معاوية القليوبي
ولد ونشأ في بيت سوق الزلط، وتربى تربية دينية خالصة، واقتبس من أبيه معلومات وسلوكا حتى قبل أن يجاور في الأزهر، وأبدى نجابة وتفوقا، وغراما خاصا بالنحو الذي راح يدرسه في الأزهر بعد حصوله على العالمية. وقبيل وفاة والده بأشهر زوجه الرجل من جليلة الطرابيشية، وهي كريمة سلمان الطرابيشي الذي كان يعمل في مصنع طرابيشي الباشا. وكان معاوية يزاول نشاطا إضافيا في جوامع حيه، مما أضفى على شخصه مهابة ومحبة. وكانت جليلة تفوقه طولا وكانت ذات أطوار غريبة، وعصبية حادة، وتراث حافل بالغرائب، فصمم الرجل على أن يلقنها مبادئ دينها الصحيحة، ونشب بينهما صراع ودي طويل، فأعطاها وأخذ منها، وكلما أصابته وعكة سلم نفسه إلى طبها الشعبي دون منازع، وذاعت شهرتها في الحي حتى كادت تغطي على شهرته. وقد ربط الحب بينهما، وبفضله استمرت الحياة الزوجية، رغم حدة طبعها وتعصبها لأفكارها، وأنجبت له مع الأيام راضية وشهيرة وصديقة وبليغ. ولما قامت الثورة العرابية تحمس لها الشيخ، ومال إلى تيارها، وأيدها بالقلب واللسان. ولما فشلت الثورة واحتل الإنجليز مصر قبض عليه فيمن قبض عليهم، وقدم للمحاكمة فقضت عليه بالسجن خمسة أعوام. وراحت جليلة تطوف بأضرحة الأولياء داعية على الخديو والإنجليز، ودبرت شئون أسرتها بشيء من المال ورثته عن أبيها. وغادر الشيخ معاوية السجن ليجد نفسه في دنيا غريبة، فلا أحد يذكر الثورة أو أحدا من رجالها، أو تذكر بعض الأسماء مصحوبة باللعنات، ولم يجد عينا تنظر إليه بعطف سوى عين يزيد المصري صديقه القديم وناظر سبيل بين القصرين. شعر الرجل بغربة وأسى وانطوى على نفسه حتى وجد وظيفة معلم بمدرسة أهلية. وقال له صديقه عزيز ذات يوم: ابني عمرو موظف في نظارة المعارف في العشرين من عمره وأود له أن يكمل نصف دينه. فأدرك الشيخ ما يرمي إليه وقال: على بركة الله.
فقال عزيز: ستتم على يديك بإذن الله ومن بيتك.
فقال الشيخ: راضية بنتي وعمرو ابني!
وذهبت نعمة عطا وابنتها رشوانة لخطبة راضية، ورجعتا مبهورتين بجمال صديقة وراضيتين عن جمال راضية ووجهها الشامخ، غير أن نعمة تساءلت: أهي أطول من عمرو؟
فقالت رشوانة باطمئنان: كلا يا أمي، هو الأطول.
ولكن الأجل عاجل الشيخ قبل أن يشهد زفاف كريمته، وصادف وصول نيشان العروس يوم الوفاة، الأمر الذي أدى بجليلة من خلال اجتهادها الشخصي مع تراثها إلى أن تطلق زغرودة من نافذة ثم تواصل صواتها على الراحل العزيز، وتصير بذلك نادرة الحي على مجرى العمر. ودفن الشيخ في حوشه القريب من حوش عزيز في رحاب سيدي نجم الدين.
حرف النون
نادر عارف المنياوي
ولد ونشأ في الدرب الأحمر، الابن الوحيد لحبيبة عمرو والشيخ عارف المنياوي لم يترك أبوه في وعيه أية ذكرى فترعرع في بحيرة ثرية بحنان أمه وجدته لأبيه، ورحلت الجدة وهو ابن ستة فوجد في قلوب عمرو وراضية وبقية الأسرة ما أنساه يتمه ووحدته. وربما كان من حسن حظه أن يعشق التفوق ويهيم في الطموح من صغره ولكنه لم يقدر التضحية الجنونية التي ضحتها أمه من أجله برفضها فرصة حسنة للزواج، وبقائها أرملة طيلة العمر عقب حياة زوجية لم تستمر سوى عامين. وشب نادر ذا رونق وفحولة، ولم تخل فترة من حياته من مغامرة عاطفية في نطاق ميزانيته المحدودة. وحصل على بكالوريوس التجارة في أثناء الحرب العظمى وألحق بوظيفة في وزارة المالية. ودأب على كره فقره والتطلع الدائم إلى أفق سامق، ومن أجل ذلك التحق بمعهد لتعليم اللغة الإنجليزية، وأتقن الكتابة على الآلة الكاتبة، ثم قدم لامتحان أعلنت عنه شركة إنجليزية للمعادن فنجح، واستقال من الحكومة ليشغل وظيفة في قسم الحسابات بالشركة. وأرعبت مغامرته أخواله وأقاربه وأمه، ولكنه قال بثقة لا عهد للأسرة بها: لا مستقبل للحكومة.
صفحه نامشخص