ما سمع الملك همسه هذا حتى أصدر أوامره بأن توصد أبواب القاعة، وألا يؤذن لأحد بالاقتراب منها مهما كان شأنه.
أظهر الساحر ارتياحه لاهتمام الملك بحديثه، فعدل جلسته وأخذ يحدد نظراته في وجه صاحب الجلالة، ويثبتها بعد أن كانت تائهة مضطربة حائرة، وما لبث أن أصبح في وضع أشبه ما يكون بمن يتحفز للاقتناص، وقد كان هدفه في الحقيقة اقتناص قلب الملك وعقله، ثم أخذ يهدر متمتما مهمهما مدمدما، كالغضب الخائف الذي يتردد بين الإقدام والإحجام؛ ليوهم مراقب أوضاعه أن الأمر خطير، وما شعر بأنه لم يبق في صدر الملك للصبر مجال - وهو الوضع الذي يستدرج إليه المشعوذ فريسته؛ لتصبح في أقصى حدود الاستعداد لقبول ما يقول وما يطلب - حتى أنهى همهماته ودمدماته بقوله: لن يبلغوا مقاصدهم الخبيثة، الله موجود، وهو الإله الحق الذي يكلأ العادلين، ويحفظهم من الأشرار، يا ملك الزمان! إن الله قد منحك العقل والحكمة، وأنعم عليك بأعظم ما ينعم به على الملوك، إذ تطيب نفسك بإقامة العدل بين الناس، ولكن بطانة السوء وأشرار المشيرين سيعود كيدهم إلى نحرهم، لم يرد بك ولا بالمملكة خيرا من أشار بالتجسس على الناس، وإذا أحب الناس العدل فإنما يحبونه لما يحقق من حريات، وما كانوا يرغبون في العدل لولا أنه يردع الناس عن أن يتعرض بعضهم لحرية بعض. لا شيء أثمن من الحرية على الإنسان؛ إنها هي ذاته، فلا يكون إنسانا إلا بها، والحرية يا صاحب الجلالة هي ميزان العدل، فكل عمل يحجز على الناس حرية من حرياتهم، دون مسوغ إنساني يقضي به المجتمع في حرصه على حرية الجميع، هو ظلم تنتج عنه أوخم العواقب، ويكفي الناس أن يشعروا بأنهم مراقبون ولا سيما في أعراضهم؛ حتى يجدوا لفقد الحرية في نفوسهم لوعة من يفارقه حبيبه، وألم من تبتر أعضاؤه عضوا عضوا، ماذا أراد من أشار بإيقاع هذا الحيف بالرعية؟ أراد أن يخدم بذلك أجنبيا رشاه؟ أم أراد أن يساعد أحد الطامعين بالعرش، وقد غره بوعوده؟
ما بلغ الساحر في حديثه حدود هذا الاتهام الغامض، حتى افتر ثغر الملك عن ابتسامة رضى، ثم أخذ يتأمل في نفسه تأمل المعجب بما سمع، فتوقف الساحر عن الكلام مبتهجا ببوادر الصيد، ولا تخدعن يا عزيزي القارئ كما خدع الملك؛ فساحرنا عالم خبير، لا يبدأ إلا بما هو معقول، تشع منه أمارات التكهن والإخلاص، شأن كل مشعوذ محنك، فانتظر.
سكت الساحر احتراما لتأملات الملك، ولكن هذا لم يلبث أن استفاق من تأملاته هذه، وأجاب على الأسئلة بقوله: بل للسببين معا؛ فهناك سر لم أبح لك به؛ لما هو عليه من خطر أولا، ثم لأنني لم أستكمل الأدلة كلها بعد، فشداد ملك البلاد المجاورة هو ممن وفقني الله لإخضاعهم من الملوك، بعد أن كان يسيطر على سياسة مملكتي ويسيرها كما يشاء، فهو يعمل على استرجاع سيطرته، وعلى الانتقام ممن انتصر عليه، ولم يجد وسيلة إلا في إفساد ضمائر بعض الخاصة من وزراء ومشيرين، وفي إطماع ابن أخي في العرش، وهو شاب مستهتر مسرف ضيق التفكير، فهؤلاء الخاصة في دفعهم لي لاتخاذ هذا التجسس على الرعية، إنما كانوا يعملون للأجنبي وللطامع في العرش معا، فهم أبناء حرام ولا شك، والتجسس ذاته خدعني حين سجلهم في سجل أبناء الحلال، فالأمر خطير، واعتمادي على عملك وبعد نظرك، وقدرتك على الاطلاع على الغيب في تدارك هذه الأمور، ففكر مليا، فإنني أثق باطلاعك كما أثق بنفسي، وإلى الغد، وقد حان موعد اجتماعي بمن وعدني باستكمال الأدلة الجرمية اليوم.
الفصل الثالث
قال الراوي: خرج الساحر من خلوته بالملك وهو يكاد يشعر أنه يطير في الهواء ولا يسير على الأرض؛ لشدة ما أثر في نفسه فرح النجاح، وقد زاد في انبساط نفسه وابتهاجه، ما لاحظه من التملق البارز في تحيات رجال القصر، وفي انحناءات الأتباع والخدم، حتى أوشك أن يرى نفسه وقد أصبح صولجان الملك في يده يقلب به قلوب الناس. سار من باب القاعة وقد أحاط به بعض رجال البلاط وموظفيه، يشيعونه بقلوبهم وعيونهم وجميع جوارحهم، حتى بلغ رتاج القصر، فوجد مركوبه حاضرا، وكان حصانا أصهب فارها، عليه مظاهر خيلاء الخيول العربية الأصيلة ونفورها، وله مرحها وصهيلها ونشاطها، وما كاد يدنو من ذلك الحصان حتى وجده يضرب الأرض بقوائمه ضربا موقعا، له لحن خاص يعبر به عن زهو الخيول الأصيلة وتيهها، وعن تمردها على الحياة، فهي ترى أنها إنما تسام خسفا في سيرها على الأرض، وهي الجديرة بأن يكون ميدان جريها أجواء السماء.
امتطى الساحر ذلك الجواد الكريم بعد أن أعانه بعض الأتباع، شأن المزيفين من العظماء متى أرادوا الركوب، فبعض الناس يمسكون بالركاب تذللا، والآخر يقبض على اللجام تملقا، وآخرون يحيطون بهم تمويها في زيادة الاحتياط، والعظماء العظماء يأبون هذه المظاهر الكاذبة، ويخجلون منها ما دامت قد تدل على الكسل والعجز، واسترخاء الترف أو كبرياء الصلف! وهذه الصفات وما يماثلها لا تليق بالعظيم الأصيل في عظمته المعتد برجولته، ولم يشعر ذلك المشعوذ بأنه أصبح على متن ذلك الحصان الجواد مالكا لقياده، حتى انتقلت إليه عدوى الخيلاء زيفا، فكان مظهرها غطرسة ممقوتة، كما كان زيف النفور والمرح والنشاط والصهيل، وهي كلها صفات محببة في الخيول، وفي غيرها ما دامت طبيعية أصيلة، سماجة وكبرياء، وزهوا وتصنعا، وهديرا يشبه هدير البعير.
أما الشعب، ذلك الشعب الساذج المغفل الغارق في أحلام أوهامه، ولا سيما أوهام السلطة والعزة والنفوذ، والمأخوذ ببريق مظاهر التمويه والزركشة، وبأكاذيب سراب العز ووهم الأمجاد، وبخداع التدجيل بشكلياتها وظواهرها، إن ذلك الشعب المسكين ما كاد يسترق السمع، بباعث حب الاستطلاع، أو أنه سرق سمعه بفعل الدعاية والتغرير، فعلم بما كان للساحر عند الملك من حظوة ورعاية، حتى أخذ يبث العيون مستطلعا عن موعد انتهاء هذه الزيارة؛ ليتمتع بنفحة الملك والسلطان تتصل بأحد الرعايا السوقة العاديين، فكأن الإنسان يكفيه في نظرهم أن يتصل بالملك وبذوي السلطان ليخلق خلقا جديدا، ويكفيه أن يستقبل في تلك القصور ليستعير قبس نور المجد ويلبس رداءه، وهل للإنسان أية قيمة ذاتية إذا لم يتصل بظل الله على الأرض، أو بمن والاه واتصلت به نفحة من نفحاته؟ إنها صوفية الشعوب الجاهلة كيانها، الذاهلة عن ذاتها والمستسلمة لظواهر الحياة، ولمظاهرها وشكلياتها، ماذا تريد من شعب يغفل عن ذاته، وينسى أنه هو مصدر السلطة والعظمة والمجد، وأنه هو الذي يرفع ويخفض ، وهو الذي يعز ويذل، وهو الذي يسدد الخطى أو يضل، بفعل ما أودعه الله في كيانيه الفردي والاجتماعي من قوى وإرادة وتفكير؟
لم يعلم ذلك الشعب المضلل المستسلم بخروج الساحر من قصر الملك على الشكل الذي وصفناه، حتى ترك أعماله ووقف صفوفا متراصة على جانبي الطريق، فمن الناس من كان يحيي المشعوذ عند مروره بالانحناء، ومنهم من حياه بالهتاف والصراخ، ومنهم من اكتفى بذهول غيبوبة التأمل والإعجاب، مأخوذا بصوفية عبادة المظاهر والشكليات، وما كانت هذه الحفاوة إلا لتزيد في غرور الخيلاء، إذا ما بعثها في نفس المغرور استسلام الشعب إليه، إنها تنقلب لاستخفاف يحتقر معه بغروره ذلك الشعب المنعم، وهذا ما ظهر على وجه ذلك المشعوذ، وقد كانت ابتسامته الصفراء الهازئة تنم عن احتقاره لهؤلاء السوقة السذج، وتعبر عن استخفافه بهم، وقد عبر عن سخريته هذه لمن بجانبه من الأتباع بقوله: إنهم حقا طيبو القلوب هؤلاء الناس.
وكان في هذه الصفوف شاب تطل الحياة جديدة من عينيه، وهل الشباب في حقيقة معناه سوى إطلالة جديدة للحياة على الوجود، تريده مستمرا في تجدده؟ وكان هذا الشاب - ولم يكد يبلغ الموكب نصف طريقه - قد شعر بما يرتسم على وجه ذلك الساحر المشعوذ المغرور من استخفاف وهزء واحتقار، وبما تفتر عنه شفتاه من سخرية وخبث ولؤم، فالتفت إلى ذلك الجمع، وصرخ قائلا: ما هذا الحمق الساذج الأبله؟ مر بكم هذا الرجل على أتانه قبل ساعات فلم تأبهوا له ولم تكترثوا لمروره، وأعلم أن كثيرين منكم كانوا يرمونه بالكذب والدجل والتمويه، فما بالكم وقد فتنتم به الآن؟! هل للسلطة عصا سحرية لا تلمس أحدا إلا ويصبح أهلا لأن يفتتن به الناس سواء أعمل أم لم يعمل؟! وسواء لديكم أكان ضارا أم نافعا؟ شريرا أم خيرا؟ ماذا عمل هذا الرجل؟ أفتح لكم بلادا جديدة أم أمنكم من خوف؟! أأنقذكم من مجاعة أم حفظ لكم أرواحكم وأموالكم وأخصب أرضكم؟! أية نهضة حققها في ميادين العلم والسياسة والاقتصاد؟! ما هو أثره في المجتمع حتى يفتتن به المجتمع ؟! يا مغفلون! إن عملكم هذا سخف وحمق إن لم أقل نفاق وجنون! إنها الشعوذة تفتك بالمجتمع.
صفحه نامشخص