ونستطيع أن نمضي في أمثال هذه المقارنات، لكن حسبنا ما ذكرناه لنوضح به ما أردنا توضيحه، تعليقا على الفكرة الرئيسية التي استعرناها من ابن خلدون، عن الصراع الذي ما انفك قائما طوال عصور التاريخ، بين ما أسماه «بداوة» وما أسماه «حضارة»، والذي أردنا توضيحه هو أن هاتين المجموعتين من الصفات والقيم، قد اختلطت إحداهما بالأخرى في مجتمعنا المصري، حتى انتهينا بهذا الخليط إلى وضع فيه ما يصلح لحياتنا المتحضرة، وفيه كذلك ما لا يصلح لها، فمثلا: قد بقيت لنا من صفات البداوة فكرة الأخذ بالثأر (على الأقل في بعض أجزاء البلاد دون بعض)، مع أنها فكرة لا تتسق مع مجموعة الصفات الحضارية، وبقيت لنا كذلك بعض الآثار من احتقار البدوي للحرف اليدوية، مع أن البدوي عندما ازدرى الحرف اليدوية امتشق بدلها السيف ليشغل به يديه، على حين أننا حين تابعناه في هذا الازدراء، أبقينا أيدينا فارغة من أداة القتال، فراغها من أداة العمل، وكذلك بقيت لنا من صفات البداوة تلك «العنطزة»، التي لا يسندها رصيد من حياة النشاط المنتج، مع أن إحدى قيمنا الريفية الحضارية الأصيلة أن نزرع لنحصد.
إننا إذا أردنا تعميرا حضاريا - ونحن نزعم أننا نريد ذلك - تطلب الأمر دراسة تحليلية للقيم السائدة، لنجتث منها رواسب البداوة، حتى لا يبقى بين أيدينا إلا قيم الحضارة، التي هي جزء من أصولنا وجذورنا، على أنه إذا كان الشعور بقلة الأمان والأمن، هو العلة التي نتج عنها ما نتج - في البداوة وفي الحضارة معا - من صفات لا تتفق مع التقدم الحضاري الواثب السريع، فإن أول ما يجب علينا تحقيقه هو بث الشعور بالطمأنينة، وذلك وحده كفيل بإيجاد الخصائص التي يتطلبها التعمير الحضاري المطلوب.
لقد حدث لي ذات يوم أن طلب إلي صديق، كان في موقع المسئولية من حياتنا الثقافية، أن أعاونه في رسم خطة تصلح للهداية فيما ينبغي عمله ليتغير المجتمع، فقدمت له تخطيطا مؤداه أن نغير من بعض القيم على المدى الطويل، فنظر صديقي إلى ما اقترحته عليه، ثم سألني وابتسامة الإشفاق على شفتيه: كم عاما تكفي لتنفيذ هذه الخطة الثقافية؟ فأدركت أنه إنما أراد شيئا ذا مفعول سريع، تبدو فقاقيعه على صفحات الجرائد غدا، وأجبته وابتسامة الإشفاق أيضا على شفتي: ألف عام! وكنت بهذه الإجابة لا أخلو من السخرية، بمن يريدون تغيير المجتمع بين طرفة عين وانتباهتها؛ لأنهم في الحقيقة يريدون الزياط المسموع، ولا يأبهون بعد ذلك للنتائج تمتد في جذورها الراسخة، يريدون الزبد الذي يذهب جفاء، ولا يهتمون لما يمكث في الأرض مما ينفع الناس.
حرية الفلاح المصري
هي عبارة غريبة، وقفت عندها، وأردت أن يقف معي القارئ مشاركا في النظر، وأعني بها عبارة وردت في محاضرة عامة، ألقاها المفكر البريطاني المرموق «أزايا (= أشعيا) برلين»، في جامعة أكسفورد سنة 1958م، وكان عنوان المحاضرة «فكرتان عن الحرية»، ثم ضم هذه المحاضرة مع ثلاثة فصول أخرى، كلها تدور حول فكرة «الحرية» في كتاب صدر حديثا، جعل عنوانه: «أربع مقالات عن الحرية»، ولقد بلغ «أشعيا برلين» من الشهرة في الفكر الإنجليزي المعاصر، ما استحق به أن يمنح لقب «سير»، وكان الرجل أستاذا للعلوم الاجتماعية والسياسية في أكسفورد، ثم عميدا للكلية التي يعمل فيها، ولعله ليس من فضول القول أن أذكر عنه، بأنني كنت قد التقيت به في دلهي، عندما أقامت حكومة الهند مهرجانا أدبيا سنة 1961م، للاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد شاعرها العظيم رابندرانات تاجور، دعيت له من مصر، كما دعي له أزايا برلين من بريطانيا، وكما دعي له كذلك آخرون من أقطار العالم، ولقد كنت على علم بشيء مما كتبه «برلين» قبل ذلك، خصوصا كتابه «القنفذ والثعلب»، الذي أراد به أن يميز بين ضربين من ثقافات البشر، فضرب منهما ينطوي على نفسه؛ فيكون كالقنفذ في طبيعته، والضرب الآخر متطلع يجول في فجاج الأرض، يلتمس المعرفة حيثما وجدها؛ فيكون أشبه بالثعلب في جولانه، نعم، كنت على علم بشيء مما كان قد كتبه «برلين» قبل ذلك، لكني وجدت الرجل محدثا أقل منه كاتبا، فشاهت صورته في خيالي إلى حد ما، عندما رأيت لسانه كيف تثقل به الحركة بين شدقيه، بما لا يتناسب قط مع قلمه، وكيف يسلس له الجريان على الورق.
أما العبارة التي وقفت عندها، في الفصل الذي عرض فيه «فكرتين عن الحرية»، فخلاصتهما ما يلي: إن معنى الحرية يختلف بين الناس اختلافا بعيدا، فليس معناها عند أستاذ في جامعة أكسفورد، كمعناها عند الفلاح المصري. إننا نكون بمثابة من يسخر من الفلاح المصري، إذا منحناه حقوقه السياسية، وأقمنا له الضمانات التي تضمن له، ألا تتدخل الدولة في شئونه الخاصة، لينعم بحريته الشخصية، نعم، إننا نكون بمثابة من يسخر من بؤسه، إذا منحناه تلك الحقوق والضمانات، بينما هو على حالته من عري، وأمية، ومرض، ونقص في الغذاء. إن ذلك الفلاح إنما يحتاج أولا إلى الرعاية الطبية، وإلى التعليم؛ لكي يتاح له أن يفهم الحرية، وأن يعرف كيف يكون استخدامها؛ إذ ما لم تتوافر الظروف، التي تمكن الإنسان من الانتفاع بحريته، فإن هذه الحرية تفقد كل قيمتها، والأمر هنا كالأمر الذي أشار إليه كاتب روسي في القرن التاسع عشر، حين قال ما معناه إن هناك حالات يكون فيها الحذاء عند الإنسان، أرفع قيمة من كل ما أنتجه شيكسبير، والفلاح المصري - هكذا يستطرد أشعيا برلين في حديثه - بحاجة إلى الثياب وإلى الدواء، قبل أن يكون بحاجة إلى حريته الشخصية، على أننا - برغم ذلك - لا ينبغي لنا أن نفهم من ذلك، أن الحد الأدنى من الحرية الشخصية، التي لا بد لذلك الفلاح أن ينعم بها، وما قد يضاف إلى ذلك الحد الأدنى فيما بعد من حريات، ليست «نوعا» آخر من الحرية، غير النوع الذي ينعم به الأستاذ في جامعة أكسفورد، أو ينعم به الفنان، أو صاحب الملايين؛ لأن الحرية صنف واحد، لا يتعدد بتعدد الشعوب.
كان أول سؤال ألقيه على نفسي همسا، بعد قراءة هذه الفقرة من كتاب «أشعيا برلين» هو هذا: ولماذا الفلاح المصري دون سائر خلق الله؟ ألم يجد الكاتب من كل من حوله من شعوب الأرض أحدا يقارن حريته - أو عدم حريته - بحرية أستاذ في جامعة أكسفورد؟ (ولعله يقصد في نفسه في هذه المقارنة)، على أن هذا السؤال الذي همست به لنفسي، لا يصلح وحده جوابا ولا تعليقا على ما أورده الكاتب في عبارته التي أسلفناها؟ فخلاصة الرأي الذي أرادنا الكاتب أن ننطبع به، هو أن فتح الطريق أمام الفلاح المصري، نحو مزيد من حريته الخاصة في حياته، هو ضرب من العبث الساخر، ما دام ذلك الفلاح على حالته، من عري ومرض وجوع وجهل.
فالسؤال الإيجابي الذي نوجهه إلى المفكر البريطاني هو: على فرض جدلي بأن طبائع الفلاح المصري على تلك الحضارة التي صورها الكاتب، فهل تدل طبائع الأمور وحقائق التاريخ المصري، على وجوب مراعاة الترتيب الزمني، بحيث يظل المستعبد مستعبدا، إلى أن تتحسن حياته، فيكتسي بعد عري، ويشبع بعد جوع، ويصح بعد مرض، ويعلم بعد جهالة؟ ومن ذا الذي - يا ترى - سيكفل له هذه الجوانب كلها نيابة عنه؟ هل قعدت إنجلترا عن المطالبة بالحرية السياسية من حكامها - عندما ظفرت «بالماجنا كارتا» في قلب العصور الوسطى، أقول هل قعدت إنجلترا عن تلك المطالبة، انتظارا ليوم يتحقق فيها للشعب، ما كان ينقصه يومئذ من مقومات الحياة؟ أو أن الأمر قد جرى على عكس ذلك تماما، وهو أن يطالب الشعب لنفسه بحريته من طغيان حاكميه؛ لكي يتسنى له في ظل الحرية أن يحقق لنفسه ما يريد؟
ثم أنتقل مع المفكر البريطاني إلى مسألة أخرى، أراها أخطر وأهم، وهي هذه: أصحيح أن الفلاح المصري تنقصه الحرية إلى الدرجة التي تخيلها ذلك الكاتب؟ إنه لخلط كثير الوقوع، وهو أن يخلط المفكرون عندما يصدرون أحكامهم على الشعوب، بين «من هو هذا الشعب الفلاني؟» من جهة، وبين «ماذا يملك من القوى الاقتصادية في لحظة عابرة من الزمن؟» من جهة أخرى؛ إذ سرعان ما تغري حالة فقر عابرة يمر بها شعب معين، بالظن بأن ذلك الفقر العابر دليل فقر حضاري كذلك، وما هكذا حقائق التاريخ في كثير جدا من الحالات.
فما هي «الحرية» التي يراها أشعيا برلين، قد انعدمت في الفلاح المصري، وتمتع بها الأستاذ في جامعة أكسفورد؟ لعله يعلم أكثر جدا مما أعلم في مجال الفكر السياسي (لأنه ميدان تخصصه هو، وليس ميدان تخصصي أنا)، بأن مؤرخي الأفكار السياسية في حياة الإنسان، قد أحصوا لمفهوم «الحرية» أكثر من مائتي معنى، وردت كلها عند الشعوب المختلفة في العصور المختلفة، وفي الظروف والمواقف المختلفة، فما هو المعنى من بين هذا العدد الضخم، الذي وجد المفكر البريطاني أن الفلاح المصري - في إطار ذلك المعنى - لا ينعم بشيء مما ينعم به الأستاذ في جامعة أكسفورد؟ نعم، إن للأستاذ في جامعة أكسفورد ضروبا كثيرة من الحرية، لا تطوف للفلاح المصري ببال، ولكن ألا يجوز أنها لا تطوف بباله؛ لأنه لا يريدها، في الوقت الذي اختار لنفسه فيه ضربا من الحرية آخر، لا يريده الأستاذ في جامعة أكسفورد، بل وربما لا يستطيعه حتى إذا أراده، وأعني به الحرية من قيود الرغبات العاجلة العابرة ، ابتغاء قيم أعلى؟ ولا تقل لي متسرعا ما يقوله كثيرون عن غير وعي: إن الحرية هي بين القيم الإنسانية أعلاها؛ لأنها لو كانت كذلك لما قبل الإنسان، أن يضحي بجزء منها عند نشأة المجتمع، في سبيل حصوله على قيم أخرى، كالمساواة والعدالة والأمن، والإبداع الفكري والفني إلخ.
صفحه نامشخص