والواقع أن أذى ثرثرته لم يقتصر على زوجته ولكنه جاوزها - بزياراته - إلى آل عمرو وسرور والمراكيبي وداود حتى صار نادرة في الأسرة كلها. وتبين لها بعد ذلك أن عينه لا تعرف الحياء، فهي تمتد إلى أي امرأة جميلة ذاهبة أو آئبة فتنغص عليها صفوها أكثر وأكثر. وتسأله مستنكرة: أليس عندك حياء؟
فيقول ساخرا: لا ضرر من النظر.
ولكنها ضبطت إشارات متبادلة بينه وبين أرملة حسناء تقيم في البيت المواجه لها. واشتعلت بها نار طيرت النوم من عينيها فظلت متيقظة حتى ميعاد عودته من سهرة البارزيانا. وغادرت بيتها إلى الطريق متلفعة بالظلام وبيدها وعاء مملوء بالماء، وجاء الرجل يشق الظلماء فأحست بباب بيت الأرملة وهو يفتح وشبحها يتخايل في مدخله، وتوقف الرجل ، ثم مال نحوها، وتقدمت هي بسرعة إلى منتصف الطريق وقذفت بالماء على شبح المرأة فصرخت وتهاوت في الداخل. وذهل الرجل ونظر نحوها متسائلا: من؟
فقالت بصوت محتدم: إلى بيتك يا قليل الحياء.
وكان تلك الليلة يترنح. ودخل صامتا، وهتف غاضبا: سأثبت لك أني رجل متوحش عند اللزوم.
ولكن الضحك غلبه في سكره فارتمى على الكنبة وهو يقول: أنت امرأة مجنونة مثل أمك!
وخاصمته زمنا، ثم رجعا إلى المعاشرة والمناقرة، ولم يحسم الأمر بينهما إلا المرض؛ أصابه ضغط دم أثر في سلامة قلبه فاضطر إلى الامتناع عن الشرب وحل به خمول عام يشبه - في بعض مظاهره - الحكمة. ووفدت الأحزان، ففقدت صدرية ابنتها وردة في عز شبابها، ثم أباها، وأختها مطرية، وأخيرا مات حمادة وهو في زيارة لأهله في قنا، وبقيت صدرية وحيدة في خان جعفر رافضة الانتقال إلى بيت ابنها عقل رغم بره الشديد بها، ولما شعرت راضية بتدهور صحتها قالت لصدرية: أريد أن تكوني إلى جانبي حتى تغمضي عيني.
فأغلقت بيتها راجعة إلى البيت الذي شهد مولدها لتكون إلى جانب الأم التي فضلتها على الجميع؛ كانت الأم قد جاوزت المائة بسنوات والابنة قد اقتربت من التسعين رغم تماسكها ونشاطها. وتقضت تلك الأيام الأخيرة في حومة الذكريات، ورددت الأم أغنية كانت ترددها في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر ثم أسلمت الروح، فأغمضت صدرية عينيها وهي تود أن تبكي فلا تستطيع.
صديقة معاوية القليوبي
ثالثة بنات الشيخ معاوية وجليلة الطرابيشية، وجاء مولدها بالبيت القديم بسوق الزلط بعد سجن الشيخ بنصف عام، وفاقت شقيقتيها راضية وشهيرة بجمالها، بل كانت بوجهها المائل للبياض وخديها الموردتين وقسماتها المتناسقة وشعرها الأسود الغزير وقدها الطري الرشيق مثالا للحسن بغير منازع في الحي كله، ولم يفقها في الأسرة سوى مطرية بنت عمرو وراضية التي شابهتها في الأصول وتجاوزتها في الخفة والتهذيب. وكانت الوحيدة التي لم تنل حظها من تربية الشيخ الدينية، فنشأت ثمرة خالصة لتراث جليلة، مع عذوبة في المعاملة وحب للغناء تزكيه حنجرة لا تخلو من جودة في الأداء؛ ولجمالها وعذوبتها حظيت بأكبر قسط من حب أبناء راضية وبناتها، وتقدم لها بعد وفاة أبيها بأعوام وبعد زواج شهيرة بعام واحد طبيب أسنان شامي من سكان الحي فزفت إليه، وأقاما في عمارة جديدة بالفجالة. وسرعان ما دهمتها الخطوب فمات زوجها قبل أن تحبل، ومرضت بالسل، ورجعت إلى حضن جليلة تنشد الأنس والشفاء. واهتزت قلوب الأسرة لفجيعتها، وذوى جمالها وتغير حالها وتكالبت عليها الآلام دون أي أمل في الشفاء، وشعرت بأنها تنحدر نحو الهاوية، وضاقت باليأس والألم والأرق والسعال، وفي لحظة يأس مدلهمة رمت بنفسها في البئر. وصوتت جليلة فهرع إليها أهل النجدة من الجيران، وانتشلوا صديقة وهي في الرمق الأخير. وقضت ساعات عذاب من ليل طويل محموم، يحيط بها أمها وأختاها راضية وشهيرة، وقد اكتظ المدخل بالرجال من الأسرة والجيران، وفاضت روحها بعد نضال معذب قبيل الفجر، وهي في عز الشباب واليأس والألم. وحزنت جليلة عليها طويلا، وأمرت بتغطية البئر بغطاء متين من الخشب والاستغناء عنها كلية. وكانت تحلم بها من حين لآخر وقالت مرة لراضية: في ليلة سيدي الشعراني رأيت صديقة على مقربة من البئر واقفة في سحابة بيضاء مشرقة الوجه بابتسامة.
صفحه نامشخص