Guidelines for Strengthening Hadiths with Supporting Evidence and Follow-ups
الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات
ناشر
مكتبة ابن تيمية
شماره نسخه
الأولى ١٤١٧ هـ
سال انتشار
١٩٩٨ م
محل انتشار
القاهرة
ژانرها
ـ[الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات]ـ
المؤلف: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد
الناشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة
توزيع: دار زمزم - الرياض
الطبعة: الأولى ١٤١٧ هـ - ١٩٩٨ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
1 / 1
حق على المحدث؛ أن يتورع في ما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته.
ولا سبيل إلى أن يصير العارف، الذي يُزكي نقلة الأخبار ويجرحهم، جهبذًا؛ إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة، والسهر، والتيقظ، والفهم، مع التقوى والدين المتين، والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري، والإتقان، وإلا تفعل؛
فدع عنك الكتابة، لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال الله ﷿: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .
فإن آنست - يا هذا - من نفسك فهمًا، وصدقًا، ودينًا، وورعًا، وإلا فلا تَتَعَنَّ.
وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب؛ فبالله لا تتعب.
وإن عرفت، أنك مُخلط، مُخبط، مُهمل لحدود الله، فأرحنا منك؛ فبعد قليل ينكشف البهرج، وينكب الزَّغَل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
فقد نصحتك؛ فَعِلْم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟! وأين أهله؟! كدت أن لا أراهم إلا في كتاب، أو تحت التراب.
الإمام الذهبي
" تذكرة الحفاظ " (١/٤)
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١]
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
اللهم صلِّ على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ،
1 / 9
وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد.
لمَّا كان علم الحديث يعتمد على معرفة أحوال الرواة تعديلًا وتجريحًا، وأحوال الروايات تصحيحًا وتعليلًا، وكان السبيل إلى إدراك ذلك، اعتبار الروايات، وعرض بعضها ببعض، ليَظهر ما فيها من اتَّفاقٍ، أو اختلافٍ أو تفردٍ، ليُعامل كلٌّ بحسبه.
ولمَّا كان ذلك لا يتحقق إلا بكثرة البحث والتفتيش عن الأسانيد والروايات، في بطون الكتب، وصدور الرجال، كان للاعتبار عند المحدّثين أهميته البالغة، وضرورته القصوى.
فبالاعتبار، يُعرف الصحيح من الضعيف من الروايات، وذلك بالنظر في الطرق التي اعتُبِرت وسُبِرت، وعرضها على باقي الطرق والروايات في بابها، فيظهر الاتفاق، والذي هو مظنَّه الحفظ، والاختلاف أو التفرد، واللذان هما مظنَّتا الخطأ.
ثم تدور هذه الأحاديث في إطار قواعد وضوابط، تحوطها من كل جانب، وتعالجها من كل جهة، ومن خلالها يظهر الصحيح من الضعيف، والمحفوظ من غيره.
وبالاعتبار، يتبين حال رواة الحديث من حيث التوثيق والتجريح، فمن عُهد عليه الإصابة، وكثرة الموافقة للثقات، كان ثقةً مثلهم، ومن عُهِد عليه الخطأ، وكَثْرة المخالفة للثقات، أو التفرد والإِغْراب ورواية ما لا يعرفون، كان ضعيفًا في حفظه، وبقدر الموافقة والمخالفة بقدر ما
1 / 10
يُعرف حفظه وضبطه.
***
ولما كان الاعتبار عند المحدثين بهذا الشأن العظيم، بذله من أجله كل نفس ونفيس، وطاف البلدان، وسمعوا من أهل الأمصار، رغبة في تمييز الأحاديث، والوقوف على الصحيح منها والسقيم، ومعرفة ما أصاب فيه الرواة وما أخطئوا فيه.
فهذا؛ إمام واحد، من أجل اعتبار حديث واحد، طاف بلدنًا شتَّى، ودخل مدائن عدةً حتى وقف على علَّته، وهو الإمام شُعْبة بن الحجاج، عليه رحمة الله تعالى:
قال نصْر بن حمَّاد الورَّاق (١):
كنا قعودًا على باب شعبة؛ نتذاكر.
فقلت: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعيَّة الإبل على عهد رسول الله ﷺ، فجئتُ ذات يومٍ والنبي ﷺ حوله أصحابه؛ فسمعتُه يقول:
" من توضأ، فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين فاستغفر الله؛ إلا غفر له".
_________
(١) رواه: ابن حبان في "المجروحين" (١/٢٩)، وابن عبد البر في "التمهيد" (١/٤٨ـ ٤٩) والخطيب في "الرحلة" (٥٩) وكذا في "الكفاية" (ص. ٥٦٦ - ٥٦٧) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (ص ٢٠٧ - ٢٠٨) .
1 / 11
فقلت: بخٍ بخٍ !
فجذبني رجل من خلفي، فالتفتُّ؛ فإذا عمر بن الخطاب، فقال الذي قبل أحسن!
فقلت: وما قبل؟!
قال: قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت".
قال: فخرج شعبة؛ فلطمني، ثم رجع فدخل؛ فتنحَّيت من ناحية، قال: ثم خرج؛ فقال: ما له يبكي بعد؟!
فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه!
فقال شعبة: انظر؛ ماذا تحدث! ! إن أبا إسحاق حدثني بهذا الحديث، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: فقلنا لأبي إسحاق: من عبد الله بن عطاء؟ قال: فغضب، ومِسعرُ بن كِدَام حاضر، قال: فقلت له. لتصححن لي هذا، أو لأُحَرِّقن ما كتبتُ عنك! فقال مِسعر: عبد الله بن عطاء بمكة.
قال شعبة: فرحلت إلى مكة، لم أُرد الحج، أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته، فقال سعد بن إبراهيم حدثني فقال لي مالك بن أنس: سعد بالمدينة، لم يحج العام.
قال شعبة: فرحلت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته، فقال الحديث من عندكم؛ زياد بن مِخراق حدثني.
قال شعبة: فلما ذكر زيادًا، قلت أيُّ شيءٍ هذا الحديث؟ ! بينما
1 / 12
هو كوفي، إذ صار مدنيًا، إذ صار بصريًا! !
قال: فرحلت إلى البصرة، فلقيت زياد بن مِحراق، فسألته، فقال: ليس هو من بابَتِك!
قلت: حدثني به. قال لا ترده! قلت: حدثني به.
قال حدثني شَهْر بن حَوشَب، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، عن النبي ﷺ.
قال شعبة: فلما ذكر شهر بن حوشب، قلت: دمَّر هذا الحديث؛ لو صح لي مثل هذا عن رسول الله ﷺ كان أحب إلى من أهلي ومالي والناس أجمعين! !
وهذا إمام آخر، طاف نحو طَوَفان شعبة بن الحجاج، من أجل اعتبار حديث واحد أيضًا:
قال محمود بن غَيْلان (١): سمعت المؤمل ذُكر عنده الحديث الذي يُروى عن أُبيّ، عن النبي ﷺ في
"فضل القرآن"، فقال حدثني رجل ثقة - سماه ـ، قال: حدثني رجل ثقة - سماه - قال:
أتيت المدائن، فلقيت الرجل الذي يَروي هذا الحديث، فقلت له: حدِّثني؛ فإني أريد البصرة. فقال: هذا الرجل الذي سمعناه منه هو بواسط في أصحاب القصب!
_________
(١) "الكفاية" للخطيب (ص ٥٦٧ - ٥٦٨)، و(شرح الألفية) للعراقي (١/٢٧٠ - ٢٧١)، وكذا "التقييد والإيضاح" له (ص ١٣٤)، و"النكت" لابن حجر (٢/٨٦٢)
1 / 13
قال: فأتيت واسطًا، فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن، فدلني عليك الشيخ، وإني أريد أن آتي البصرة. قال إن هذا الذي سمعت منه هو بالكَلاء (١) !
فأتيت البصرة، فلقيت الشيخ بالكلاء، فقلت له: حدِّثني؛ فإني أريد أن آتي عَبَّادان. فقال إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعَبَّادان! فأتيت عَبَّادان، فلقيت الشخ، فقلت له: اتق الله؛ ما حال هذا الحديث؟ ! ! أتيت المدائن، فقصصت عليه، ثم واسطًا، ثم البصرة، فدُلِلْت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلَّهم قد ماتوا! فأخبرني بقصة هذا الحديث؟ !
فقال: إنا اجتمعنا هنا، فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، وزهدوا فيه، وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا، فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه! !
يقول المعلمي ﵀ معلقًا على هذه القصة (٢):
"لعل هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافرًا لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد".
****
بل؛ قد يكون الواحد منهم قد اعتبر الرواية بالفعل، وعرف ما وقع فيها من الخطأ، وتحقق من كونها غير محفوظة، فيريد أن يتبين: مَن
_________
(١) "الكلاء": اسم محِّلة مشهورة وسوق بالبصرة.
(٢) في "علم الرجال وأهميته" (ص ٢٣) بتعليقي.
1 / 14
ْ الراوي المخطئ فيها: هل هو فلان، أم فلان؟ فيقطع من أجل تحقيق ذلك مفاوز، ويطوف بلدانًا، ويدخل أمصارًا، ليسمع الحديث من غير وجه، ليقابل الأوجه بعضها ببعض، ويَزِنها بميزان الاعتبار،
حتى يتحقق من أن المخطئ في الرواية فلان، وليس غيره.
يقول محمد بن إبراهيم بن أبي شيخٍ المَلْطي (١):
جاء يحيى بن معين إلى عفان بن مسلم؛ ليسمع منه كتب حماد بن سلمة.
فقال له: ما سمعتَها من أحد؟
قال: نعم؛ حدثني سبعة عشر نفسًا عن حماد بن سلمة.
فقال: والله؛ لا حدثتك !
فقال: إنما هو درهم، والحدر إلى البصرة، وأسمع من التبوذَكِّي.
فقال: شأنك!
فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى موسى بن إسماعيل.
فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب عن أحد؟
قال: سمعتُها على الوجه من سبعة عشر نفسًا، وأنت الثامن عشر.
فقال: وماذا تصنع بهذا؟ !
فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطئه من خطأ
_________
(١) "المجروحين" لابن حبان (١/٣٢) .
1 / 15
غيره: فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء؛ علمت أن الخطأ من حماد نفسه. وإذا اجتمعوا على شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم؛ علمت أن الخطأ منه لا من حماد؛ فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه، وبين ما أُخطِئ عليه.
***
ولأجل هذا؛ لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث، ولا يتسرعون في إطلاق الأحكام على الأسانيد والروايات، ولا يغترون بظواهر الأسانيد، بل كانوا أحيانًا يمضون الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من أجل معرفة ما إذا كان الحديث محفوظًا، أم اعتراه شيء من الخطأ والوهم.
يقول الإمام الخطيب البغدادي (١):
"من الأحاديث؛ ما تخفى علته، فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيّ زمن بعيد".
ثم أسند عن الإمام علي بن المديني، أنه قال:
"ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة"!
****
ولهذا؛ ما كانوا يسارعون إلى رد نقد النقاد، لمجرد عدم علمهم بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجهد في الوقوف على ما عليه اعتمدوا في نقدهم، فإذا سمعوا منهم حكمًا مجملًا، عاريًا عن
_________
(١) "في الجامع" (٢/٢٥٧)
1 / 16
الدليل، فحثوا عن دليله؛ لعلمهم، أن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمجازفة أو الحدس.
روى بن أبي حاتم (١)، عن ابن أبي الثلج، قال: كنا نذكر هذا الحديث - يعني: حديث موسى بن أَعْين،
عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعًا ـ: "إن الرجل ليكون من أهل الصوم، والصلاة والزكاة والحج"، حتى ذكر سهام الخير "فما يُجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله" ـ، ليحيى بن معين، سنتين أو ثلاثة، فيقول: هو باطل؛ ولا يدفعه بشيء، حتى قدم علينا زكريا بن عدي، فحدثنا بهذا الحديث، عن عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة؛ فأتيناه (٢)، فأخبرناه، فقال: هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيد الله بن عمرو"
***
ولم يكونوا يكتفون بالسماع المجرد، وإنما تعدَّوا ذلك، فاعتنوا بجمع الأصول، والوقوف على الكتب الحديثية، فإن الحفظ يخون، بخلاف الكتاب، فإنه أصون وأبعد عن الخطأ والوهم.
ولهذا؛ كانوا يرجعون إلى الأصول والكتب إذا استنكروا ما يحدِّث به الراوي من حفظه، فإن وجدوا له أصلًا في كتبه عرفوا أنه صواب، وإلا فلا.
_________
(١) "العلل" (١٨٧٩) .
(٢) يعني: ابن معين.
1 / 17
وكانوا - أيضًا - إذا اختلفوا فيما بينهم في حديثٍ أو أحاديث، رجعوا إلى الكتب، فتحاكموا إلى ما فيها.
قال عبد الله بن المبارك (١):
"إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم".
ورأى أحمد بن حنبل (٢) يحيى بن معين في زاوية بصنعاء، وهو يكتب صحيفة: "معمر، عن أبان، عن أنس"، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه.
فقال أحمد بن حنبل له: تكتب صحيفة: "معمر، عن أبان، عن أنس"، وتعلم أنها موضوعة؟! فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في "أبان"، ثم تكتب حديثه على الوجه؟!
قال: رحمك الله؛ يا أبا عبد الله! أكتب هذه الصحيفة "عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس" وأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء إنسان، فيجعل بدل: "أبان": "ثابتًا"، ويرويها: "عن معمر، عن ثابت، عن أنس"؛ فأقول له: كذبت؛ إنما هي: "أبان" لا "ثابت".
وقال الحسين بن الحسن المروزي (٣): سمعت عبد الرحمن بن
_________
(١) "تهذيب الكمال" (٢٥/٨) .
(٢) "المجروحين" (١/٣١-٣٢) .
(٣) "الجامع" للخطيب (٢/٣٩)، و"شرح علل الحديث" (١/٥٣٥) .
1 / 18
مهدي يقول:
كنت عند أبي عَوَانة، فحدَّث بحديث عن الأعمش، فقلتُ: ليس هذا من حديثك.
قال: بلى!
قلت: بلى!
قال: يا سلامة! هات الدَّرج فأخرجت، فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه.
فقال: صدقت! يا أبا سعيد؛ فمن أين أُتيت؟
قلت: ذوكرت به وأنت شاب، ظننت أنك سمعته!!
وقال يحيى بن معين (١):
حضرتُ نعيم بن حماد - بمصر ـ، فجعل يقرأ كتابًا صنَّفه.
فقال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون؛وذكر أحاديث.
فقلت: ليس ذا عن ابن المبارك.
فغضب؛ وقال: ترد عليَّ؟!
قلت: إي! والله؛ أريد زَيْنَك.
فأبى أن يرجع.
_________
(١) "سير أعلام النبلاء" (١١/٨٩-٩٠) و"الكفاية" (ص ٢٣١) .
1 / 19
فلما رأيته لا يرجع، قلت: لا! والله؛ ما سمعت هذه من ابن المبارك، ولا سمعها هو من ابن عون قط! فغضب، وغضب من كان عنده، وقام فدخ؛ فأخرج صحائف، فجعل يقول - وهي بيده - أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ !
نعم! يا أبا زكريا؛ غَلِطتُ، وإنما روى هذه الأحاديث غير ابن المبارك، عن ابن عون! !
وهذا حديث من تلك التي أنكرها ابن معين على نعيم بن حماد، بهذا الإسناد: قال هاشم بن مرثد الطبراني (١): قيل ليحيى بن معين - وأنا أسمع ـ: حديث؛ رواه نعيم بن حماد عن ابن المبارك، عن ابن عون، عن محمد بن سرين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا اغْتَلَمَتْ (٢) آنيتُكُم، فاكسروها بالماء"؟
فقال يحيى بن معين: قال لي نعيم: سمعته (٣) من ابن المبارك؛ فقلت كَذِبٌ (٤) فقال لي: اتق الله!
_________
(١) "تاريخه" (ص ١٨ - ٢٠)
(٢) أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر، إلى حدها الذي يسكر. نهاية.
(٣) في "المطبوع": "سمعت"! !
(٤) أي: خطأ.
1 / 20
فقلت: كذب، والله الذي لا إله إلا هو.
فذهب، ثم لقيني بعد، فقال: ما وجدت له عندي أصلًا؛ فرجع عنه! !
***
وكان رواة الحديث يعرفون شأن نقاده، ويقدرونهم قدرهم، ويُنزلونهم منزلتهم، فكانوا يرجعون إليهم ويسألونهم عن أحوال أنفسهم وأحاديثهم، وإذا بينوا لهم الخطأ رجعوا عنه، ولم يحدثوا به بعد.
فكل راوٍ من الرواة كان يعلم أن نقاد الحديث وجهابذته أعلم بحديثه: صحيحه وسقيمه، ومحفوظه ومنكره؛ وأعلم بحاله: ثقتِه وضعفهِ؛ من نفسه التي بين جنبيه.
قال ابن معين (١):
قال لي إسماعيل بن عُليَّة يومًا: كيف حديثي؟ !
قلت: أنت مستقيم الحديث.
فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ !
قلت له: عارضنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة.
فقال: الحمد لله، فلم يزل يقول: الحمد لله، ويحمد ربه، حتى دخل دار بشر بن معروف - أو قال: دار البختري ـ، وأنا معه! !
وقال ابن أبي حاتم (٢): رأيت كتاب؛ كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف
_________
(١) "سؤالات ابن محرز" (٢/٣٩) .
(٢) "تقدمة الجرح والتعديل" (ص ٣٣٦) .
1 / 21
بـ "رُوسْتَه"؛ من أصبهان، إلى أبي زرعة - بخطه ـ: وإني كنت رويت عندكم عن ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، أنه قال: "أبردوا بالظُّهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم"، فقلتَ: هذا غلط؛ الناس يروونه "عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ ".
فوقع ذلك من قولك في نفسي، فلم أكن أنساه، حتى قدمت، ونظرت في الأصل، فإذا هو "عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ "؛ فإن خَفَّ عليك، فأعْلِم أبا حاتم - عافاه الله - ومن سألك من أصحابنا؛ فإنك في ذلك مأجور، إن شاء الله؛ والعار خير من النار.
***
ولهذا؛ كان أئمة الحديث يجرِّحون الرَّاوي الذي لا يبالي بنقد النقاد، ولا يرجع عن خطئه الذي بينه له أهل العلم، ويقيم على روايته آنفًا من الرجوع عنه. ...
قيل للإمام شعبة بن الحجاج (١): من الذي يترك الرواية عنه؟ قال: إذا تمادى في غلط مُجمع عليه، ولم يتَّهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو رجل يُتَّهم بالكذب.
وقال حمزة بن يوسف السهمي (٢): سألت أبا الحسن الدارقطني، عمن يكون كثير الخطأ؟
قال: إن نَبَّهوه عليه، ورجع عنه؛ فلا يسقط، وإن لم
_________
(١) "المجروحين" (١/٧) و"الكفاية" (ص ٢٢٩) .
(٢) "الكفاية" (ص ٢٣٢) .
1 / 22
يرجع سقط.
وقال ابن معين (١): "ما رأيت على رجل خطأً إلا سترتُه، وأحببت أن أزيِّن أمره، وما استقبل رجلًا في وجهه بأمر يكرهه، ولكن؛ أبيِّن له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك؛ وإلا تركته".
والترك؛ هنا بمعناه الاصطلاحي، كما تقدم عن شعبة، أي: يترك الرواية عنه، لا أن يتركه وحاله، يروي ما يريد ويحدث بما يشاء من غير أن يبين خطأه للناس، هذا ما يُظَنُّ بابن معين، ولا بغيره من أئمة الدين.
قيل لابن خزيمة (٢): لِمَ رويت عن أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب، وتركت سفيان بن وكيع؟
فقال: لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث، رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهري، عن أنس: "إذا حضر العشاء"؛ فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس (٣)
وأما سفيان بن وكيع، فإن ورَّاقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه،
_________
(١) "السير" (١١/٨٣) .
(٢) "تهذيب الكمال" (١/٣٨٩) .
(٣) إنما أنكر الأئمة على أحمد بن عبد الرحمن تحديثه بهذا الحديث عن عمه ابن وهب عن مالك خاصة، وإلا فالحديث صحيح ثابت من حديث الزهري عن أنس، من غير هذا الوجه وقد أخرجه البخاري ومسلم..
1 / 23
فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركت الرواية عنه.
***
ومع ما حباهم الله ﷿ به من سعة في الحفظ، ودقة في النقد، وصحة في النظر، وقوة في البحث، وصدق في الرأي؛ ما كانوا يتفردون بالقول، ولا يستقلون بالحكم، بل كانوا يرجعون إلى من هم أعلم منهم، ويسألون من تقدمهم، ويستشيرون من رُزق الذي رُزقوا؛ أهل العلم والحفظ والفهم.
يقول الإمام مسلم - عليه رحمة الله (١):
"عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة؛ تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس علة؛ أخرجته".
وقصَّتُهُ مع الإمام البخاري حيه جاءه يسأله عن علة حديث كفارة المجلس، فيها من العبرة لمن بعده، ما لا يوجد في غيرها.
قال أبو حامد الأعمش الحافظ، وهو: أحمد بن حمدون (٢):
كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري - بنيسابور ـ، فجاء مسلم بن الحجاج، فسأله عن حديث: عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية، ومعنا أبو عبيدة - فساق الحديث بطوله.
_________
(١) "صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص ٦٧) .
(٢) انظر "الإرشاد" للخليلي (٣/٩٦٠ - ٩٦١) و"السنن الأبين" لان رشيد السبتي (ص ١٢٤ - ١٢٦) و"المعرفة" للحاكم (ص ١١٣ - ١١٤) و"تاريخ بغداد" (٢/٢٨ - ٢٩) (١٣/١٠٢ـ١٠٣) و"النكت على ابن الصلاح" (٢/٧١٦ـ٧٢٠) ..
1 / 24
فقال محمد بن إسماعيل: حدثنا ابن أبي أويس: حدثني أخي أبو بكر، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر - القصة بطولها.
فقرأ عليه إنسان: حديث: حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، قال: "كفارة المجلس واللغو ... " - الحديث.
فقال مسلم: في الدنيا أحسن من هذا الحديث! ! ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سيلٍ! ! يُعرف بهذا الإسناد حديث في الدنيا؟ ! .
فقال محمد بن إسماعيل: إلا أنه معلول!
قال مسلم: لا إله إلا الله - وارتعد ـ؛ أخبرني به؟ ! !
قال استُر ما ستر الله! هذا حديث جليل؛ رَوَى عن حجاج بن محمد الخَلْقُ، عن ابن جريج!، فألح عليه، وقَبَّل رأسه، وكاد أن يبكي!
فقال: اكْتُبْ؛ إن كان ولا بد: حدثني موسى بن إسماعيل: حدثنا وُهَيْب: حدثنا موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله، قال: قال رسول الله ﷺ: "كفارة المجلس".
فقال مسلم: لا يبغضك إلاحاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك! وفي رواية:
1 / 25
جاء مسلم بن الحجاج إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقَبَّل بين عينيه، وقال دعني حتى أُقَبِّل رجليك، يا أُستاذ الأُسْتَاذين، سيد المحدثين طبيب الحديث في علله - ثم سأله عن الحديث.
***
وقد ذكر أئمتنا - عليهم رحمة الله تعالى - في باب "الاعتبار" من كتب علوم الحديث: أن هذا الباب يُتَسامح فيه في الأسانيد، ولا يُتشدَّد، وأنه يدخل فيه رواية الضعيف القريب الضعف، الذي لا يُحتج به
وحده، لو انفرد.
وهذه؛ كلمة حق، تَستقيم على مسالك أئمة الحديث في تصانيفهم التي على الأبواب، كمثل "الصحيحين" وغيرهما.
وفي ذلك؛ يقول الإمام مسلم، لما بلغه إنكار أبي زرعة الرازي إدخاله في "الصحيح" بعض الضعفاء، مثل أسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسَيْر، وأحمد بن عيسى؛ قال (١):
"إنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه رُبما وقع إِلَيَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ألئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات"
ونحو ذلك؛ قول لبن حبان في مقدمة "صحيحه" (٢):
_________
(١) "سؤالات البرذعي" (ص ٦٧٦) .
(٢) من "الإحسان" (١/١٦٢) .
1 / 26