ليس الفرق النظري بين المؤمن والملحد إلا في تسمية جهل العقل بما وراء الطبيعة، وكل ما تشعب من ذلك فإنما هو براهين علمية. على صحة تسمية هذا الجهل ...
أيها الملحدون: أنا لا أستطيع أن أتعزى بالعقل؛ لأنه هو الذي يجعل النازلة لا تقبل العزاء؛ بل المصيبة لا تكون مصيبة إلا حين تكون عقلية، فمتى وقعت مرت كأنها حادثة مألوفة تجيء بالنسيان أو يذهب بها النسيان.
وأنا لا أستطيع أن أعرف نفسي مركبة على هذا الوجه المعجز الدقيق ثم أتوهم أنها خارجة من عدم مطلق إلى عدم مطلق، فإن الذي يتصور الوجود الجاري على سنن ثابتة كأنه بين عدمين هو ذلك المجنون الذي يتوهم الشجرة مخلوقة في ظلها ويتصور ظلها قطعة باقية في النهار من ظلمة الليل الغابر.
وأنا لا أستطيع أن أقول عن نفسي: «أنا» لأحقق وجودها وهي بين ماضغي العدم يرددها حينا ثم لا شيء منها إلا توهم أنها غذاء ما لا يتغذى.
وأنا لا أستطيع أن أراني في وهمكم كأنني حلم عقلي تهجس به الفلسفة مع أن قلبي فيما أحس يقظة حياة مجسمة.
وأنا لا أستطيع أن أصدق أن حياتي كلها بما فيها من خير وشر لي وعلي تكون في مرد الأمر كالذي يرسل في الهواء صرخة مزعجة ليعرف بعدها أنه سكت وكان ساكتا قبل ذلك!
وأنا أيها الملحدون لا أستطيع أن أسخر من نفسي فأرى أن لا نفس لي، ولا أريد أن أكون في حملها كالأعمى الذي يحمل الكتاب حتى يجد بصيرا يقرأ له، ولا أجهل إلى الحد الذي يقر فيه علمكم أن الحياة معناها الموت - لأنه غايتها المدركة - ثم يأبى أن يطرد هذا التعبير فلا يستحي أن يجزم قطعا بأنه لا معنى للموت إلا الموت.
اذهبوا أيها الملحدون إلى أجهل الناس من العامة وأشباه العامة واقرءوا الإيمان الإلهي في كتاب قلبه بعد أن تجردوه من لغة اللسان التي شأنها المبالغة والتمثيل لما لا يتصور بما يتصور؛ فإنكم تحسون من جهله حين يلتقي بعلمكم ما تحسه الرئة الفاسدة من نفحات النسيم الذي يترامى في أحضان الزهر، وإنكم ستجدون في كلامه معاني سماوية كما تجدوا في الطبيعة نفسها؛ ولا جرم أنكم تصدقون حينئذ ولكن لتجدون من التصديق مادة عقلية للشك والإنكار، ثم لتصنعوا من كلامه اللد وليمة جديدة للسخرية الجائعة التي لم تشبعها الكتب المقدسة كلها ولا آراء الحكماء ولا آمال الإنسانية، استحال ذلك فيها من السرف والضراوة إلى غذاء جعلها قوية وإلى قوة جعلتها أشد نهما إلى الغذاء.
وإذا مس أحدكم الضر لم ير بأسا أن يفكر في الله وأن يرفع إلى السماء عينا لا تثبت في محجريها من الزيغ والقلق كأنه يتكلم بها في ترددها وانقلابها فيقول نعم ولا، ولا ونعم؛ وكلما أراد أن يغمضها رأى في باطنه قوة تفتحها برغمه لتريه السماء السماء، بل لتريه برهان السماء؛ فلا يعود إلى إلحاده إلا وهو مؤمن بأنه ملحد وشاك في أنه مؤمن بذلك؛ ولولا هذا الشك، بل ولولا صناعة العقل لكان في كل شر يصيب أحد الملحدين خير للإيمان كثير.
وليت شعري ماذا يراك الملحد أيها القمر؟ إنه لا موضع في قلبه للحب؛ لأن الحب مؤمن، ولا مظهر في نفسه للجمال؛ لأنها مظلمة يسطع فيها جمال الشمس ولا يجاوز في عينه منظر جمرة تلتهب أو قرص من السرجين يشتعل؛
صفحه نامشخص