وسئل ابن شبرمة عن رجل ليستعمل، فقال: إن له شرفًا وقدمًا وبيتًا، فنظروا فإذا هو ساقط، فقيل له في ذلك، فقال: شرفه أذناه، وقدمه الذي يمشي عليه، وبيته الذي يأوي إليه.
وذكر المتنبي في مجلس أمير بمحضر المعري وجماعة، فأخذ الأمير يطعن على المتنبي، ويضعف شعره، ويذكر مقابحه، وكان المعري حاملًا على الأمير؛ لقلة إحسانه إليه، فحمله ذلك على أن خالفه، وأثنى على المتنبي، وقال: هو أشعر الشعراء، وأحسنهم شعرًا، ولو لم يكن له إلا قصيدته التي أولها:
لك يا منازل في القلوب منازل
فأمر الأمير أن يضرب بالسياط، فضرب وأخرج، فعظم ذلك على من حضر المجلس، وقالوا للأمير: رجل كبير من أهل العلم تضربه؛ لما يقول عن المتنبي، إنه أشعر الشعراء؟ ما ذاك بصواب، فقال: ليس كما قلتم، وإنما ضربته على تعريضه بي، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأنه لم يفضله بقصيدة من عالي شعره، وإنما فضله بتلك القصيدة مع أنها ليست من عالي شعره؛ لأنه يسقول فيها بعد أبيات:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
فاستحسن من حضر فهمه، وحدة ذهنه، وعذروه فيما فعل، وسئل المعري بعد ذلك، فقال: والله ما قصدت غير ذلك.
ومثل ذلك ما حكي أن ابن الصائغ، بلغه عن الفتح بن خاقان صاحب "قلائد العقيان" أنه خططه فيها بذم، فقال فيه: "رمد عين الدين وكمد نفوس المهتدين، لا يتظهر من جنابة، ولا يظهر مخايل إنابة"، فمر على الفتح وهو جالس في جماعة، فسلم على القوم، وضرب على كتف الفتح وقال له: شهادة، يا فتح، ومضى، فلم يدر أحد ما قال إلا الفتح، فإنه فهمه، فتغير له، فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته في كتابي بما تعلمون، وأنا - والله - ما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو بهذه الكلمة، إنه يشير لي بها إلى بيت المتنبي.
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وحضر جحظة المغني مع جماعة فيهم علي بن سام، فأخذ كل واحد منهم مخدة، فقال جحظة: ما لي لا أعطى مخدة؟ فقال له ابن بسام: عن فالمخاد كلها إليك تصير، يريد حين يرمونه بها.
وقال أبو زيد: رأيت أعرابيًا كأن أنفه كوز من عظمه، فرآنا نضحك منه، فقال: ما يضحككم؟ فوالله لقد كنت في قوم يسموني الأفطس.
وقال: ما رأيت الديك في بلد قط إلا وهو يدعو الدجاجة إذا وجد الحبة، ويلتقطها لها إلا بمرو، فإني رأيته يأكل وحده، ولا يدعو الدجاجة إذا وجد الحبة، فعلمت أن لؤمهم كثير جدًا، وهو طبع فيهم.
وقال: رأيت بها طفلًا صغيرًا، وبيده بيضة، فقلت له: أعطنيها فقال لي: ليس تسع في يدك، فعلمت أن المنع طبع مركب فيهم.
وجلس ثقيل إلى بشار بن برد، فخرج من بشار ريح منكرة، فظن الرجل أنها فلتة، فمشى في حديثه، فأعادها بشار ثانية وثالثة، فقال له: يا أبا معاذ، ما هذا؟ قال: رأيت أو سمعت؟ قال: بل سمعت، قال: كل ما سمعت ريح، لا تصدق حتى ترى.
وكان لعبد الملك بن مروان جارية تتكلم بلغة من يكسر حروف المضارعة فتقول: أنت تعلم، فقال الشعبي: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الغض منها؟ قال: افعل، قال: يا جارية، ما بال قومك لا يكتنون؟ فقالت له: أما فعلت ذلك؟ فقال: لا، والله، ولو فعلت لاغتسلت، فخجلت من ذلك، واستغرق عبد الملك في الضحك.
وقال الحجاج يومًا لجلسائه، وقد وصلت إليه الشمس ووجد حرها: ما كان حوجنا إلى كن نكتن فيه، فقال سعيد بن مطعم المارزي: قد أصبت لك أيها الأمير كنًا، قال: وأين هو؟ قال: تنوري، فوالله ما سخن منذ ثلاثين يومًا، فقال له الحجاج: تلطفت في المسألة، وأمر له بجائزة.
وحكي أن رجلًا قام من مجلس خالد بن عبد الله يومًا، فقال: إني لأبغض هذا الرجل، وما أذنب لي ذنبًا، فقال بعض من حضر: أوليته معروفًا قط؟ قال: لا، قال: فأوله معروفًا يخف على قلبك، ففعل، وخف على قلبه، وصار واحدًا من جلسائه.
وقال بعضهم: رأيت قبرين، مكتوب على أحدهما: من رآني فلا يصغرن قدري؛ أنا كنت أحبس الرياح وأفرقها، وعلى الآخر: كذب ابن الزانية، إنما كان يجمع الرياح في الزق ثم يخرجها، قال: فما رأيت مشاجرة بين ميتين غيرهما.
وقال آخر: رأيت قبرين، مكتوب على أحدهما: أنا ابن سافك الدماء، وعلى الآخر: أنا ابن مستخدم الرياح، فسألت عنهما فقيل لي: أحدهما ابن حجام، والآخر ابن حداد.
1 / 54