وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثًا، ما سمعه أحد مني قط، وهو أمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حيًا، قلت: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولا)، قال لي: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه، قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت، قال: بينما أنا بسوق الإبل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي، وهي تسكته، فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرجت من فيها كسر درهم، فدفعته إلى الصبي فسكت، فإذا وجه رقيق كأنه دري، وإذا شكل رطب ولسان طويل، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني، قلت: إن شرطي الحلال، قالت: ارجع، ومن يريدك على الحرام؟ فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت في زقاق العطارين، فصعدت درجة، وقالت: اصعد، فصعدت، فقالت: أنا متزوجة، وزوجي رجل من بني مخزوم ولكن عندي جارية، عليها وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة، أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصغر سليم، قلت: وما أصغر سليم؟ قالت: بدينار واحد في يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة، وتزويجها صحيحًا، قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت، قال: وصفقت بيديها إلى جارتها، فاستجابت لها، فقالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك، وبحياتي عليك لا تمسي طيبًا؛ فحسبنا بدلالك وعطرك فإذا جارية قد أقبلت من أجمل ما يرى، فسلمت وقعدت كالخجلة، فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين، قالت: حياه الله، وقرب داره، قالت: وقد بذل لك من الصداق دينارًا، قالت: أما أخبرته شرطي؟ قالت: لا، والله يا بنية، لقد نسيت، ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شرطي؟ قلت: لا، قالت: أقول لك بحضرتها، وما أظنها تكرهه، هي والله، أفتك من عمرو بن معدي كرب، وأشجع من ربيعة بن مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر، ويغلب عليها السكر، فإذا بلغت تلك الحال، ففيها مطمع، فقلت: ما أهون هذا وأسهله، قالت الجارية: وتركت شيئًا آخر، قالت: نعم، والله اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وترى مجردًا مقبلًا ومدبرًا، قلت: وهذا أيضًا أفعله، قالت: هلم دينارك، فدفعته إليها قالت: فصفقت بيديها مرة أخرى، فأجابتها امرأة، فقالت لها: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة، فإذا بشيخين نبيلين، قد أقبلا، فصعدا، فقصت عليهما القصة، فخطب أحدهما، وأجاز الآخر، وأقررت بالتزويج، وأقرت المرأة، ودعوا بالبركة، ثم نهضنا، فاستحييت أن أحمل المرأة شيئًا من المثونة فأخرجت دينارًا آخر، ودفعته إليها، وقلت: هذا لطيبك، قالت: لست ممن يمسي طيبًا لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت، قلت: فاجعلوه لغدائنا اليوم، قالت: أما هذا فنعم، فنهضت الجارية، فأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت فتغدينا، ثم جاءت بوسادة وقضيت وقعدت، ودعت بنبيذ فأعدته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع قط مثله، وإني ألفت بيوت القيان نحوًا من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أخر سرورًا وطربًا، فجعلت أروم أن تدنو مني، فتأبى، إلى أن تغنت بشعر لم أعرفه، وهو:
راموا يصيدون الظباء وإني ... لأرى تصيدها علي حراما
أعزر علي بأن أروع مثلها ... أو أن يذقن على يدي حماما
فقلت: جعلت فداك، من يغني هذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج، وابن عائشة، فلما نعى إلينا النهار نفسه، وجاء المغرب، تغنت بصوت لم أعرف معناه؛ للشقاء الذي كتب علي، فقالت:
كأني بالمجرد قد علته ... نهال القوم أو خشب البراري
1 / 45