وأوتار قلوب البلابل، وحفنة من قوس القزح، ونفخة من ريش الحساسين، وعبأ جراباتهم بأغاريد أطفال الملائكة، وصاح: عليكم بطعبروس، هذا عتاد الحرب والنصر بين أناملكم.
حفنة ريح
مهزلة في فصل واحد
بيروت سنة 1950
غرفة أثاثها غوغاء، في منتصف المسرح - إلى الأمام - صحارة قائمة على جانبها الضيق، وفوقها قطعة خشب ضخمة تستعمل في المطابخ؛ إذ يقطع عليها اللحم والخضار، على قطعة الخشب سكين مطبخ، وأشياش عارية، وخلف تلك الطاولة (الصحارة) فوتويل مثلث المقاعد ممزق، خاض الكثير من معارك الحياة، على يمين المسرح طاولة (صحارة) ثانية عليها آلة تليفون، على يسار المسرح فتى موسيقي يدوزن عوده، بضعة كراسي مبعثرة هنا وهناك بعضها مقلوب، في منتصف الحائط الذي يواجه النظارة باب صغير عليه ستارة ممزقة إلى يمين النظارة، يلاصق الحائط الخلفي سرير هو ثلاثة ألواح خشبية متمددة على ثلاث صحاحير، ناموسية السرير مرفوعة، على جوانب السرير، وعلى الناموسية كلسات، وربطة رقبة، وطربوش، وبنطلون وكلسون، إلى اليسار - فيما يلاصق الحائط - حذاء الباب الخلفي، مغسلة مهشمة عليها مرآة مكرسكوبية، وعلى المغسلة فرشاة أسنان وفرشاة ثياب وبعض أدوات الزينة، في منتصف المسرح طاولة صغيرة عليها مزهرية بدون زهور، على الأرض بقايا سكاير وقشر ليمون وزجاجات فارغة.
على السرير، يتقلب وجيه في بيجامته.
صفحه نامشخص
على المقعد المثلث يجلس فتى أنيق الثياب قصير نحيل، يلبس طربوشا خمريا يكاد يغطيه حتى أخمص قدميه، بين يديه عصا مذهبة المقبض، تعلم من كثرة تقليبه إياها، أنه اشتراها منذ ساعتين فقط، اسمه الشيخ نسيب وهاب، يسمع دق ويدخل نهاد العسكري، شاب في الثلاثين، خفيف الخطى، زواغ النظر، لطيف.
نهاد :
صباح الخير يا إخوان.
العواد :
صباح الخير.
الشيخ نسيب :
صباح الخير.
نهاد :
أين وجيه؟
الشيخ نسيب :
صفحه نامشخص
صار لي نصف ساعة أنتظره (وهو يشير إلى السرير)
نايم.
العواد :
صار لي (متطلعا إلى ساعة اليد التي يلبسها)
ساعة وربع، من ينتظر وجيه أن يفيق من نومه كمن ينتظر عنقود عنب يصير زبيبا.
نهاد :
مسكين ... وجيه تعبان، ليلة البارحة ألقى خطابا هز البلد، جئت أطلب نسخة منه، عدم المؤاخذة (يقترب من العواد مصافحا)
داعيك اسمه نهاد العسكري.
العواد (معجبا) :
صاحب جريدة «نهضة الفجر»؟! حصل لنا الشرف، داعيك «شوقي الحياك» صاحب أوركسترا «جوقة لبنان».
صفحه نامشخص
نهاد :
حصل لنا الشرف، سمعت جوقتك عدة مرات على الراديو.
الشيخ نسيب (يقترب منهما بحياء من يركبه ميسم الضعة
1
يمد يده لنهاد) :
أنا نسيب وهاب.
نهاد (هازا يده) :
وهاب ... وهاب ... حضرتك «الشيخ» نسيب وهاب. (الشيخ نسيب يضحك منرفزا.)
نهاد :
الشيخ فرج الله مدير الجمرك هو صديقي، هل هو قريبك؟
صفحه نامشخص
الشيخ نسيب :
عمي أخو أبي.
نهاد :
والشيخ عبد الله مدير جمرك الناقورة؟
الشيخ نسيب :
ابن خال عمي.
نهاد :
والشيخ شفيق ... مفتش المعارف؟
الشيخ نسيب :
ابن خال عمتي.
صفحه نامشخص
نهاد :
والشيخ عادل مهندس بلدية صيدا؟
الشيخ نسيب :
ابن عمة خالي.
نهاد :
وحضرتك؟
الشيخ نسيب :
البارحة صدر أمر بتعييني مفتشا في جمرك بيروت.
نهاد (يأخذ ورقة من جيبه وقلما) :
هذا خبر هام (يكتب): «يسرنا أن نزف إلى القراء الكرام بشرى تعيين صديقنا الأوفى الأستاذ الشيخ نسيب وهاب مفتشا في جمرك بيروت، والشيخ نسيب هو العبقري المتخرج من ...» (إلى الشيخ نسيب)
صفحه نامشخص
من أي كلية تخرجت حضرتك؟
الشيخ نسيب :
أنا لم أتخرج، أولاد صفي تخرجوا.
نهاد : «... والشيخ نسيب من خيرة شبابنا المثقف، وعبقري» (للشيخ نسيب)
لم تتخرج؟
الشيخ نسيب :
لا.
نهاد : «... من خيرة شبابنا المثقف ونابغة وقاد الذكاء» (إلى الشيخ نسيب)
لا تؤاخذني إن قلت: «نابغة» فقط لأني لا أحب المبالغة! (يعيد الورقة والقلم إلى جيبه ويمشي إلى السرير مخاطبا النائم)
وجيه ... وجيه ... قم، ثلاثة أرباع البلد في انتظارك، (مخاطبا العواد والشيخ نسيب)
صفحه نامشخص
هل أم ظريف هنا؟ (يتقدم من الباب الخلفي ويصيح)
يا أم ظريف، يا أم ظريف، أهلا وسهلا بعروستي أم ظريف (تظهر أم ظريف كهلة في حوالي الخمسين، صلبة العضلات، ضخمة، بارزة العينين على رأسها عصابة، وفي وجهها نظرة حنان تنكرت قسوة، تستشف من خلال خشونتها نعومة الأنوثة، يضع نهاد ذراعه على كتفي أم ظريف ويماشيها إلى مقدم المسرح) .
نهاد :
هل قرأت ما كتبته عنك في عدد أمس؟ (يريها الجورنال)
أم ظريف (بخيلاء) :
الحمد لله أني أجهل القراءة والكتابة.
نهاد :
هل ترك لي وجيه ورقة معك؟ أو وصية؟
أم ظريف :
ترك لك وصية، قال: يجب أن ترجع قبل أن تبدأ بطبع الجريدة؛ لأن عنده عجائب غرائب من الأخبار.
صفحه نامشخص
نهاد :
طيب، قولي له: إني راجع في أقل من ساعة، ألم يترك نسخة خطابه عندك؟
أم ظريف (تمشي إلى المزهرية وتنزع منها أولا كلمات، ثم أوراقا) :
ترك هذا.
نهاد :
هذا هو؟ سلم الله يديك يا أم ظريف ، هذا خطاب وجيه.
أم ظريف :
أوصاني وجيه أن أسألك: إن كنت تحب أن تدفع ثمن الخطاب.
نهاد :
وجيه يعرف أني لا أدفع ثمن الخطابات، أما إذا كان عنده أخبار فهذه أدفع ثمنها، بخاطرك يا أم ظريف، بخاطركم.
صفحه نامشخص
نهاد (للشيخ نسيب) :
نسيت أن أسألك عن معاش الوظيفة.
الشيخ نسيب :
أنا لا يهمني معاش، حالتنا المالية حسنة بحمد الله.
نهاد :
خطر على بالي أمر، أحب أن أنشر صورتك تفضل معي، عندنا مصور في الإدارة.
الشيخ نسيب (يقترب من المرآة فيصلح من شأنه، ويلوح بالعصا مزدهيا) :
ولكني أريد مقابلة وجيه.
نهاد :
تقدر أن ترجع بعد ربع ساعة.
صفحه نامشخص
نهاد :
بخاطرك يا أستاذ.
الشيخ نسيب :
بخاطرك يا أستاذ.
العواد :
بخاطركم يا إخوان.
نهاد (على الباب) :
يا أم ظريف، قولي لوجيه: إن تلك العجائب - الأخبار التي وعد بها - يجب أن تكون حوادث حقيقية، لا حوادث رآها في المنام.
الشيخ نسيب :
أخبري الأستاذ وجيه أني راجع (نهاد والشيخ نسيب ينصرفان، يرجع عواد يدوزن عوده ويتغنى ب «يا ليل» مرة بعد مرة، أم ظريف تخرج من الباب الخلفي وترجع بمكنسة ومجرود فتطوف في الغرفة مقومة كرسيا هنا ومتاعا هناك، تلتقط أكعاب السكاير خفية وتخبئها في تنورتها، تظهر اشمئزازها من العواد؛ إذ هي تسد أذنيها مرة، وتهم بأن تنزل على رأسه بالمجرود والمكنسة، إلخ ... يرن التليفون فتضع أم ظريف السماعة على أذنها) .
صفحه نامشخص