فلبيان الأمر الأول نقول إن الروم والفرس والعرب قبل الإسلام كانوا يستعملون الدرهم والدينار، وهما من الموازين، فالمراد بالدينار وزن دينار من الذهب، والمراد بالدرهم وزن درهم من الفضة، والذي أنشأ هذه السكة بادئ الأمر الروم، ثم حذا حذوهم فيها الفرس فضربوا مثلها، أما العرب فإنهم ما زالوا يستعملون السكة الرومية والفارسية ويعتبرونها رسميا حتى زمن عبد الملك بن مروان الأمير الأموي، وولايته من سنة 65 إلى سنة 86ه؛ إذ أوعد من لم يستعمل الدنانير العربية بأشد العقوبات؛ فلم تنتشر المسكوكات العربية في الأقطار الإسلامية بدل المسكوكات الرومية والفارسية إلا في القرن الثاني. ولقد دون لنا علماء اللغة والأدب فيما دونوا لنا من أخبار العرب وآدابهم في الجاهلية وصدر الإسلام قبل أن تنتشر المسكوكات العربية ما استعملته الأمة العربية من الدرهم والدينار ومضاعفتهما، ومنها القنطار، ولقد اختلف العلماء في تقديره، غير أنهم نصوا على أن المعول عليه في الأكثر عند العرب أن القنطار أربعة آلاف دينار، فإذا قدرنا ما دفعه الروم للفرس ليجلوهم عن بلادهم بالتقدير العربي، باعتبار أن المؤرخ الذي نص عليه عربي، وباعتبار أن العرب كانوا يتعاملون بالمسكوكات الرومية والفارسية حتى القرن الثاني، فإذا لم يكن التقدير بعينه كان قريبا منه؛ إذا قدرنا ذلك قلنا: القنطار الواحد يزن (4000) أربعة آلاف دينار، فألف القنطار تزن (4000000) أربعة ملايين من الدنانير، والدينار يزن (4) أربعة جرامات و0,414 جزءا من الألف من الجرام، فللتقريب نقول إنه يزن (4) أربعة جرامات ونصف جرام، ومعلوم أن الجنيه الإنكليزي يزن (7) سبعة جرامات و98805 أجزاء من الجرام، وللتقريب نقول إنه يزن (8) ثمانية جرامات، فإذا حولنا هذا المقدار (وهو (4000000) أربعة ملايين من الدنانير باعتبار الوزن) إلى جنيهات إنكليزية بلغ 250000، وهو ليس بالشيء الذي يستكثر في علاقات الدول، بل هو أقل من ثروة أفراد كثيرين موجودين الآن في مصر وأوروبا وخصوصا أمريكا، ولكن لو اعتبرنا أن الحساب يجب أن يكون بالتقدير الرومي لأن دولة الروم هي التي دفعت الغرامة، فيكون القنطار هو المصطلح عليه في نقودهم بالتالنت
Talent ، ويجدر بنا أن نعتبر أكبر تالنت عند الروم، وهو المنسوب لبلاد أتيكه، فمن المعلوم أن مبلغه 75000 فرنك إن كان من الفضة، وخمسة عشر أمثال هذا المبلغ إن كان من الذهب؛ أي يكون التالنت الذي يعبر عنه مؤلفو العرب بالقنطار يعادل 1125000 فرنك، ويكون ألف التالنت أو ألف القنطار من الذهب عبارة عن 1125000000 فرنك، أو 45000000 جنيه، وهو أكبر من التقدير الأول المعول عليه عند العرب، ولكنه أقل من الغرامة التي دفعتها فرنسا (وهي أصغر من دولة الروم) إلى ألمانيا (وهي أصغر من دولة الفرس). ومعلوم أن الغرامة الإفرنسية هي (5000000000) خمسة مليارات من الفرنكات، أو (200000000) مائتا مليون جنيه، وهذا المبلغ من الجنيهات يزن 88888 قنطارا على التقدير الرومي، فأين منها ألف القنطار التي كانت محلا للاستغراب والاستنكار؟ ليت شعري ماذا كانوا يقولون لو اعتبرت أحوال هذه الأيام وقلت إن الغرامة المذكورة كان شحنها يستوجب خمسة قطارات من قطارات البضائع، وكل قطار يتألف من خمسين عربة كبيرة؟ ولكن الناس لو علموا أن خمسة المليار من الفرنكات تزن 25 مليون كيلوجرام، ثم قسمناه على ما تزنه الطنولاته من الكيلوجرامات، وهو ألف كيلو، لكان الناتج هو 25 ألف طن، وإذا كانت حمولة العربة من السكة الحديد 10 طن، يكون اللازم من العربات لنقل هذه الغرامة 2500 عربة، ولو فرضنا أن القنطار من السكة الحديد خمسون عجلة، لكان عدد القطر التي تحمل هذه الغرامة 50 قطارا.
فما دفعه الروم للفرس وأنكره بعضهم هو بالنسبة لهذه المقادير يكاد ألا يكون شيئا مذكورا، ونحن نرى كثيرا من الأنباء الصحيحة ما لا يكاد يصدقه العقل لولا الوثوق من ثبوته، فمن ذلك أن الإنكليز في حرب البوير بالأمس خسروا زهاء مائتي مليون جنيه إنكليزي، أو 88888 قنطارا على التقدير العربي تقريبا، أو 4444 قنطارا على التقدير الرومي تقريبا، ومن ذلك شركة الخميرة الملوكية (أي خميرة عمل الخبز) وهي شركة أمريكية تنفق في كل سنة على طبع الإعلانات فقط مبلغا وقدره 3570000 من الفرنكات؛ أي 142800 من الجنيهات، وهي تزن 63 قنطارا عربيا تقريبا، أو (3,5) ثلاثة قناطير ونصفا رومية، وهي شركة صغيرة مؤلفة من آحاد الأمة.
وهذه شركة الزيوت الأمريكية حكم عليها منذ يومين بغرامة قدرها مليون ريال وربع مليون كما جاءت به التلغرافات؛ أي 250000 جنيه تقريبا، أو 111 قنطارا عربيا تقريبا، أو 5,5 قناطير ونصف قنطار رومي تقريبا.
ومما يجدر ذكره ما كان عقب الحرب بين فرنسا وألمانيا، فإن قصر التويلري المشهور في باريس تهدم، فجاءهم أمريكي وعرض على الدولة الفرنسية ترميم هذا القصر، ولم يطلب في نظير ذلك سوى تخصيص غرفة له فيه، وحضوره كل الاحتفالات التي تقام في البلد، وقدم لذلك بيان النفقة اللازمة لإعادة البناء، وقدرها سبعة ملايين من الفرنكات؛ أي 280000 جنيه، أو 124 قنطارا عربيا تقريبا، أو 6 قناطير رومية تقريبا.
ذكرنا هذه المقادير التي جرت المعاملة بها في هذه الأزمان المتأخرة ليمرن القارئ على قراءة وسماع ألف قنطار من الذهب التي أنكرت علينا، مع أننا أهملنا شيئا كثيرا من الغرائب الواقعة تحت أنظارنا.
ولبيان الأمر الثاني، وهو ثلاثة الملايين من المجلدات التي جاء ذكرها في خطبة افتتاح الجامعة، أكتفي بنقل عبارة ثقة من الثقات، وهو المسيو كاترمير
Quatremere ، ذكرها في الصحيفة (29) التاسعة والعشرين من نبذة له، طبعت في مجموعته سنة 1862 بمدينة باريس بمطبعة ديكرك رقم 55 بشارع السين، وعنوان تلك النبذة محبة الشرقيين للكتب، وها هي العبارة التي أكتفي بنقلها عنه:
قلت قبلا إن خزائن (كتبخانة) الخلفاء الفاطميين الكثيرة العدد لما نهبت نقل قسم من كتبها خارج القطر المصري، فمن ذلك أن ثمانية أحمال من الكتب نقلت إلى سورية، ومن المظنون أن كثيرا من هذه الكتب حفظ في مدينة طرابلس الشام، وفي هذه المدينة تألفت تحت عناية القضاة من آل عمار جمعية علمية مشهورة باسم دار العلم، وأنشأت خزانة كتب (كتبخانة) مؤلفة من ثلاثة ملايين من المجلدات، منها 50 ألف مصحف، و20 ألف تفسير، وكان لآل عمار في هذه الخزانة مائة ناسخ، تجري عليهم الأرزاق سنويا، بله أن هذه الأسرة كانت ترسل إلى جميع الأقطار رجالا ماهرين، وتكلفهم ابتياع أو انتساخ جميع الكتب التي يمكن أن يجدوها.
وروى مؤرخ من مؤرخي العرب أنه حينما وقعت هذه المدينة في أيدي الصليبيين في سنة 503ه، دخل قسيس هذه الخزانة فصادف أن أول غرفة دخلها كانت تحتوي على المصاحف، فوضع يده على 20 نسخة منه بالتوالي، وإذ وجدها جميعها مصاحف، أعلن أن هذه الدار لا تحتوي إلا على كتب مخالفة للحق، وبناء على هذا الحكم أحرقها الفرنج فصارت رمادا، ولم ينج من الحريق إلا عدد قليل من الأجزاء، تفرقت شذر مذر في كثير من البلاد، وقد رويت هذه الحادثة كما ذكرها المؤرخون الشرقيون، ولكن إذا لم نقل إن حادثة الحريق مخترعة، فمن الجائز أن نفرض على الأقل أنها محرفة أو مبالغ فيها بسبب العصبية القومية؛ وذلك لأن المسلمين قد اتهموهم أحيانا بإحراق خزانة الإسكندرية، ولا شك أن ضمائرهم ترتاح لإيقاع تهمة بربرية من هذا النوع على عاتق النصارى كذلك. ا.ه.
صفحه نامشخص