وإذا أنعمت النظر في المباني العربية، كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس أو المساجد التي أقاموها في القاهرة، رأيت العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج درجة يتعذر معها الانتباه إلى المصادر التي اشتقت منها.»
8
ولم يكن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم قويا في أمة مثل قوته في العرب، كما شهد به العلامة غوستاف لوبون، ولذلك نال العرب درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، وكانت لهم مبتكرات فيما ورثوه من علوم الأولين.
والواقع أن حب العرب للعلم كان عظيما، وأن الخلفاء لم يتركوا طريقا لاجتذاب العلماء ورجال الفن إلا سلكوها، وأن أحد خلفاء بني العباس شهر الحرب على قيصر الروم؛ ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد، وأن العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل أخذوا يتقاطرون إلى بغداد التي كانت مركز الثقافة العالمية، كما أخذوا يتقاطرون إلى عاصمة الأندلس، قرطبة، التي كانت مركزا للعلوم والفنون والصناعة.
قال لوبون: «كانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوربة في القرون الوسطى، فلم يلبثوا أن تحرروا من ذلك الدور الأول ...
والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أمم قد تساوت هي والعرب في ذلك، فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل ...
ولم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خير من أفضل الكتب ... ويعزى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم.
ومنح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقة وإبداعا لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب ...
ونشأ عن منهاج العرب التجربي وصولهم إلى اكتشافات مهمة ...
ولما آل العلم إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه، فتلقاه ورثتهم مخلوقا خلقا آخر ...»
صفحه نامشخص