جزء يتعلق بالسفر
تأليف
العلامة بدر الدين الزركشي رحمه الله تعالى بمنه وكرمه
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الأرض ذلولا نمشي في مناكبها (¬1)، والأنعام حمولة نستوي في مراكبها (¬2)، والسماء بناء نهتدي في كواكبها (¬3). نحمده على نعمه التي فتح أبواب مطالبها، ومننه التي قرن مستقبلها بذاهبها. وصلى الله على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الحال من العلا في أشرف مراتبها، والحال عقد الضلالة، والهازم لمواكبها، وعلى آله وصحبه، ما ترددت النجوم في مطالعها ومغاربها. فبعد ..
صفحه ۷
فهذا كتاب للغريب أنيس (¬4)، وللوحيد جليس (¬5). يكون رفيقا للمسافر في سفره، معينا له على قضاء وطره (¬6)، مؤنسا له بفوائده، مساعدا له في مصادره وموارده. سميته ب "الغرر السافر في ما يحتاج إليه المسافر"، ناسجا له على غير منوال (¬1)، منشئا له على غير مثال، والله - سبحانه - أسأل لنفع والإثابة عليه، وأن يجعله خالصا لوجهه مقربا للفوز لديه، إنه سميع مجيب.
ورتبته على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في مدلول السفر وفوائده.
الباب الثاني: فيما يتعلق به عند السفر.
الباب الثالث: في الآداب المتعلقة بالسفر.
الباب الأول
* في حقيقة السفر وفوائده:
صفحه ۸
أصل السفر في اللغة (¬2): الظهور والبروز. ومنه أسفر الصباح إذا لمع، وسمي السفر سفرا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال (¬3)، أي: يظهر أحوالها. ومنه سفرت المرأة عن وجهها، إذا كشفته وأظهرته. ومنه سميت المكنسة: مسفرة، لأنها تسفر التراب عن وجه الأرض. ويقال: رجل سافر، وقوم سفر جمع سافر كراكب وركب، إلا أنهم لم ينطقوا بسافر. وسافر شاذ في الأفعال فيما وقع في باب (فاعل) من (فعل) واحد، وأكثره أن يكون من اثنين. والأصل فيه قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: من الآية20] وقال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15]
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سافروا تصحوا وتغنموا" أخرجه البيهقي في سننه من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم بإسناد ضعيف. وفي رواية الطبري "تسلموا" بدل "تغنموا " (¬1).
صفحه ۹
قال ابن عبد البر (¬1): وهذا عندي لا يعارض حديث "السفر قطعة من العذاب" (¬2)، بل ذلك العذاب: هو التعب والمشقة، كالدواء المر المعقب للصحة، لذلك قيل: السفر مصحة.
* وأما فوائده:
فقد أشار إليها الشافعي رحمه الله، فيما روي عنه من قوله (¬3):
تغرب عن الأوطان تكتسب العلي ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم، واكتساب معيشة ... وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
فإن قيل: في الأسفار ذل وخسة ... وقطع الفيافي، وارتكاب الشدائد
صفحه ۱۰
فموت الفتى خير له من حياته ... بدار هوان، بين واش وحاسد فأما الأولى: وهي انفراج الهم.
فإن الله أجرى العادة، أن الملازم لمكان واحد، وطعام واحد يسأم منه، لا سيما إذا كان في هم كثير، انتقل عن تلك الحالة أو تشاغل بغيرها، تصرف عنه الهم على التدريج، وانبعثت روحانيته لما يروم.
قال يحيى بن عدي: إن الطبيعة تمل الشيء الواحد إذا دام عليها، ولذلك اتخذت ألوان الطعام، وأطلق التزويج بأربع نسوة (¬1)، ورسم التنزه والتحول من مكان إلى مكان، والإكثار (¬2) من الإخوان، والتفنن في الآداب، والجمع بين الجد والهزل.
قال الحريري:
وجدت بها ما يملأ العين قرة ... ويسلي عن الأوطان كل غريب
وأما الثانية: وهي اكتساب المعيشة.
فإنها لا تكون إلا بالتحرك، للحديث السابق: "سافروا تغنموا" (¬3)، وفي التوراة: "ابن آدم خلقت من الحركة فتحرك، وإني معك". وقالت العرب: "البركات مع الحركات"، وقالوا: "أسفر الرجل عن الظفر"، وقيل: "من ضعف عمله اتكل على رزق غيره". وقال علي رضي الله عنه: "الرزق مقدمة اللون".
وقال أحمد ابن أبي داؤد: "الاستعجال قرين الاحتياج". ومن الكلم النوابع: "صعود الإكام (¬4) وهبوط الغيطان قرين القعود بين الحيطان". ولله در السراج الوراق حيث يقول:
صفحه ۱۱
دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداحة
وكن عن الراحة في معزل ... فالصفع موجود مع الراحة
وقال آخر:
ليس ارتحالك في نفس الغني سفرا ... بل المقام على فقر هو السفر
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: "ما المروءة فيكم؟ قال: العفة والحرفة"، ورئي عكرمة وراء نهر بلخ، فقيل له ما جاء بك ها هنا؟ قال: بناتي (¬1). وقال رجل لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ! أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك، فإنه أصلح لك، فقال له أتقول هذا؟! فقال: وما أنا قلت، ولكن الله عز وجل أمر به، قال الكريم: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} [مريم:25] ولو شاء أن ينزله عليها (¬2).
وأنشد الثعالبي:
ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... ولكن (علمنا) كل شيء له سبب
وقال النابغة:
صفحه ۱۲
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكى الفقر، أو لام الصديق فاكثرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وقال ابن عبد ربه: هل يجوز في عقل، أو يمثل في وهم، أو يصح في قياس أن يحصد زرع بغير بذر، أو يجني ثمر بغير غرس، أو يورى زند بغير قدح، أو ينموا مال بغير طلب.
وأما الفائدة الثالثة: وهي حصول العلم والأدب.
فقد كان السلف يرحلون في طلب الفائدة، ورحل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في طلب حديث واحد (¬1). وقال موسى: "لا تلوموا، فإني أدركت منه ما لم يدرك أحد". يريد: أن الله تعالى كلمه. ونظم هذا أبو تمام، فقال:
فإن موسى صلى روحه لله ... صلاة كثيرة القدس
صار نبيا، وأعظم بغيبته ... في جذوة للصلاة أو قبس
وقال آخر:
أولى التغرب، ما ارتقى ... در البحور إل النحور.
وأما الفائدة الرابعة: وهي الآداب.
فلما يرى من الأدباء، ولقاء العلماء والعقلاء الذين لا يردون قطره، فيكتسب من أخلاقهم وخلايقهم، ويتحلى بفوائدهم وحقايقهم، كما قيل:
صفحه ۱۳
إذا أعجبتك خلال امرئ ... فكنه، يكن فيك ما تعجب
فليس على المجد والمكرمات ... إذا رمتها حاجب يحجب
وأما الخامسة:: وهي صحبة الأمجاد.:
فيشهد لها الحس والواقع، وصحبة الأمجاد ترفع المنقوص، وترقيه إلى رتبة أهل الخصوص، وتدخله في زمرتهم، وتنسجه في لحمتهم ، ولله در القائل:
نزلت على آل المهلب شاتيا ... غريبا عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إحسانهم، وجميلهم ... وبرهم، حتى حسبتهم أهلي
وزاد عليه القاضي الرشيد بن الزبير، فقال:
ولما نزلنا في ظلال بيتهم أمنا ... ونلنا الخصب في زمن المحل
ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم ... على البر من أجلي حسبتهم أهلي
وقيل:
لولا الضرورات ما فارقتكم أبدا ... و(لا) تقلبت من ناس إلى ناس
وقيل:
وكل امرئ يولي (من) الجهل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وقال الثعالبي: "من فضايل السفر: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدايع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علما بقدرة الله تعالى، ويدعوا شكرا على نعمه".
صفحه ۱۴
وقال المأمون: "لا شيء ألذ من السفر في كفاية؛ لأنك كل يوم تحل محلة لم تحلها، وتعاشر قوما لم تعاشرهم". وقال عنترة: "السفر يشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويشهي الطعام". وقال ابن رشيق: "كتب إلى بعض إخواني: مثل الرجل القاعد - أعزك الله - كمثل الماء الراكد إن ترك تغير، وإن ترك تكدر، ومثل المسافر كالسحاب الماطر، هؤلاء يدعونه رحمة، وهؤلاء يدعونه نقمة، فإذا اتصلت أيامه ثقل مقامه وكثر لوامه، فأجمع لنفسك فرحة الغيبة، وفرحة الأوبة. والسلام".
وقالت الحكماء: "لا تدرك الراحة إلا بالتعب، ولا الرغبة إلا بالنصب".
وقال ابن شرف القيرواني:
وصير الأرض دارا والورى رحلا ... حتى ترى مقبلا في الناس مقبولا
ولهذه الفوائد أو بعضها أكثر الناس من الأسفار حتى قيل:
كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق
وفيه قول أبي الطيب:
يخيل لي أن البلاد مسامع ... وأني فيها ما يقول العواذل
معناه: أن العاذل ما له كلمة مستقرة في أذن المحب.
وقال ابن اللبان:
كأنما الأرض عني غير راضية ... فليس لي وطن فيها ولا وطر
ويقول الشهاب المناري:
إن عشت عشت بلا أهل ولا وطن ... وإن قضيت فلا قبر ولا كفن
أظن قبري بطون الوحش ترحل بي ... بعد الممات، ففي الحالين لي ظعن
فصل
* وللسفر فوائد غزيرة غير ما سبق:
صفحه ۱۵
أحدهما: رفع الإنسان نفسه من الذل إذا كان بين قوم لئام، كما قيل:
إذا جاورتك الليالي بساقط ... وقدرك مرفوع فعنه تحول
ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ... كبير أناس في بجاد مزمل
وقيل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... فما الكد في الدنيا ولا الناس قاسم
وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة - شرفها الله تعالى_، وهي أحب البقاع إليه، وهاجر إلى طيبة لما نأى المقام، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها وفتحها الله عليه. فيستنبط منه مشروعية الانتقال من مكان الضرر.
وإن صريح الأمر والرأي لامرئ ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا
الثاني: أن فيه تعديلا للبدن وصحة له، كما سبق "سافروا تصحوا (¬1) وروي "السفر مصحة، ومصحة ومصحة (¬2)، والفتح أعلى، أي: يصح عليه.
صفحه ۱۶
الثالث: يحصل مقام الغربة لنفسه، فإنه قد ورد فيه ما يبعث على ذلك، فذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله (¬3): أن وكيعا روى عن مالك (عن) (¬4) سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة يرفعه: "لو يعلم الناس ما للمسافر لأصبحوا على ظهر سفر، إن الله لينظر إلى الغريب في كل يوم مرتين"، قال: وهذا حديث غريب لا أصل له من حديث مالك ولا غيره. (وهو حديث حسن).
وفي "الطيوريات" من حديث رشدين بن سعد عن أبي علقمة عن أبي هريرة يرفعه: "لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر لأصبح الناس على ظهر سفر، إن الله عز وجل بالمسافر رحيم " (¬1).
الرابع: أنه إذا مات يحكم له بالشهادة، لما روى ابن ماجة والدارقطني في سننيهما من حديث ابن عباس يرفعه: "موت الغريب شهادة".
وذكره الدارقطني من حديث ابن عمر وصححه (¬2).
صفحه ۱۷
الخامس: روى النسائي وابن ماجة في سننيهما عن عبد الله بن عمرو قال: مات رجل بالمدينة (ممن) ولد بها فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "يا ليته مات بغير مولده" قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة". وفي إسناد هذا الحديث نظر (¬1).
صفحه ۱۸
وقد جاء في الترمذي مصححا: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فأني أشفع لمن يموت بها " (¬1).
السادس: أن الأعمال التي تفوته بسبب السفر تكتب له وإن لم يعملها، إذا كان العائق لها مجرد السفر، وفي صحيح البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله مقيما صحيحا" (¬2).
السابع: أنه مستجاب الدعوة، عن أبي هريرة يرفعه: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن (¬3).
صفحه ۱۹
وروى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن مطر بن عكامس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله لرجل أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة" رواه الترمذي، وقال: غريب، لا يعرف لمطر غيره (¬1)، وأخرجه الحاكم في مستدركه سندا ومتنا، ثم أخرجه عن أبي حمزة عن أبي إسحاق: "ما جعل الله أجل رجل بأرض إلا حصلت له فيها حاجة" (¬2). ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد اتفقا جميعا إخراج جماعة من الصحابة ليس لكل واحد منهم إلا راو واحد (¬1). وقال عثمان بن سعيد الدارمي (¬2)، قلت ليحيى بن معين: مطر بن عكامس لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا أعلم روى هذا الحديث، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث أبي المليح عن أبي عزة واسمه يسار بن عبد، وله صحبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة" أو قال فيها حاجة (¬3) ". وقال: حسن صحيح (¬4). وأخرجه الحاكم، وقال: حديث صحيح، ورواته عن آخرهم ثقات، وسمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول: سمعت العباس (بن محمد) الدوري (¬5) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: اسم أبي عزة يسار بن عبد له صحبة، وأما المليح فإني سمعت الدارقطني يلزم البخاري ومسلما إخراج حديث أبي المليح عن أبي عزة، فقد احتج البخاري بحديث أبي المليح عن بريدة ، وحديث أبي عزة رواه جماعة من الثقات الحفاظ. وأخرجه ابن عدي من جهة عبيد الله بن أبي حميد الهلالي عن أبي المليح به. قال: وعبيد الله متروك الحديث (¬6). وأخرجه ابن ماجة والحاكم أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أجل أحدكم بأرض أتت له إليها حاجة، فإذا بلغ أقصى أثره فتوفاه الله، فتقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتن " (¬1). قال الحاكم (¬2): قد احتج البخاري برواة هذا الحديث عن آخرهم. وفي لفظ له: "إذا كان منية أحدكم بأرض أتيح له الحاجة، فيقصد إليها أقصى أثره فيقبض منها. فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما استودعتني". وقال: قد أسنده ثلاثة من الثقات عن إسماعيل: (عمرو بن علي المقدمي ومحمد بن خالد الوهبي وهشيم) (¬3). وساق أسانيدهم. ثم قال: وأوقفه عنه سفيان بن عيينة، فيجيء على شرطهما في إخراج الزيادة من الثقات في الوصل والسند. انتهى.
وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير
وكان الشافعي رضي الله عنه ينشد قبل مجيئه إلى مصر (¬4):
صفحه ۲۲
وإني أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المهامة والقفر
فو الله ما أدري أللخفض والغني ... أقاد إليها؟ أم أقاد إلى قبري؟
واتفق في عصرنا أن شابا سافر من مصر إلى مكة لقصد الحج، فتوفي هناك، فأقام أهله عليه العزاء. فدخلت عليهم امرأة من العرب فأنشدتهم:
إذا لم تزرنا النائبات بأرضنا ... ركبنا المطايا نحوها فنزورها
فصل
وأما عيوب السفر: فأجلها فقد الأحباب، وتقطيع الأكباد، وترك المألوف، واقتحام المخوف، وقد روي في حديث:" المسافر وما له على قلت" (¬1) أي هلاك.
صفحه ۲۳
وأخرج البخاري في صحيحه من طريق مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنهم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فغذا قضي نهمته فلعجل إلى أهله " (¬2). قال أبو عمر بن عبد البر (¬3): هذا حديث تفرد به مالك عن سمي ولا يصح آخره، وانفرد به أيضا سمي، فلا يحفظ عن غيره. وهو صحيح ثابت احتاج الناس فيه إلى مالك، وليس له غير هذا الإسناد من وجه يصح.
وروي عبيد الله بن المنتاب عن سليمان بن إسحاق الطلحي عن هارون الفروي عن عبد الملك بن الماجشون قال: قال مالك: ما بال أهل العراق يسألون عن حديث: "السفر قطعة من العذاب"؟ قيل له: لم يروه غيرك. فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت به (¬1). ولا معارضة بينه وبين الأحاديث الدالة على مدح السفر، كما ظنه قوم، لاحتمال أن يكون العذاب - وهو التعب والنصب - مبتدأ للصحة والراحة (¬2).
قال ابن بطال (¬3): "لأن في الحركة والرياضة منفعة لأهل الدعة والرفاهة، كالدواء المر المعقب للصحة، وإن كان في تناوله كراهية".
والنهمة (بكسر النون وسكون الهاء): الحاجة وبلوغ الغرض. قال ابن التين: وضبطناه أيضا بكسرها. وقوله " فلعجل إلى أهله" أي: يسرع بالرجوع إليهم ليزيل عذابه ويطيب له طعامه وشرابه.
وذكر الخطابي (¬4) أن فيه حجة لمن رأى تغريب الزاني بعد جلده. قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: من الآية2].
صفحه ۲۴
وقال ابن عبد البر (¬1): "فيه دليل على أن طول التغريب عن الأهل والوطن لغير حاجة من دين أو دنيا لا يصلح ولا يجوز، وأن من انقضت حاجته لزمه الاستعجال لأهله".
* لطيفة:
ذكر السمعاني في "تاريخه"، قال: لما قدم الأستاذ أبو القاسم القشيري بغداد، وعقد له مجلس الوعظ. فروى في أول مجلسه الحديث المشهور: " السفر قطعة من العذاب"، فقام إليه سائل، وقال: لم سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لأنه من فرقة الأحباب. فاضطرب الناس وتواجدوا، وما أمكنه أن يتم المجلس فنزل.
* ومن معايبه.
أنه يورث ضيق الأخلاق. وقالوا: لا تعرف صاحبك حتى تعصيه أو تسافر معه. وقالوا: "الحريص والمسافر مريضان لا يعادان". وقال بعضهم يمدح: أفلح بسام وإن طال السفر. وقال علي - رضي الله عنهم -: "السفر ميزان القوم ". وقيل: "عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك ". وقيل لأعرابي: "ما الغبطة؟ (قال): الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان. قيل: ما الذلة؟، قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان". وحكي ابن عبد البر: أن الأمام الشافعي - رحمه الله - خرج في بعض أسفاره فضمه الليل إلى مسجد فبات فيه، وغذا في المسجد قوم يتحدثون، يضربون المنا، وهجر المنطق، فتمثل:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرؤا لا أشاكله (¬2)
وأنشدوا:
صفحه ۲۵
وكل غريب سوف يمشي بذلة ... إذا بات عن أوطانه وجفا الأهلا
وأنشدوا:
وإن اغتراب المرء من غير حاجة ... ولا فاقة يسموا لها لعجيب
وحسب الفتى ذلا، وإن أدرك الغنى ... (ولو) نال ملكا، أن يقال غريب
ومما ينسب إلى الشافعي - رحمه الله -، رواه ابن السمعاني بإسناده (عنه):
إن الغريب له مخافة سارق ... وخضوع مديون وذلة موثق
فإذا تذكر أهله وبلاده ... ففؤاده كجناح طير خافق (¬1)
وقد قال تعالى حاكيا عن من دخل الجنة: {يا ليت قومي يعلمون} [يس: من الآية26].
وأنشد ابن عطية:
على العز مطلوب وملتمس ... وأحسنه ما نيل في الوطن
وكان الحجاج يقول: "لولا فرح الإياب لما عذبت أعدائي إلا بالسفر". وقيل: "الغربة ذلة فإن أعقبها قلة فهي نفس مضمحلة". وقال إبقراط: (يداوي كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها وعادتها". وقال جالينوس: يستروح العليل إلى تربة أرضه كما تستروح الأرض الجدبة لوابل القطر. ولله در بن الرؤبي حيث يقول:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الفؤاد هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا
وأراد الحطيئة سفرا فلما أراد الركوب قالت له زوجته: متى الرجوع؟ فانشد:
صفحه ۲۶
عدي السنين إذا ارتحلت لرجعتي ... ودعي الشهور فإنهن قصار
فإنشدته:
أذكر صبابتنا غليك وشوقنا ... وأرحم بناتك إنهن صغار
فحط رحله ولم يخرج.
قالوا: وقد يكون الأكد مع الكد، والغيبة مع الغيبة كما يقيل:
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدرع بالخوف تحت الدجا ... واستصحب الجدي والفرقدين
وأطوي وأنشر ثوب العلا ... إلى أن رجعت بخفي حنين
وقال امرؤ القيس:
لقد طوفت في الآفاق حتى ... قنعت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر:
ألا رب باغي حاجة لا ينالها ... وآخر قد تقضي له وهو جالس
وهذا ونحوه قليل من كثير، وإنما الحكم للأغلب. والنجاح مع المطلوب أكثر، والحرمان للعاجز أصحب.
فصل
* في حكمه:
صفحه ۲۷
اعلم أن السفر مشروع في الجملة، ولكنه ينقسم إلى: طلب وهرب، وكل منهما ينقسم إلى الأحكام الخمسة (¬1).
أما الهرب، فينقسم إلى: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح.
أما الواجب: كالخروج من أرض غلب فيها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على المسلم.
وأما المستحب: فالخروج من أرض غلب فيها البدع إذا لم يقدر على إنكارها، قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: من الآية68].
وأما الحرام: فالخروج من ارض تعين عليه فيها وظيفة كمن يتعين قضاء البلد.
وأما المكروه: فالخروج من أرض وقع فيها الطاعون فرارا منه، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬2).
وأما المباح: فخروج المريض من الأرض الوخمة إلى النزهة (¬3)، وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك للرعاء حين استوخموا المدينة (¬4).
وأما سفر الطلب، فينقسم أيضا إلى واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح.
صفحه ۲۸