والآن باشرا تدوير الأعين وزمجرا وأتقنا الهذيان، فإنني أسمع سعال الأستاذ وخطواته.
الفصل الثاني والعشرون
قال الراوي: دخل الأستاذ الجليل - وعلى وجهه أمارات رصانة مضطربة هادئة، ومنكمشة منطلقة، تناقضت فيها المعاني وغمضت: أكان لوضعه في انسياقه لشرهه أثر ما في نفس الملك؟! أم أن تغطيته الصوفية كانت كافية؟ ولا غرابة في تردده، فالمحتال - وهو يعرف نفسه - يظل في اضطراب داخلي لما يخشاه من انكشاف حاله، فكيف إذا ما بدر في تصرفه ما ينذر بظهور الحقيقة وجلائها، ولعل هذا الوضع هو الذي يدفع المحتال ولا سيما إذا كان من ذوي المكانات المرموقة إلى الانكماش حتى التواري في بعض الظروف، وإلى الكبر حتى الغطرسة في بعضها الآخر، وقد يمهر بعضهم في الاحتيال لدرجة يستطيع معها إخفاء كمده وانكماشه، والظهور بمظهر المطمئنين المغبوطين، ولكن أسارير وجهه تدل دائما على ما في فؤاده وسريرته، وإن غالى في إظهار التواضع المصطنع.
وعلى كل، فالأستاذ المشعوذ كان غامضا في رصانته، وما وقعت عيناه على الشباب حتى حياهم مظهرا التغاضي عن شتائم الشابين ووضعهما المجنون، ومبتسما ابتسامة أدرك التلميذ مغزاها، إذ كانت تعبر عن استفهام في جلاء ما وقع، فأجابه: كما ترى يا مولاي، لم أستطع معهما شيئا، فهز الساحر رأسه قائلا: سترى فعل السحر، ثم حدج الشابين بنظرة حادة ثابتة دون أن يكلمهما ودخل إلى غرفته، وما توارى حتى ابتسم الجميع، وكادوا يضجون في الضحك، لولا أن تمثيل الرواية يقتضي شيئا من الرصانة والجدية.
عاد الساحر ومعه كتاب كبير، واتجه نحو الشابين عابسا يدمدم ويتمتم بكلام غير مفهوم، ثم أخذ يهمهم كالرعد مثبتا نظراته الحادة في الشابين وكأنه يحاول أن يرميهما بأسهم من شرر شظايا نار قلبه، كان منظره مخيفا، لولا أن الشباب الواعي لا يخاف، هدأ الساحر برهة وصمت، ثم أخذ يشزرهما بعينين تتهيآن لقتال عنيف، ثم فتح الكتاب، وأخذ يتلو ما فيه من أسماء وتعاويذ، ويرسم الطلاسم ويكتبها، ويندد ويهدد، ويرتفع وينخفض، ويهدأ ويثور، حتى كاد الشابان يكلان وهو لا يكل ولا يتعب ولا يعيا، ولم يكن أحد هنا يفهم منه شيئا حتى ولا تلميذه، إنه لم ينضج - في نظره - بعد ليتلقى سر المهنة.
وأخيرا طوى الكتاب، ووضعه على طاولة كانت بجانبه، وعاود نظراته الحادة الثابتة ذات الشرر، إنه كان يهيئ نفسه لإلقاء أبواب من السحر، وهي في هذه المناسبات أبواب الرجفة والخوف والرعب، ثم يرسل شياطين الوهم والخضوع والاستسلام، إلى ما هنالك من أبواب، وما استكمل إعداد ذاته حسب زعمه حتى صرخ بصوت داو: إلي يا شمشريخا ويا شمشريخ، ويا شمرخايا ويا شمروخ، ويا عربدانة ويا عربدون، إلي إلي أيها الملوك من أحمر وأسود وأزرق وأبلق و... و... إلي أيتها الجن والشياطين والعفاريت، وما انتهى من تعداد هذه الأسماء المخيفة بصوته الداوي العريض حتى وضع يده اليمنى على رأس الشاب الأول، واليسرى على رأس الثاني، ثم صرخ سائلا وهو يحدج بنظره الأول: من أنت أيها اللعين؟ فأجابه صوت أجش خافت: أنا الزعازيع أيها الساحر الكبير، ولولا ما تتلو من أسماء لقتلتك.
الساحر :
ومن أتباع أي ملك أنت؟
الشيطان :
من أتباع الملك الأحمر، وسينتقم لي منك لما أزعجتني.
صفحه نامشخص