وعند العلامة لوبون أن أوربة أخذت حضارتها من عرب الأندلس على الخصوص، وهو لم ير للحروب الصليبية كبير فضل في تمدين أوربة خلا ما اقتبسه الأوربيون في أثنائها من وسائل ترف الشرق، وطراز عمارته وصنائعه، قال لوبون: «إن استفادة الصليبيين من علوم العرب الخالصة كانت ضعيفة إلى الغاية خلافا لما ذهب إليه كثير من المؤرخين، فالجيوش الصليبية إذ كانت جاهلة للعلماء لم تكن لتبالي بالمعارف والأصول مبالاتها بشكل البناء أو الأسلوب الصناعي.»
وسأل لوبون، بعد أن أثبت فضل العرب على أوربة وتمدينهم لها: «لماذا ينكر علماء الوقت الحاضر تأثير العرب؟» فكان جوابه: «إن استقلالنا الفكري لم يكن، بالحقيقة، في غير الظواهر، وإننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.
فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصة لماض طويل.
والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس، وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم فيلوح ما تملي عليهم من الآراء حرة في الظاهر فتحترم.
فالحق أن أتباع محمد ظلوا أشد ما عرفته أوربة من الأعداء إرهابا عدة قرون، وأنهم عند ما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوربة بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس.
وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءا من مزاجنا، وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانا والعميق دائما.
وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة «إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي» أدركنا، بسهولة، سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربة.
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يرى أن أوربة النصرانية مدينة في خروجها من دور التوحش لأولئك الكافرين، فعار ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة.»
ووضع لوبون العرب في صف اليونان والرومان، ورآهم أرقى من جميع أمم الغرب التي عاشت قبل عصر النهضة، فكان في هذا أكثر إنصافا من بعض كتاب العرب المعاصرين الذي استهوتهم الثقافة الأوربية المدرسية، فأخذوا يسايرون رجالها متجاهلين ما لأمتهم العربية من المقام العريض في ميدان الحضارة راغبين بالأغارقة والرومان عنها حينما يتكلمون في تاريخ الحضارة العالمية.
واعترف لوبون للعرب بظهور رجال عظماء منهم كما تشهد بذلك اكتشافاتهم، ولكنه أبدى ارتيابه في ظهور عباقرة منهم كنيوتن وليبنتز، فنعد ذلك هفوة من العلامة لوبون الذي ذكر في غير موضع أن لاڨوازيه مدين لعلماء العرب في علم الكيمياء، وأن كيپلر وكوپرنيك مدينان لعلماء العرب في علم الفلك مثلا، فقد قال: «يرى بعض المؤلفين أن لاڨوازيه هو واضع الكيمياء، وقد نسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم، ومنها علم الكيمياء، صار ابتداعه دفعة واحدة، وأنه وجد عند العرب من المختبرات ما وصلوا به إلى اكتشافات لم يكن لاڨوازيه ليستطيع أن ينتهي إلى اكتشافاته بغيرها»، وقال نقلا عن العلامة سيديو: «إن العرب سبقوا كيپلر وكوپرنيك في اكتشاف حركات الكواكب السيارة على شكل بيضي، وفي نظرية دوران الأرض»، وقال: «ترى في كتب العرب من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة»، فإذا كانت الحضارة العامة سلسلة حلقات، وكانت حضارة العرب من أهم تلك الحلقات كان من المتعذر ظهور نيوتن وليبنتز وغيرهما من أركان حلقة الحضارة الحديثة بدونها، والفضل للمتقدم.
صفحه نامشخص