لقد جاءتني دعوة للمشاركة في ندوة علمية، تعقد في إحدى العواصم العربية؛ لوضع أصول عامة لعلم نفس إسلامي، وقد ألبي هذه الدعوة الكريمة وقد لا ألبيها، على أني إذا اخترت ألا ألبيها؛ فذلك لأني لا أعد نفسي من أصحاب الكلمة في علم النفس، فلهذا الفرع من فروع التخصص العلمي، أصحابه المؤهلون للبحث في ميدانه، لكن الذي يلفت نظري - فيما أنا بصدد الحديث فيه - هو أن الدعوة تنص في ديباجتها، وقبل أن تنعقد الندوة وتنطلق فيها كلمة، على أن هذه الندوة «تتناول خلال انعقادها دراسة المفاهيم الأساسية في العلوم النفسية، ودراسة ناقدة لإعادة النظر في تلك المفاهيم، التي نبعت في إطار الثقافة الغربية، وفي ظل تضاريسها الاجتماعية، وعكست معتقدات هذه الثقافة، وقيمها التربوية وأسسها الحضارية، وبعض هذه المفاهيم لا يتسق مع إطار الحضارة الإسلامية، بل قد يتعارض أحيانا مع تعاليم الدين الإسلامي، وأسسه التربوية والأخلاقية.»
وهكذا ترى أن نص الدعوة الموجهة إلى الباحثين، يشترط عليهم في أول سطوره، بأنهم إنما يجتمعون ليقروا نتيجة معينة، قبل أن يسيروا في بحوثهم خطوة خطوة، وهي أن علم النفس، كما هو معروف لدارسيه «لا يتسق مع إطار الحضارة الإسلامية، بل قد يتعارض أحيانا مع تعاليم الدين الإسلامي.» فمن هو الباحث الذي يجرؤ بعد ذلك على أن يقصد إلى تلك الندوة، ليعلن هناك أن علم النفس، كما هو معروف لدارسيه، إنما يصح أو لا يصح على أسس المناهج العلمية وحدها؟ من ذا يريد أن يشاع عنه بين قومه أنه يدافع عن شيء، كأن الغرض الأول فيه هو أنه «لا يتسق مع إطار الحضارة الإسلامية، بل قد يتعارض أحيانا مع تعاليم الدين الإسلامي»؟
مثل هذه الوقفة العاطفية، التي تدفعها «الرغبة» أن تقرر النتيجة المرغوب فيها، قبل أن تتقرر مقدماتها ومبرراتها في مجال البحث العلمي الموضوعي، أقول إن مثل هذه الوقفة العاطفية هي ما أخشاه، وهي نفسها الوقفة التي خشيتها، وحاربها نفر عظيم من أئمة الفكر بين أسلافنا، حين هوجمت ثقافة الغرباء، فتصدوا للدفاع عنها وعن ضرورتها للعقل السليم.
ومرة أخرى أقول مؤكدا بأنني لا أريد التعصب - مقدما - لخطأ الاتهام الموجه إلى علم النفس كما هو قائم، أو لصوابه، ولكني أطالب بتغيير المنظار الذي تعودنا وضعه على وجوهنا، حتى لا يرينا من الموقف إلا ما «نتمنى» أن نراه، لنضع مكانه منظارا آخر، لا يخدم أهواءنا، وإنما يكشف الحق أمامنا، كما هو قائم بالفعل، فلا نصادر عليه قبل أن نراه.
ذلك هو طريق التقدم إذا أردناه، فلا نستعبد أنفسنا لأمنياتنا، إلى الحد الذي يجعلنا نقرر لتلك الأمنيات أنها حقائق واقعة، قبل أن يثبت لنا وقوعها، وأن لنا في تراثنا نفسه لقدوة نقتدي بها، فما أكثر المواضع التي قال فيها الأئمة السابقون بوجوب احترام الحقائق التي لا سبيل إلى نكرانها، وحتى إذا وجدناها كأنما هي تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها، وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله العقل، وتقبله طبيعة اللغة العربية في الوقت نفسه؛ لأننا لو تركنا الفجوة قائمة بين نصوص العقيدة من ناحية، والحقائق التي تثبتها العلوم من ناحية أخرى، فتحنا بذلك الباب واسعا أمام ذوي النفوس الضعيفة، أن يشكوا في نصوص العقيدة، إذ يتعذر على العقل البشري كما فطره الله سبحانه، أن يجد حقيقة ثبتت بالعلم الأكيد، ثم يتنكر لها.
وما دمنا قد بدأنا الحديث باقتباس أخذناه من ابن رشد، فلا باس في أن نختمه بشيء من ابن رشد، فلقد كان الهدف الرئيسي الذي استهدفه بكتابه العظيم - برغم صغره - «فصل المقال، فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» هو أن يبين كيف ينبغي لنا أن نوفق بين هذين الجناحين: جناح الحكمة، التي هي المعرفة العلمية البرهانية القائمة على العقل ومنطقه، وجناح الشريعة التي هي وحي نزل منا منزل الإيمان، فهما لا شك متفقان، لكننا إذا وجدنا ظاهر الشريعة، كأنما هو يبدو مخالفا للعلم البرهاني القائم على منطق العقل؛ كان على الراسخين في فقه الشريعة، أن يتأولوا ظاهرها ذاك حتى يتطابق الطرفان.
إقناع فاقتناع فقانون
ألا ما أكثر الأخطاء البريئة التي يخطئها الإنسان مدفوعا بأطيب النوايا! فلكم اشتدت بنا الرغبة - أيام الشباب - في أن نسرع بالأمة نحو التغيير، الذي يخرجها من تخلفها الطارئ، ليدخلها في رحاب التقدم الحضاري، كما هو مفهوم بمعايير عصرنا! وكم كانت تضيق بنا صدورنا، كلما نظرنا فلم نجد تقدما، كأنما يخيل إلينا أن الأمة في حركاتها، تقفز إلى أعلى لتعود فتقف حيث كانت، ولا تقفز إلى أمام قفزة، تكسبها مزيدا من رقعة الأرض! فكنا نتساءل بانفعال الشباب وحماسته: لماذا لا يفرض التقدم المطلوب فرضا على الناس بقوة التشريع، كما حدث في بلاد أخرى، مثل تركيا بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»؟ كنا نقول ذلك، وأكثر من ذلك، لا يشفع لنا في سذاجتنا إلا النوايا الطيبة.
وكان موضع السذاجة فينا، هو الظن بأن تغيير الشعوب قد يأتيها من خارج نفوس أبنائها، كما قد ينبثق من داخل تلك النفوس، بل ربما ظننا أن التغيير المقحم عليها من الخارج أسرع تحققا وأدوم أثرا؛ لأنه سيغزوها مستندا إلى قوة القانون، الذي يستند بدوره على قوة الحديد والنار.
وأما مع النضج، وما يصاحب النضج من دقة التحليل وصحة النظر، فالبديهية الأولى في تطوير الشعوب، هي أن يكون ذلك التطوير منبثقا من إرادة الناس، فليس الشعب قطعة من الصفيح، يشكلها الصانع بأدواته، على أي صورة أراد، فيبسطها إذا أراد ويكورها إذا أراد، لا، فما الشعب إلا أنت وأنا وأخوك وأخي وجارك وجاري، فانظر إلى نفسك، وكيف تستقيم لك الأمور في حياتك العملية؛ ينكشف لك طريق الشعب في معالجته لشئون حياته، نعم ، إنه قد يرغم على السير على هذا الخط المرسوم له ، أو في ذاك المنحنى، لكنه لا يلبث أن يرتد عما أرغم عليه، ليعود سيرته الأولى، كما كانت قبل عوامل الإرغام، فلا عجب أن يقال عن الانقلابات، التي يحدثها أفراد بغير إرادة شعوبهم: إنها سرعان ما تزول فتزول آثارها.
صفحه نامشخص