وسافر النقشبندي إلى ألمانيا الغربية بعد مضي أشهر على 5 يونيو، مهيض الجناح حزين الفؤاد، وعلم هناك بموت الزعيم فلم يحزن، ولما حصل على الدكتوراه عدل نهائيا عن العودة إلى مصر، وعمل في ألمانيا وتزوج من ألمانية ثم تجنس بالجنسية الألمانية، ولما علم أبوه بذلك قال مرة أخرى: الله معك، إني أودعك بلا دموع.
وبعد رحيل راضية بقي قاسم وبهيجة في البيت القديم وراء شجرة البلخ التي شهدت حبهما القديم، وما زال قلباهما ينبضان بالحب والعزلة.
حرف الجيم
جليلة مرسي الطرابيشي
ولدت في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر في باب الشعرية لأب كان يعمل في مصنع الطرابيش الذي أنشأه محمد علي فيما أنشأ من مصانع. وكان الأب قريبا للشيخ القليوبي وغير بعيد من بيته بسوق الزلط، فخطب ابنته جليلة لابنه الشيخ معاوية الذي بدأ حياته في ذلك الوقت كمدرس مبتدئ بالأزهر الشريف. هكذا صارت ربة البيت القديم بسوق الزلط وعرفت في الحي بجليلة الطرابيشية. وكانت ذات قامة طويلة، جعلتها تنظر إلى الشيخ من عل - الأمر الذي لم يغفره لها أبدا - سمراء رشيقة ذات جبهة عالية وعينين بنيتين نجلاوين، وقد أنجبت له مع الأعوام راضية وشهيرة وصديقة وبليغ ، وعرفت بأنها موسوعة في الغيبيات والكرامات والطب الشعبي، وكأنما أخذت من كل ملة بطرف بدءا من العصر الفرعوني، ومرورا بالعصور الوسطى. وحاول الشيخ معاوية ما استطاع أن يلقنها أصول دينها ولكنه من خلال المعاشرة الطويلة أخذ منها أكثر مما أعطاها. فكان يطاوعها «حين المرض» وكلما دهمه خطب من خطوب الحياة، يسلمها رأسه لترقيه، أو يستسلم لبخورها، أو يردد وراءها بعض التعاويذ. وكانت صلبة، عنيفة إذا لزم الأمر، فكانت الجارات يعملن لها ألف حساب، ولقد لقنت بناتها جميع ما لها من علم وخبرة، فاستجبن لها بدرجات متفاوتة، وبرعت راضية في استيعاب ميراثها أكثر من الجميع، وحظيت بحبها أكثر من أي من ذريتها بما فيهم الابن بليغ. وكلما أراد الشيخ معاوية التسلط عليها صمدت له بصلابة، حتى التهديد بالطلاق لا يخيفها، ولم تغب عنه قوة أخلاقها ومهارتها المنزلية الفائقة، فتراجع راضيا بالمهادنة والمشاركة. وكانت تقدس معتقداتها لدرجة التفاني والتصلب، وتجلى ذلك يوم وفاة زوجها الشيخ معاوية في عصر الاحتلال. كانت خطبة راضية لعمرو، وقد أعلنت عقب اتفاق جرى بين الشيخ معاوية وعزيز زياد والد عمرو وصديق الشيخ. وعقب الوفاة بساعة واحدة، وصوات ست جليلة يذيع الخبر المشئوم، وصل نيشان العروس، أولى هدايا العريس، على غير علم منه بما حدث. وتقبلت جليلة الهدية - سمكة في حجم ابنها بليغ - ونفحت حامليها بما قسم. وانقبض قلبها لمجيء النيشان وسط هدير الصوات، وأشفقت من عواقب ذلك على مستقبل أحب ذريتها إليها. ووقفت فوق رأس الشيخ المسجى بلحافه الأخضر وناجته من قلبها المكلوم: اغفر لي يا معاوية.
وهرولت إلى حجرة في الجانب الشرقي للبيت تطل من بعيد على جامع سيدي الشعراني وهي تقول لنفسها: لا يفك عقدة النحس إلا استقبال الهدية بما يليق.
وجففت دموعها ووقفت وراء النافذة وأطلقت زغرودة مجلجلة ترقص على أنغام فرح متدفق. ورجعت بسرعة إلى حجرة الجثمان وراحت تصوت من أعماق صدرها. ولم يغب ذلك عن بعض الآذان الماكرة، وتهامسن به، ثم تندرن به على مدى العمر وتنوقل كشهادة حية على غرابة أطوار المرأة المثيرة، التي جمعت بين التقوى والحب والجنون. ولكن لم ينل خطب من بنيانها المتين ما ناله رحيل زوجها، حزنت عليه بالطول والعرض ولبثت تلهج بمآثره الحقيقية والخيالية طيلة عمرها الطويل. فقد عمرت حتى جاوزت المائة ... بعشرة أعوم، عاصرت فيها فترة من حكم محمد علي وعهود إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية وثورة 1919. ولم يرسب في أعماقها زمن كالثورة العرابية التي اعتبرت من أهم رجالها، وما أكثر ما روت من بطولاته وسجنه لأحفادها، وذهب بها الخيال في ذلك كل مذهب حتى ليخيل للسامع من أبناء وبنات راضية أن الشيخ معاوية هو الذي عرب محمد علي، وهو الذي اعتمد عليه عرابي بعد الله، واختلطت صورة عرابي في رأسها بعنترة والهلالي وآل البيت إكراما قبل كل شيء لذكرى الشيخ معاوية. ولم تسعد بذريتها سوى براضية وأبنائها. وحظي عمرو برضاها، وإن لم تزر بيت القاضي إلا مرات معدودات بسبب طعونها في السن، أما شهيرة وصديقة وبليغ فقد تركن في قلبها جراحا لا تلتئم. أنت تقول لبليغ وهو ملقى مخمورا على كنبة المدخل: أنت سكير عاص وعار على زيك الشريف.
ولما أورقت شجرته وصار تاجرا مرموقا قالت له: وهبك الله الثروة ليمتحنك فاحذر امتحانه.
وكان بليغ يحبها ويشك في سلامة عقلها، وقد رجعت شهيرة إلى بيتها طريدة فملأته قططا، أما صديقة فوا أسفا عليك يا صديقة.
وكان قاسم أحب الأحفاد إلى قلبها؛ يغمرها بقبلاته، وينصت لحكاياتها، ويصدقها بقلبه وحواسه، ولما حصل ما حصل، لم تجزع وقالت لراضية: أبشري، ربنا وهبك وليا.
صفحه نامشخص