58

الغزالي أحدث دويا علميا في جيله، وأحدث دويا علميا في الأجيال المتعاقبة، وتلك سمة الخلود، وطابع العبقرية.

والمشكلة الحقيقية ليس محورها الغزالي فحسب، بل محورها ومحركها الصراع بين مدرستين والتباغض بين فكرتين، اختلفتا في المزاج والتأويل، كما اختلفتا في التعليم والتفكير.

فالغزالي بعد أن برع وتفوق في مختلف العلوم والفنون أعرض عنها ولجأ إلى شعاع من الكشف الروحي جعله محور العبادة والهداية، ومن ثم أضفى على الفقه وسائر العلوم الإسلامية ثوبا صوفيا شمل أصولها وفروعها، واستطاع الغزالي أن يوقظ الشعور، ويلهب حرارة الروح والإيمان في الجماهير، كما استطاع أن يتزعم رجال المذاهب الصوفية، وهم قوة لها أثرها ونفوذها الضخم الساحر في التفكير الإسلامي.

وخاصم الغزالي شتيت من المفكرين، على اختلاف ألوانهم ونحلهم؛ من الفلاسفة إلى علماء الكلام، خصومة أساسها إسراف الغزالي في التمسك بالمظاهر الروحية، وإسراف هؤلاء في التمسك بالمظاهر العقلية.

وانضم إلى هؤلاء الخصوم بعض رجال الفقه؛ لأن الغزالي هاجمهم هجوما عنيفا، وزلزل مكانتهم في قلوب الجماهير زلزالا كبيرا إذ نادى بصوته القوي، بأن الفقيه هو العابد العامل بعلمه، لا العالم البارع في المجادلات والتخريجات.

وما أصدق ابن السبكي: «إن الطرق إلى المعرفة شتى مختلفة، وقلما رأيت سالكا لطريق من الطرق إلا واستقبح الطريق التي لم يسلكها، ولم يفتح عليه من قبل فيها، فيضع عند ذلك من أهلها.»

وقد تعددت الكتب والآراء التي صدرت في نقد الغزالي، ولكن أشد خصومه التاريخيين: ابن رشد من الفلاسفة، وابن القيم من المجددين الإسلاميين.

أما ابن رشد: فقد هاجمه دفاعا عن الفلسفة وانتصارا للفلاسفة، وهو هجوم لم يثبت على التاريخ؛ لأن الغزالي كان فيه نصيرا للروح الإسلامي، وكان ابن رشد فيه صدى لأفكار غيره من فلاسفة الإغريق وسواهم من المتأخرين.

وأما ابن القيم ومن ذهب مذهبه وجرى في عنان الخصومة جريه، فقد حصروا نقدهم للغزالي في عشرين مسألة تدور بأسرها على محور واحد، وهو إسراف الصوفية في الابتعاد عن المظاهر الإسلامية، وأهم تلك المسائل: (1)

قول الغزالي: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»؛ فقد اعتبروا أن في تلك الكلمة ما يوهم العجز في قدرة الله تعالى. (2)

صفحه نامشخص