إننا شعب عاش «حضارات» متتالية، وليس تاريخه الماضي مجرد مئات من السنين أو ألوف منها تتابعت، بل هي «حضارات» تعاقبت! وهذه نقطة يصعب إدراكها للوهلة الأولى، فترانا نكتفي بقولنا: إننا أصحاب تاريخ طوله ستة آلاف أو سبعة آلاف من السنين، ونكاد ننسى أن هذه الآلاف لم تكن كلها - حضارة - واحدة، بل هي «حضارات» أعقب بعضها بعضا، وأهمية هذه النقطة هي أننا ما لم نكن قد فرقنا في أنفسنا بين ما هو ثابت وما هو قابل للتغير، لما ظللنا مصريين على طول هذا التاريخ المديد، بفضل الثوابت المستقرة، ولما استطعنا في الوقت نفسه أن نستبدل حضارة بحضارة، بفضل قبولنا لتغيير ما يجوز عليه أن يتغير.
لقد قيل عن وجدان الشعب المصري إنه معتدل المزاج، فلم يتطرف في حياته الثقافية قط! وما هذا المزاج المعتدل، إلا ما قد أشرت إليه من تفرقة واضحة عندنا، بين ما يجب ثباته وما يجوز تبديله، وبهذا المقياس نستطيع أن نميز فينا بين السوي والمنحرف؛ إذ الانحراف بمقياسنا يكون في الانحصار داخل الجانب الثالث، وقفل الأبواب دون المتغير، أو يكون في الانحصار في هامش المتغيرات، ونبذ الثوابت في كياننا التاريخي.
فلما قلت عن المغفور له الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبي، إنني عرفته عن قرب، فوجدته يجسد وجدان هذا الشعب، فإنما عنيت بذلك القول أنه ممن أدركوا أين حدود الثوابت، وأين يجوز التجديد؛ فكان يجسد بشخصه تلك الصيغة، التي قلنا إنها هي التي تضمن لنا استمرارية الشخصية المصرية، مع ارتقائها في الوقت نفسه على سلم التطور الحضاري، كلما استبدلت الإنسانية حضارة بحضارة.
لقاء في الغربة
لست أنسى بلدا نائيا حللت فيه يوما منذ سنين، وكان آخر ما أتصوره هو أن ألتقي في ذلك المكان القصي، بمن تربطني به الصلات من قريب أو بعيد، لكني ما كدت أستقر في غرفتي من الفندق ساعة، حتى جاءني شابان عربيان، كانا قد سمعا بمقدمي، أحدهما من فلسطين والثاني من لبنان، وكان لأحدهما سيارة، فعرضا أن يدورا بي في السيارة دورة، يطلعانني فيها على معالم الإقليم، ويجدان خلالها فرصة لتبادل الحديث، وكانا فيما يبدوان كأنهما ممتلئان بالأسئلة عن الوطن العربي، ويريدان عنها الجواب؛ فالصحف في ذلك المكان النائي إقليمية، لا تكاد تذكر للقراء شيئا ذا بال، عما يدور خارج حدود الإقليم من تجارة، وأحداث يومية تجري بها حياة الناس.
أحسسنا نحن الثلاثة أننا أفراد أسرة تلاقوا بعد اغتراب، فكان هذا الإحساس نفسه، الذي ملأنا جميعا بنشوة فرحانة، هو ما بدأنا به الحديث، الذي مضينا في أطرافه ساعة أو يزيد، فما الذي كان بيننا لينجذب الواحد منا إلى الآخر، هذا الانجذاب الفطري العجيب؟ كان هذا أول سؤال طرحناه، ووقفت بنا السيارة عند فجوة بين أشجار غابة كثيفة، اكتست بها الجبال هناك من سفوحها الدنيا إلى قممها العالية، وأخرج لنا الشاب الفلسطيني قطعا صغيرة من الحلوى، بعد أن حرص على أن يجمع منا أغلفتها الورقية؛ ليضعها تحت صخرة جاثمة على الأرض، حتى لا نشوه ذلك الفردوس بوريقة لم يكن ذاك مكانها.
وأعدنا على أنفسنا طرح السؤال: ماذا بين العربي والعربي، مما قد تخفى بعض جوانبه، ونحن هناك على أرض الوطن، حتى إذا ما التقينا في الغربة، أحسسناه نبضا في القلوب؟ وما أسرع أن يجاب عن هذا السؤال بقولنا: إنها اللغة الواحدة بيننا، والعقيدة الواحدة، والألم الواحد، والأمل الواحد؛ وكلها عوامل، يكفي الواحد منها أن يكون رباطا، لكنها اجتمعت.
ألقينا السؤال، ثم انصرفنا عنه لنعود إليه بعد حين، وهكذا أخذ السؤال يظهر بيننا ويختفي، لم نأبه له كثيرا؛ لأننا لم نرد أن يكون اجتماعنا هذا حلقة بحث، بمقدار ما أردنا للعروبة الكامنة في دمائنا، أن تعلن عن نفسها في ذلك المكان النائي، عند مرتقى الجبل ومدخل الغابة، حيث لم يكن الهواء في جوف الصمت الشامل، إلا موج كلماتنا العربية نرسلها بعض إلى بعض، منغوما بأحرف العين والغين والصاد والضاد.
إنها هي اللغة العربية بسحرها الساحر وقوتها القاهرة، فقد تشترك بعض شعوب الأرض في اللغة الإسبانية، أو في اللغة البرتغالية، أو في اللغة الإنجليزية، فلا تحس نفسي بضرورة القربى بينهم، وكأنما الكلمات التي يتبادلونها خيوط من الصوت، تذهب بينهم وتجيء، دون أن تحمل معها أنفاس الحياة. ولطالما استمعت إلى أفراد يتفاهمون بالإنجليزية، حتى إذا ما انقضى الأمر المعلق بينهم، ارتد كل منهم إلى أصل غير الأصول التي يرتد إليها الآخرون. وأما اللغة العربية بين أبنائها، فوقعها عندي شيء غير ذلك؛ بين هؤلاء الأبناء كائنات حية مجنحة، وكأنها الطير يترك عشا آمنا؛ ليلوذ عند السامع بعش آمن، بل أعجب من هذا أنني إذا سمعت مستعربا يتحدث إلينا بالعربية التي تعلمها، أحسست بأنه في طريقه إلى أن يكون واحدا من ذوي القربى.
إنها هي اللغة العربية بعمقها العميق، فمجموعات الألفاظ فيها تتعانق، ويتعلق بعضها ببعض، كأنها شجرة الأنساب في عشيرة واحدة، فما تزال اللفظة فيها تؤدي بك إلى سواها، وهذا السوى يؤدي بدوره إلى سواه، حتى تقع على الأصل اللغوي الأصيل، الذي كان بمثابة العين التي تفجر ماؤها، فأخرجت من معدنها الواحد تلك الأسرة اللفظية كلها، حتى لقد قيل عن تشابك المعاني الكثيرة، المنبثقة من جذر لغوي واحد، إنه ذو علاقة بتشابك الأنساب بين القبائل العربية ... ما علينا من ذلك الآن، فالذي أريد قوله، هو أن اللغة العربية بين أبنائها تحمل في عروقها وشائج القربى، إنها ليست كرموز الرياضة، تبنى منها المعادلات، دون أن يكون لها مضمون حيوي ذو وقع في المشاعر، بل هي أقرب إلى القماقم التي تروي لنا عنها الأساطير، بأنها تحبس بين جدرانها مردة تواقة إلى الانطلاق، إذا ما كشف عنها الغطاء. إن «العبارة » في اللغة العربية «عبور»، تنتقل به روح إلى روح، إنها بحكم قواعد إعرابها قابلة للتقديم والتأخير، دون أن يصاب المعنى بسوء، فلا عليك أن تضع الفاعل في أول التركيب، أو في وسطه أو في آخره؛ لأن علامة الرفع فيه ستدل عليه أينما كان، فتكون اللفظة في تركيبها اللغوي، كالمواطن يحمل معه جواز سفره، الدال على وطنه الذي ينتمي إليه، وما كذلك أكثر اللغات.
صفحه نامشخص