قال دعبل: فلاحظتها، فتبعتني، وذلك في أيام إملاقي، فقلت: ما بي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فصرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج فقلت: أحمل لك الخير، معي وجه تقل له الدنيا بما فيها، قد حصل مع ضيقة وعسر، فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك إليه، ايت بها، فلما أتيت ودخلت قال: والله، ما أملك غير هذا المنديل، ففلت: هو البغية، فناولنيه، وقال: خذاه، لا بارك الله فيه، فأخذته وبعته بدينار عين وكسر، فاشترين لحمًا وخبزًا ونبيذًا، وصرت إليهما، فإذا هما يتساقطان حديثًا كأنه قطع الروض الممطور، فقال: ما صنعت؟ فأخبرته، فقال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس، مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ فارجع لتمام ما بدأت، قال: فخرجت، فاضطربت في ذلك حتى رجعت به، فألقيت باب الدار مفتوحًا، فدخلت، فلم أر لهما خبرًا، ولا شيئًا مما أتيت به أثرًا، فسقط في يدي، وقلت: أرى صاحب الشرطة أخذهما؟ فبقيت متلهفًا حائرًا، أرجم الظن، وأجيل الفكر سائر يومي، فلما أمسيت قلت: يا نفسي، أفلا أدور الدار؛ لعل الطلب يوقعني على أثر، ففعلت، فوقفت على سرداب، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجون إليه، فأكلا وشربا وتنعما، فلما أحسستهما دليت رأسي، ثم ناديت: يا مسلم، ويحك، فلم يجبني حتى ناديت ثلاثًا، فكان من إجابته لي أن غنى بصوت يقول فيه:
بت في درعها، وبات رقيبي ... جنب القلب، طاهر الأطراف
قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما، فلم يجيباني، وبت بليلة، يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولًا وغمًا وهمًا، حتى إذا أصبحت، ولم آكل، خرج إلي مسلم، فجعلت ألومه، فقال لي: يا صفيق الوجه، منزلي ومنديلي، وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟ فقلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير، فولى وجهه إليها، وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله، فقالت: أما حق قيادته فتعرك أذنه، وأما حق فضوله فتصفع قفاه، فاستقبلني فعرك أذني وصفع قفاي، فقلت: ما هذا؟ قال: جرى الحكم عليك بما جرى من العدل والإنصاف.
وحكى أبو بكر الوراق قال: حدثني الحسن بن هانئ قال: حججت مع الفضل بن الربيع، حتى إذا كنا ببلاد بني فزارة، وذلك في أول أيام الربيع نزلنا بإزاء باديتهم، إذا روض أريض، ونبت عريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنظرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسفت غمامها، وتدانى ركامها حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر:
دان مسف، فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
همت برذاذ ثم بطش ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت، وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، ورياضًا مونقة، ونوافح من ريحها عبقه، فسرحت طرفي، واقعًا منها بأحسن منظر، واستنشقت من رياحها أطيب من المسلك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها، إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، قد أشعرت لواحظها فتورًا، وملئت سحرًا؛ فقلت لصاحبي: استنطقها، فقال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ فقلت: استسقها، فاستسقيناها ماء، قالت: نعم ونعما عين، وإن نزلتم فعلى الرحب والسعة، ثم نهضت تتهادى، كأنها خوط بان، أو قضيب خيزران، فراعني - والله - حسنها، وما رأيت منها، ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي، وقلت: وصاحبي أيضًا عطشان، فأخذت الإناء وذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون المها غرة ... ويكشف عن منظر أشنع
قال وسمعت كلامي، فأتت، وقد نزعت البرقع، ولبست خمارًا أسود وهي تقول:
أر حي ركبي معشر قد أراهما ... أطالا، ولما يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
1 / 47