التلميذ :
ومن هم الشمامون إذن؟ وعدتني مرارا بتوضيح أمرهم.
الساحر :
نعم، وقد حان الوقت، فاعلم أن من الناس من يملكون في أرواحهم حاسة شم دقيقة سريعة التأثر والانفعال، وهي أشبه ما تكون بحاسة الشم عند الحشرات والحيوان كالذباب والقطط والكلاب والخنازير مثلا، وليست حقارتهم في قوة حاسة الشم في روحهم، بل في سيطرتها على كيانهم، وفي تفضيلهم لخبيث الروائح ونتنها، فلا يكادون يشمون تلك الروائح، حتى يهرعوا إليها، ويداوروا من تنبعث عنه حتى ينالوا مأربهم، وليست هذه المآرب سوى منافع مادية أو زهو وهم لجاه يؤدي إليها، ومهما تضخمت هذه المنافع فإنها تظل حقيرة، ولكن تعلقهم بها يسهل لأصحاب المطامع والشهوات الكبيرة أن يستخدموهم وهم بهم ساخرون، وهؤلاء الشمامون قديرون على تصنع الوفاء والغيرة والإخلاص بشكل عجيب، فإذا اتصلت بك رائحة تستهويهم، فلا تنخدع بهم، بل استخدمهم على حذر، وإياك أن تشبعهم، فصولة اللئيم إذا ما شبع خطرة مؤذية، وهم في لؤمهم هذا لا يحللون ولا يحرمون، وإنما وراء الروائح الكريهة الخبيثة يسيرون ويعدون، ولا يهمهم إلا الساعة التي يكونون فيها، فأنت العظيم الكريم، ما دامت أنوفهم تستلذ روائح دراهمك أو وجاهتك، وتوصلهم في انتشارها إلى أحقر الشهوات، وأنت الحقير الشحيح ما دمت لا تسيغ لهم أن يستغلوا ضميرك، أو أن يستهينوا بمبادئك، فلا إباء لهم، بل يهزءون من الكرامة، فالشهوة والانتهاز والوصول دوما على جثث المخلصين هي ديدنهم في الحياة، وما أقدرهم على قلب الحقائق وإلباس الشر لباس الخير، إننا نستخدمهم ونحتقرهم ونحذرهم، متذكرين الحكمة الخالدة: احذر صولة الكريم إذا جاع، وصولة اللئيم إذا شبع، وهؤلاء الشمامون هم اللؤم مجسما، يتصنعون الوفاء وهم الغدر ذاته، ويفتعلون الكرم وهم الشح نفسه، ويتظاهرون بالإخلاص وهم للخيانة تماثيلها، ويدورون مع روائح الإمكانات، حيث تدور مهما خبثت ونتنت انسياقا متملقا، لا إرادة معه ولا وجدان ولا حرية، وإذا ما ذكرت لهم الإباء والكرامة والعزة، ابتسموا ساخرين؛ لأنك مغفل، تصدق بوجود ما لا يمكن أن يكون.
فابتسم التلميذ ابتسامة، فسرها الساحر بالاقتناع، ولكن الشاب أسر في نفسه الاعتقاد بأن أستاذه هذا هو من أمكر الشمامين، ولكن هل يخدع نفسه فيصورهم على حقيقتهم، ويعتقد أنه ليس منهم في الصميم؟ وكان قد حان موعد النوم، فأوى كل منهما إلى فراشه؛ ليخلوا بأحلامه وآماله وأمانيه، بعد أن تمنى كل منهما لصاحبه ليلة سعيدة وصباحا خيرا.
الفصل الرابع والعشرون
قال الراوي: كانت الأشهر الستة أعجوبة من أعجوبات الدهر في سخريته بالناس واحتقاره لهم، فالأستاذ الجليل أو الساحر المشعوذ نسي التاج بل تناساه، وأخذ بالتفكير في طرق استغلال الدولة لمصلحته، فطلب إلى تلميذه أن يستدعي جميع التلاميذ المنتشرين في أرجاء المملكة، وقد كان هيأهم كما يهيئ تلميذه هذا إلى مثل هذه الفرصة تسنح، فيغتصب فيها حقوقا لغيره، ويسلب الناس حريتهم أموالهم ما أمكنه ذلك، ويتمتع بالولائم والحفلات وبالتصفيق والتطبيل، ثم يمكن لنفسه مركزا ومكانة، يستمر معهما استغلاله هذا وكبرياؤه وغطرسته وشعوذة التدجيل.
حضر التلاميذ، وقد تجاوزوا نصف المائة باثنين أو ثلاثة أو خمسة، تردد الراوي في إحصاء العدد، ولكنهم كانوا جميعا من شياطين الإنس وعفاريت جهنم في فساد النية، وفغر الأفواه للزلع والبلع، وللنطق بما يرضي المحسنين، ولو سرقوا وسلبوا وخدعوا الحراس، ونقموا من المخلصين الصادقين، ولو شاهدت همزهم ولمزهم لاستعذت بالله من شياطين الإنس، يؤذون الناس أكثر من استعاذتك من شياطين مارج النار، ولا غرو في أن تكون هذه حال من يكون ذلك المشعوذ أستاذه.
أفهم الساحر المشعوذ تلامذته بأنهم قادمون على عهد كله خير وبركة، إذا ما أخلصوا له الخدمة والنصح، ووعدهم بالوظائف ذات الريع السمين، والموارد التي لا تنضب، مع سطوة ونفوذ ومكانة، فابتسموا ابتسامة عميقة، رفعوا معها الرءوس، وأغمضوا العيون مع ضم الشفاه في كل فم اثنتان، وكأنهم في غيبوبة مرحة، يعبرون عن فرحهم وابتهاجهم مع غبطة واطمئنان، ثم وعدوا أستاذهم بالوفاء والإخلاص والتضحية، فأوصاهم بما تجب ملاحظته وبما يفرض عليهم عمله لتأمين الدعاوة له ولمحاسيبه وأوليائه، مع موافاته دائما بما يتجسسون له من أخبار، وانصرفوا آملين، وقد صمموا على أن يتجنبوا كل ما يدعو إليه الوطن والدين من مبادئ وأخلاق ومناقب، في سبيل الوصول والانتهاز.
كان من مظاهر هذه الفترة من الزمن، أن التجسس على أعراض الناس قد انتهى في الظاهر، ولكن أمر هتك تلك الأعراض قد استفحل إغراء بالأموال أو احتيالا بالوعود أو قسرا بالتهديد والوعيد، أو إغراء واحتيالا وقسرا بأساليب الشعوذة والتدجيل، وتحايل الإنسان لا يحده إحصاء ولا حصر متى فسد، ولا سيما إذا ما استحكم مبدأ التغطية، فأصبحت ترى هؤلاء الفاسدين المفسدين، أو الراشين المرتشين، أو المستغلين السالبين يصفق لهم ويزمر ويطبل، وتلقى بين أيديهم مصالح الناس، ويرفعون على الأكف، وينسب إليهم من الصفات والمناقب ما لا يتصف به سوى المصلحين من أنبياء وحكماء وأولياء قديسين، ولعل الأنكى في المجتمع ألا يكتفي هؤلاء بالتجارة بعواطف الناس، إذ يعملون على الانحراف بها، بل يلعبون بعقولهم أيضا، فيتاجرون بالعلم لينحرفوا بتلك العقول وقد عم الخطب في هذه الأشهر الستة، لدرجة أصبح الغافلون من الناس يقولون: ماذا تريد؟ هذه هي الحياة: شعوذة وتدجيل وخداع ومداورة، والغنم للأذكياء الذين يعرفون كيف تؤكل لحمة الكتف، ومتى استسلم الإنسان لمظاهر الفساد، وقبل به كتيار لا تمكن مقاومته، تهيأ بحكم نواميس الحياة ليكون لقمة سائغة للغير، فيستعبد ويصبح تابعا لا يحق له أن يطالب بالتحرر والاستقلال، وقد يبلغ في انهياره هذا حدا يستلذ معه الاستعباد، ولا هم له سوى ترفه، فيشتد الخطر ويهدد بالتشرد عن الأوطان.
صفحه نامشخص