وفي سبيل تطهير المجتمع الإسلامي رفع الغزالي لواء رسالته الأخلاقية، وهي من أجل جوانب رسالته العامة.
ولكي ندرك عظمة الغزالي في جهاده يجب أن نتصور فساد عصره وبلبلة الأفكار فيه، وفساد العلماء والفقهاء المتصدرين للقيادة والإرشاد، هؤلاء الفقهاء الذين يصفهم الغزالي فيقول:
ولو سئل فقيه عن معنى الإخلاص أو التوكل أو وجه الاحتراز من الرياء لتوقف فيه، ولو سألته عن اللعان والظهار لسرد عليك مجلدات من التفريقات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء فيها، وهو لا يزال يتعب ليلا ونهارا في حفظها ودرسها، ويغفل عن روح الإسلام ومعانيه.
وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به؛ لأنه علم الدين وفرض كفاية، ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه.
ولو كان غرضه الحق في تعلم فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين، بل قدم عليه كثيرا من فروض الكفاية، فكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذمة، ثم لا ترى أحدا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء.
فليت شعري! كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة إهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب؟ إلا أن الطب ليس متيسرا به الوصول إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة أموال اليتامى، وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء.
تلك أخلاق العلماء والفقهاء في عصره، وهذا مبلغها من الفساد وفهم الشريعة والأخلاق، وإذا فسد العلماء والفقهاء فسدت الجماهير وفسدت الصورة النبيلة التي للدين.
وقد استطاع الغزالي أن يظفر بنصر كامل، بل استطاع أن يدفع قافلة الحياة في عصره إلى وجهة جديدة، وأن يحمل الناس على نهج جديد لا تزال آثاره تسود عصرنا وتهيمن على توجيهاته رغم القرون والأحقاب.
يقول العلامة ماكدولاند: «إن الغزالي عاد بالناس من الجري في أثر النظريات والجدل، والفقه والمنطق والعلوم الدينية، واختلاف المذاهب والطرق، إلى الحياة الحقيقة والاتصال الملابس للدين والسنة والكتاب، بل إلى روح الدين ذاته وجوهره ولبابه دون القشور والسطوح والمسائل النظرية الكثيرة العقد، وإن ما وقع في أوربا عند تحطيم نير الفلسفة المذهبية في القرون الوسطى، بل إن ما هو اليوم بالذات واقع بسبيل هذا، ونحوه قد وقع بالفعل في الإسلام لعهد إمامة الغزالي وزعامته الفكرية، وقيامه بدعوته وأداء رسالته.
وقد كان في وسعه أن يكون فقيها مع الفقهاء ومذهبيا مع المتبذهبين، ولكن طريقته في الحق وفضله ينحصران في توفره على إبراز الكتاب والسنة، وجعلهما أساسا علميا لا تحول عنه ولا تبديل له، وقد ظهر دائما أن الانطلاق من البحث النظري عن الحقائق والجدل فيها، والحوار المقيم عليها، إلى الأخذ بهذه الحقائق الأساسية في غير جدل عقيم، وبحث غير مجد؛ هو في الواقع الفرار من النزعة المذهبية، والتخلص من نيرها المستبد الأليم.
صفحه نامشخص