كانت «الكلمة» مدار الحياة فيما مضى، فأصبحت الآلة هي المدار ، وإذا قلنا «الكلمة» فقد أشرنا بالتالي، إلى ما تنطوي عليه من خلجات الفؤاد، وكذلك إذا قلنا «الآلة» فإنما قصدنا، إلى ما تنطوي عليه من علوم! وبعبارة يسهل على القراء حفظها نقول: إن النقلة الحضارية هي من مرحلة الكلامولوجيا - أو الكلام بكل ما يتعلق به من قواعد ومقاييس - إلى مرحلة التكنولوجيا، أو أجهزة الصنع بكل ما يتعلق بها من علوم. بالطبع لم يخل عصر من أجهزة وآلات، ولا يخلو عصرنا من جانب الكلام، غير أن طابع العصر مستمد من العنصر الموجه لتيار الحياة، ولقد كان هذا الموجه هو الكلمات في شتى صورها، وأصبح موجهنا اليوم هو الآلات وعلومها.
لقد أراد كاتب إنجليزي معاصر - هو الدكتور ليفس المفكر والناقد الأدبي، الذي بذل جهودا مثمرة في مراجعة القيم، التي نقيس بها الأدب والحياة معا - أراد هذا الكاتب أن يصور عصورنا في عبارة موجزة مكثفة، تحمل أخص خصائصه المميزة، فقال ما معناه إنه عصر «تكنولوجي بنتامي»، أي إنه عصر يقيم نشاطه على العلوم الطبيعية مجسدة في أجهزة، كما أنه عصر يجعل معيار التقويم لأي شيء، أو أي فعل ما ينجم عنه من منفعة؛ هذا هو عصرنا لمن أراد أن يعيش فيه: آلات ومنافع، ولنلحظ هنا أن ليفس حين أصدر كتابه الأخير، الذي ذكر فيه هذا القول، إنما أراد به أن يقاوم هذا الغلو في التعويل على الآلة، وعلى مقياس النفع دون سواه، لكن حقيقة العصر تبقى هي ما هي، سواء أحبها من أحبها أو كرهها من كرهها، إنه عصر لم يفسح في ساحته إلا أضيق مكان، للفتى الذي أشار إليه شاعرنا القديم، والذي نصفه فؤاد ونصفه الآخر لسان.
وللقارئ بعد هذا كله أن يقدر لنفسه، كم أسهمنا في دنيا العلوم وأجهزتها؟ وكم التزمنا في سلوكنا بمعيار المنفعة وحدها؟ ثم له أن يقدر كذلك كم فينا - إلى هذه الساعة - من فتيان جعلوا نصف حيواتهم لعواطف الأفئدة، ونصفها الثاني لزوابع الكلمات، ينطق بها المتحدثون شفاها، أو تجري بها أقلام الكاتبين في الصحف؟
استيفاء «الشكل» اللفظي والورقي هو - في معظم الحالات - كل شيء عندنا، فهل ملئت الاستمارات وكتبت التقارير؟ هل اجتمعت اللجان ودار فيها الحوار وسجل في محاضر؟ هل أشبع المتكلمون والكاتبون فينا العاطفة، وضخموا فينا الشعور بالذات؟ إذا كان ذلك قد تم على الوجه الأكمل، فقد تم لنا كل شيء، السبيل إلى حل مشكلاتنا، هي أن تنعقد مجالس وتأتلف لجان، بعضها يوصف ب «الأعلى»، ويترك بعضها الآخر بغير وصف، ليفهم بأنه «الأدنى»، فإذا ما انعقدت المجالس، وائتلفت اللجان - علياها ودنياها - استراحت فينا الضمائر، ولا عليك بعد ذلك أمر المشكلات.
وهل أنسى صباحا - وكانت الثورة في أيامها الأولى - دق فيه التليفون في ساعة مبكرة، وكان محدثي صديقا، عرفناه أيام الدراسة بطموحه الشديد، نحو صعود سريع في سلم المناصب، وسألني هل أصحب ركبهم في ذلك الصباح إلى جبل المقطم، لافتتاح عملية التشجير هناك، ببضع شجرات تغرس على سبيل البداية المباركة؟ قبلت صحبتهم فرحا بها وبهدفها، ولما أن اجتمع جمعنا هناك، وأخذ من أخذ في غرس الشجيرات، درت ببصري باحثا عن مصدر للماء فوق تلك البقعة الصخرية، فلم تقع عيني على مصدر، وهنا سألت صديقي ذاك: من أين لهذه الشجيرات ماء الري؟ فابتسم ابتسامة أعرفها فيه وأعرف دلالتها، وقال: أما زلت يا فلان «عبيطا»، تأخذ كل الأمور بالجد؟ يا صديقي الطيب إنها «مظاهرة» مفيدة، سواء ازدهرت الشجيرات أم ذبلت، وقبل أن أنسى، أود أن أقول إن صديقي ذلك، قد ولي الوزارة بعدئذ مرتين.
عزلة وسط الزحام
شعور غريب هو ذلك الذي خامر ويخامر نفرا غير قليل من أفذاذ الرجال، وأعني ما يشعرون به من غربة أو من عزلة، برغم وجودهم في أوطانهم بين أهلهم وذويهم، فليكن تعليل هذا الشعور عند هؤلاء ما يكون، فهو على أية حال شعور يدل على أن التجانس الفكري أو الشعوري، ليس كاملا بين هؤلاء وبين من يحيطون بهم، دون أن يكون في الأمر تنكر وعقوق من ناحيتهم، أو أن يكون فيه صواب مؤكد هنا، وخطأ مؤكد هناك، لكن الأعم الأغلب في هؤلاء، أن يكونوا أنفذ فكرا وأغزر شعورا من عامة الناس، فأولئك بالنسبة لهؤلاء كجبال شمخت برءوسها العالية، التي تجاوز منطقة السحاب؛ فتصفو لها الرؤية دائما، على اختلاف في ذلك مع السهول، التي قد تجثم عليها طبقات كثيفة من السحاب، تحجب عنها رؤية الشمس إلى حين.
مثل هذه الغربة أو العزلة، التي قد تنتاب المرء، وهو بين أهله ومواطنيه، أحسها أبو حيان التوحيدي، فقال وهو بصدد تصويره بقلمه البارع وفكره اللماح: «... أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه.» فلماذا أحس التوحيدي هذه الغربة الغريبة؟ لا بد أن يكون ذلك لفجوة فصلت بينه وبين سائر الناس، كأن يرى نفسه جادا ويراهم هازلين، أو أن يرى نفسه صادقا ويراهم كاذبين، فتوجه إليهم بقول فيه حرارة القلب وصفاء النظر: «... إلى متى نعبد الصنم بعد الصنم؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندعي الصدق والكذب شعارنا ودثارنا؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟»
وشعور كهذا أيضا أحسه ابن باجة، فألف كتابا هو من عيون تراثنا الفكري، جعل عنوانه: «تدبير المتوحد»، والمتوحد هو من يحس العزلة في ذاته، برغم أنه يعيش في زحام كثيف من الناس، ويقول في وصفه إنه «الإنسان الفاضل يعيش في مدينة غير فاضلة.» وقد يكون في المجتمع أكثر من فرد واحد من هؤلاء الفاضلين، لكنهم لا يكونون إلا قلة قليلة على كل حال، يسميهم ب «النوابت» (من النبات الذي ينمو من تلقاء نفسه، وكأنه يتحدى عناصر بيئته).
ولقد شاع في عصرنا هذا الحديث عن «اللامنتمي»، ولعل أبرز فرق بين النابتة المنعزل عند ابن باجة، وبين اللامنتمي الشاعر باغتراب عند أدباء عصرنا ومفكريهم، هو أن النوابت كانوا قلة ضئيلة، تميزت من سواد الناس بفكر نافذ أو شعور مرهف، وأما اللامنتمون اليوم فهم الناس أجمعون في عصر الصناعة الراهن، ولكن الجانب المشترك بين مفكر الأمس ومفكر اليوم، هو الرؤية التي ترى في جمرة الناس جماعة تعيش بيولوجيا وفسيولوجيا، لكنها لا تعيش على أسس من المنطق والجمال.
صفحه نامشخص