وما هو إلا عام وثلاثة أشهر حتى تلحق به زوجه ، ويحس صابر بفراغ هائل يشمله ويحيط بأيامه. كان شجرة خضراء غضة تعتمد في صعودها على الخبرة من أبيه وعلى الحنان من أمه. وقد كان أبوه عالما بأصول الزراعة كل العلم، وكان محبا للناس يدري كل الدراية كيف يتألف قلوبهم. وكان يعطي من ماله عند ضيق وعند فرج، فيكسب حب الناس له وإجلالهم وتقديرهم. وكان من هؤلاء القلة الذين وهب الله لهم تلك الموهبة الفذة التي تجعلهم كبارا بين قومهم وإن لم تعل بهم السن، هؤلاء الناس الموهوبون ملكة حب الناس، والقدرة على جعل الناس يحبونهم ويضعونهم بينهم في مكان الصدارة.
هؤلاء الناس الذين خلقهم الله كبارا في تصرفاتهم وفي أقوالهم وفي أعمالهم. لا يقربون الدنية، ويجعلون أيديهم هي العليا، ويعطون فلا بخل في العطاء، وكأنما هي لهؤلاء الناس حق عندهم يردونه إلى أصحابه.
وهكذا يجعلهم عشيرتهم رؤساء لهم وإن لم يطلبوا. وقد لازم صابر أباه عبد المعين حياته جميعا، وعرف كيف يكون مثله، وأكرمه الله بأن وهب له ما وهب لأبيه من الكبرياء بغير تكبر، ومن الحب للناس من غير تعاظم؛ يعطي ويلين للناس بالحديث والتراحم والأخوة، إذا صفت الأخوة برئت من جشع أو طمع أو حقد أو تحاسد.
لم يكن صابر مقبلا على الزراعة إقبال أبيه، ولكنه كان يعرف كيف يعامل الناس الذين يزرعون فأغدقت عليه الأرض. وقد ترك له أبوه مائة فدان خالصة من أجود أرض، مع أموال سائلة تغنيه كل الغناء.
وفي السنوات التي عاشها الجد استطاع أن يرى حفيديه كليهما يبدآن التعليم في مدارس الروضة الحكومية بالقاهرة، وكان يقسم وقته بين القاهرة وبين القرية، وكذلك كان يفعل صابر. وكان الطفلان يصاحبان الأب والجد إلى البلدة كلما ذهبا إليها، ولم تنقطع هذه العادة إلا حين بدآ تعليمهما في القاهرة. وأحس عبد المعين في فرح أن عبد الغني - ومثله عبد الودود - مقبلان كل الإقبال على القرية، وأن كليهما دائم السؤال عما تنتجه الأرض وعما يساويه هذا الإنتاج من مال. وكان عبد المعين في صفائه ورضا خلقه يسعد بهذا ، لعل الله أن يضع حب الأرض في الحفيدين ما دام لم يستطع الابن أن يحب الزراعة.
وحين مضى عبد المعين للقاء ربه كان قرير العين بهذه الخاطرة؛ فأبناء الدنيا يرون الخير والشر من ثقب ضيق لا يتيح لهم أن يتعرفوا أين يكمن خيرهم الحق، وأين يتربص بهم الشر.
كان صابر في زهرة الشباب حين صعد أبوه إلى جوار ربه، ولم تستطع أسرته المحبة له الحانية عليه أن تعوضه عما فقد بموت أبيه، وقد ازداد لوعة بفقدان أمه أيضا.
ولكن الحياة استطاعت أن تشغله بشواغلها، وما لبثت الأيام أن اجتذبته إلى دفاعها، ولكنه دائما كان يتحسس الجرح الغائر في حنايا نفسه بموت أبويه.
وكان الوقت شتاء، وكانت أسرة صابر كلها في القرية؛ فقد كان التلاميذ في إجازة نصف السنة، كانت الرياح خارج البيت عاصفة، واجتمعت الأسرة في حجرة واحدة من الطابق الأعلى من البيت الأنيق الذي كان عبد المعين قد بناه على أحدث طراز من فن ذلك الزمان؛ كان البيت يحتوي على أربع غرف في الطابق الأعلى، وعلى مثلها في الطابق الأول.
أما الطابق الأعلى فكان مخصصا للنوم، وكان عبد الغني وعبد الودود ينامان في غرفة واحدة، فقد كانا متحابين كل الحب، متلازمين في كل لحظة من لحظات حياتهما لا يفرق بينهما إلا فصول الدراسة، وقد أرادت وداد أن تخصص لكل منهما حجرة فأبى كلاهما ذلك.
صفحه نامشخص