فاندفع آخر من الرفاق، وقال: لا تختلفا فيما بينكما، ولنكن منصفين، فكلنا أبو حمشو، نتاجر بالكلمات، ويخدع بعضنا بعضا بسحر الألفاظ والحروف، وكل يفتش عن صيده.
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات
هذه هي الحياة، وهذا هو الإنسان الحي.
فلم يقبل الكهل الصامت كلام هذا الأخير على علاته، فأوضح المشكلة بقوله: صدقت في قولك: «كلنا أبو حمشو»، ولكنك أخطأت في اعتقادك أن هذه الحالة هي ناموس الحياة على إطلاقها، وأنها هي التي تعبر عن إنسانية الإنسان في مطلق وجوده؛ إن للحياة نواميس، بها تتم النهضات، ونواميس بها يتحقق الانهيار، ونحن الآن في دور انهيار مخيف، مظهره هذه السجايا والصفات، والخطر محدق بنا إذا استمرت هذه الحالات مسيطرة، نتلهى بتعليلها لنجد مبررا لها، وشداد على الأبواب.
ما لك لا تذكر حالنا عندما نزعنا عن أعناقنا نير هذا الملك؟ أكنا نتاجر بالكلام، ونخدع الناس بتزويقه، ونأخذهم بسحر ألفاظه وحروفه؟ والله، لو كان أمر الأمة في ذلك الدور كما تقول لما نزع عنا نير، والآن نحن مهددون بعودة هذا النير إذا لم نعد لسجايا النهضة وأخلاقها، ولا منفذ لشداد إلينا إلا بسجايا أدوار الانهيار.
لم يخلق الإنسان عبثا، وللحياة فينا أهداف، لا تطمئن نفوسنا إلا بها، إنها تستهدف مثلا عليا وقيما سامية ما خلق الإنسان إلا لتحقيقها في تفاعله مع مجتمعه؛ لسعادة ذلك المجتمع، فتتحقق سعادته بسعادة الآخرين، هذه هي غاية الغايات في تطورات الحياة، وهذا هو الهدف الذي يجب أن يرمي إليه الإنسان في استكمال إنسانيته وحضارته، فإذا ما انحرف عنهما، انتقمت منه الحياة، فيبتلى بالاضطراب والبلبلة في تفكيره وشعوره، وتتكون في نفسه وفي مجتمعه أزمات يختل معها التوازن، ولا ينقذه منها سوى اختمار نفسه الإنسانية بخميرة مجتمعه ليستعيد توازنه، وإلا اضطر لإعلان إفلاسه، فيكون كالساعي إلى حتفه بظلفه.
وإنني أرى أننا بين تيارين: تيار صالح باستطاعته إنقاذنا، وهو التيار الذي يدفعنا به ذلك الأستاذ الحكيم لننهض، وتيار فاسد نخشى أن يعيد النير إلى أعناقنا، هو تيار الشعوذة، ينضم لتأييدها وتقويتها هذا المشعوذ الذي تلقبونه بالأستاذ الجليل، وما هو إلا دجال مكار، أنقذنا الله من شره وبلائه!
وهكذا تفرق الرفاق كل إلى منزله بعد نقاش وحوار وجدال، لم تسفر نتائجها عن أية خطة مشتركة أو تصميم جدي، سوى ما قرره كل فرد في نفسه ولنفسه.
فسبحان من أودع في كل قلب ما أشغله!
صفحه نامشخص