5
واها أيتها الحقيقة الإنسانية أين أنت من الإنسان وأين هو منك؟
وما بال هذه الأوهام التي يعتزم لها الإنسان المضي في فضائها كأنه منطلق، ثم لا يكون أمره وأمرها إلا كالفأرة حين يرسلها الهر الخبيث تحت أشعة عينيه المتعسرتين من الجوع، فتنطق المسكينة في فضاء ... ولكنه محاط من كل جهة بالأظافر الحادة.
أيتها الحقيقة لا يظفر بك إلا سعداء الفطرة، وما الطبيعة كلها إلا إيمان بك ودليل عليك. فلو خلص الإنسان من وهمه لخلص من همه ولعرف كيف يقدر الحزن بسببه الحقيقي لا بالآمال المتوهمة التي زالت بوقوعه؛ فإن تقدير المصيبة بالأمل الذي كان يرجى لو لم تقع أمر لا يحتمل حدا، بل لا يزال يتسع من ظن إلى ظن حتى يهيج السخط في نفس الحزين، والسخط مع المصيبة مصيبة ثانية.
ولو كان المقامر يحزن على مقدار ما أضاعه دون المقادير الوافرة التي قامر عليها وكان يرجو أن يفوز بها، لما عاد امرؤ قط إلى المقامرة بعد الخسارة الأولى، وكذلك لو كان الإنسان يهتم للمصيبة على قدرها في نفسها لا بمقدارها في نفسه، لذهب بها وقتها، لأن الوقت يسير بكل شيء تدفعه فيه، ولكانت هذه المصائب في تاريخ الإنسان كأنها عطاس يزعج قليلا ثم يعقب انتهاضا من عثرة الرأس وراحة.
وما إن يزال الوهم يخيل للإنسان أن الوقت ثابت بالمصيبة التي نزلت به كأنها تغتذي من عمره. وكأن الصبر يعاف أن يغتذي من عمرها، فلا تبرح تمارسه وتشاده وتجد به وتتلعب كأنما طرح عنقه منها في غل يملك رقبته بالأسر الذي لا فكاك له، وبذا يجمع المسكين على نفسه الحقيقة التي تحاول تركه فلا تستطيع، والأوهام التي يحاول تركها فلا يطيق. ولو ثبت الوقت بشيء هذا الثبات لهلك سعداء الناس قبل الأشقياء، لأن الراحة التي لا يمد في حبلها الألم كالألم الذي لا تمد في حبله الراحة
6
وما الآلام إلا رياضة نفسية تشتد بها النفوس وتصلب فلا تهدها أثقال الحياة التي لا يضطلع بها إلا ذو المرة السوي.
7
ولولا هذه الآلام لأقفرت الأرض؛ لأن الإنسان الذي لا يتألم ليس إنسانا أرضيا، بل ينبغي له أن ترفعه الملائكة وتلوي به في جو السماء، ثم تكون مدة عمره في الأرض مسيرة ما بين الدنيا والآخرة على أجنحة الملائكة ... ويخلق ويموت كما تخلق ذبابة آذار الخيالية التي يزعم الشعراء أنها تولد إلى متع الضحى فلا تزال تطن في الروض وهي لا تجد مد صوتها
صفحه نامشخص