أنه سلط عليها علجا يقال له فرخان، ضغط على الأمة وشدد في استخراج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما.
رابعا:
أن كسرى أجمع أمره على قتل فل الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل؛ فتذمر الناس وائتمروا عليه، واجتمعوا على ابنه شيرويه
Siroés
الذي كان مسجونا مع بقية إخوته في بابل، وخلوا عن المسجونين في السجون، واجتمعوا على الجنود العائدة من قتال الروم، ثم أقبل شيرويه في جموعه على كسرى فانحاز إلى باغ له بالقرب من قصره يدعى باغ الهندوان، فحبسه ثم قتله بعد حديث طويل.
وفي أيامه كانت الهجرة النبوية لمضي 32 سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه، وقد هلك بعد أن ملك 32 سنة. ولم يكتف شيرويه بقتل أبيه، بل قتل سبعة عشر أخا له ذوي آداب وشجاعة بمشورة وزرائه؛ فابتلي بالأسقام وجزع جزعا شديدا، وكان يبكي إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش مهموما حزينا مدنفا، ومات بعد أن ملك ثمانية أشهر، فملك بعده ابنه أزدشير ولم يبلغ أكثر من سبع سنين؛ فاحتقره القائد المرابط على ثغور الروم، وانكفأ بجنده إلى فارس وملك عليها ولم يكن من بيت الملك؛ فتخالف الناس عليه وقتلوه بعد أربعين يوما وملكوا بوران دخت،
4
وهي بنت كسرى أبرويز، فأحسنت السيرة وبسطت العدل ، وأمرت برم القناطر وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج وكتبت إلى الناس عامة تعلمهم ما هي عليه من الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا بيأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر، ولكن ذلك كله يكون بالله عز وجل، وحسن النية واستقامة التدبير. ولكي تستجلب مودة الروم وتذهب حفيظتهم عن بلادها ردت خشبة الصليب على ملك الروم، ومضت لربها بعد سنة وأربعة أشهر، فتولى الملك رجل من بني عم أبرويز، وهلك بعد شهر، فآل الملك إلى أذرمي دخت أخت بوران دخت، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت ملكة بحقها وصدقها لو ساعدها الدهر والعمر، ولكنها ملكت والدولة مدبرة بإقبال دولة الإسلام، فكثرت في أيامها الأحداث، وتبسطت الأيدي، ومرضت السياسة، ولقد طمع فيها أحد القواد وأراد أن يتزوجها فأرسلت إليه: «إن التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت إليه قضاء حاجتك منى، فصر إلي في ليلة كذا وكذا.» وتقدمت إلى صاحب حرسها ليرصده، فلما أقبل قتله. وكان للرجل ابن عظيم البأس، قوي النفس، وهو رستم شجاع الفرس، وفارس القادسية المشهور، فأقبل وقتل الملكة بعد أن سمل عينيها. ثم توالت الفتن والاضطرابات على من ولي أمر الفرس ممن تداول الملك بعدها من النسوان والصبيان، حتى جاء يزدجرد، وهو غلام مراهق، فكان ملكه عند ملك آبائه وأجداده كالخيال، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة سنه، ولم يبق من دولة العجم إلا رمق، والأهواء مختلفة والجماعات متفرقة، والأمور منحلة، والسياسة مختلة، والأحوال مضمحلة؛ فضعف أمر المملكة واجترأ عليها الأعادي من كل وجه، وطرقوا البلاد وخربوها، وغزت العرب مملكته؛ فهرب يزدجرد أمامهم ومعه ألف طباخ، وألف مطرب، وألف فهاد، وألف بازيار، وعنده أنه في خف، وانتهى أمره بسقوط ملك فارس في الشرق على أيدي المسلمين الذين أورثهم الله ملك الروم في الشمال وفي الغرب.
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
جاء محمد بدين الإسلام، فوضع الأصول الأولى لهذه الحضارة التي كان لها شأن كبير في ارتقاء بني الإنسان، ونحن إذا أنعمنا النظر في الصورة التي كان عليها العالم وقتئذ - وقد رسمناها بغاية السرعة - رأينا أن هذا الاختباط كان يؤذن بظهور حادث جديد، وأن الناس كانوا يتوقعون حدوث هذا الأمر الجليل للتخلص مما هم فيه من الارتباك الديني والدنيوي، وقد قيل لنا إنه ظهر قبيل محمد نفر كثير تطالت أعناقهم إلى هذه المرتبة الكبيرة في الهيئة الاجتماعية، وكأنما أحس العرب بأن هذا الأمر مقبل عليهم، وأن الدور آتيهم، فكان الأب يسمي ابنه محمدا استمطارا لهذه الأمنية، حتى بلغ من سموا بهذا الاسم في الجاهلية سبعة على ما قيل، وكثيرا ما اجتهد رجالات العرب في ترشيح أنفسهم لهذه الدرجة، وأخصهم أمية بن أبي الصلت الثقفي، وقس بن ساعدة الإيادي، وغيرهما.
صفحه نامشخص