وفي خفوت الضحك اختلط صوت شريف والفتاة وهما يقولان: ما لك يا أستاذ؟ - ما الذي يضحكك يا ست؟
وعادا يضحكان مرة أخرى، وراحت هي تقول بألفاظ يقطعها الضحك: أنا أضحك منك وأنت؟
وتجهم وجهه فجأة وقال: مني! مني أنا! أكل هذا الضحك، مني أنا، أنا يا ست؟ - نعم منك. - هل أنا مضحك إلى هذا الحد؟ - وأكثر. - ولماذا؟ - ألا تعرف؟! - إن كان وجهي على ما أعهد فأنا لا أعرف أنه يضحك إلى هذا الحد. - لا ليس وجهك. - أهي ملابسي إذن؟ - أبدا، أبدا. - إذن. - أتقصد أنك لا تعرف؟ - لا أعرف في شيئا يضحك إلى هذا الحد. - أفهم من هذا أنك لم تحس أنك كنت تكلم نفسك. - ماذا قلت لنفسي؟
وراحت تقلد صوته وهي تقول: مسكين. لا حول ولا قوة إلا بالله. - أهذا يضحك؟ - وهل يمكن ألا أضحك؟! - ألم تقدري أنني أقرأ شيئا يستدعي الشفقة؟ أكل ما أهمك من الأمر أنني كنت أكلم نفسي؟ ألم تفكري لحظة قبل أن تضحكي في هذا الذي كنت أقرأ خطابه؟ - يبدو أنك تريد أن تقلبها إلى نكد. - قولي لي يا آنسة، هل عرفت النكد طوال عمرك؟ - يا أخي افرجها، ألا تعرف أنت الفرح؟ - الفرح ...
وعاد إلى فرحته الحبيسة، ونظر إلى الفتاة الفاتنة ولاحظ فتنتها لأول مرة، ولكنه لم يحس نفسه مأخوذا بجمالها، أحس فيها شيئا يمنعه أن يعجب بها، وعادت تقول: ألا تعرف الفرح؟
ونظر إليها مليا، ثم وضع الخطابات في درج مكتبه، وقال في جد: عن إذنك.
وخرج من الغرفة، يحمل في نفسه فرحته الحبيسة وآلام القراء، وضحك الفتاة وجمالها الذي لم يذهله. تختلط المعاني والصور جميعها في نفسه، فلا يكاد يفكر في شيء حتى يثب آخر إلى سطح تفكيره، ولكن فكرة الفرح الحبيس كانت أقوى هذه المعاني في نفسه. لماذا لم تفرح زوجته معه؟ لماذا؟ وركب وفكر في القصة التي فازت؛ إنها عن الحب الزوجي، عن الحياة الحلوة في ظل الزوجية. كلام قصاصين، من يقرأ قصته يظنه أسعد زوج في العالم. كلا. نعم إن زوجتي لا بأس بها؛ فهي تحبني وأحبها، ولكن لماذا لا تنتشي معي حين أكون سعيدا؟ ولماذا لا أرى الشقاء كاملا على وجهها حين أكون تعسا؟ لماذا؟ أكنت أحب أن أرى الشقاء على وجهها حين أنا تعس؟ إذن فتعاستي حينئذ تعاستان، بؤسي بؤسان، ولكني أحب أن أراها طائرة من الفرح إذا سعدت. ولكن لماذا لا أنخدع أنا بكامن الفرح في نفسها؟ أنا فرحان، لماذا لا أدعوها الليلة إلى العشاء في الخارج، ثم نذهب معا إلى السينما أو إلى الهواء في الهرم، أو إلى أي مكان؟ وبلغ بيته ودخل إلى البهو، وكانت زوجته بجانب التليفون ورآها وهي تضع السماعة دون أن تتكلم، وسألها: ماذا؟ لماذا وضعت السماعة؟ - النمرة مشغولة. - آه.
وتركها ودخل إلى حجرته دون أن يدعوها إلى شيء، لماذا؟ لا يدري. استلقى على السرير وراح يفكر مرة أخرى، إنه فرحان، وراح يفكر أيضا أنه لم يقدم إلى نفسه شيئا يشعرها به أنه فرحان، وجاءه صوت قرص التليفون وهو يستدير، ثم صوت زوجته وكأنه يهمس فأصاخ السمع: ألو نينا ... أطلبك من ساعة، مع من كنت تتكلمين؟ أنا ... كنت أكلم صاحباتي ... لا عليك ... تصوري ... تصوري يا نينا ... شريف طلع الأول في مسابقة القصة. أنا فرحانة جدا يا نينا ... أنا فخورة به ... لا ... المسألة ليست مسألة فلوس ... إنما أنا فرحانة ... لماذا؟ ... لماذا كيف؟ ... لأنه فرحان ... ولأنه فنان ... ولأنه زوجي. أنا فرحانة يا نينا.
وأحس شريف لأول مرة منذ طالع الجريدة أن فرحته قد أفرج عنها، وأنها موجودة، وأنه سعيد، وأنه أسعد إنسان في العالم. وفي صوت يرتعش بالنشوة نادى من غرفة النوم: سهير.
وقالت سهير دون أن تبين في صوتها نبرة خاصة: هه. - الليلة نتعشى في سميراميس في السطح، ونذهب بعد ذلك إلى الفيلم الذي قلت لي عليه.
صفحه نامشخص