ومن ثم صفت روحه صفاء أهلها لاقتباس النور من منابع النور العليا، فألف أخلد كتبه ومنها الإحياء، كما ذهب إلى بيت المقدس، واعتكف في المنارة الغربية من المسجد الأقصى، ثم رحل إلى الإسكندرية.
ثم عاد إلى وطنه خراسان فعاش معتزلا منهمكا في التأمل والمجاهدة والتفكير، ومن عجب أنه عاود التدريس في المدرسة النظامية بنيسابور! ثم رجع إلى طوس، واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته بين تلاوة القرآن، ومجالسة أرباب القلوب والتدريس، والكشف الباطني، كما أخذ يدرس علم الحديث.
وكانت وفاة الإمام الغزالي بطوس يوم الإثنين رابع عشر من جمادى الأخرى سنة خمس وخمسمائة، الموافق ثمانية عشر من ديسمبر سنة ألف ومائة وإحدى عشرة ميلادية، ونقل ابن الجوزي في كتاب الثبات عن أحمد أخي الغزالي أنه قال:
لما كان يوم الإثنين، وقت الصبح، توضأ أخي أبو حامد وصلى، وقال: علي بالكفن. فأخذه وقبله ووضعه على عينيه، وقال: سمعا وطاعة للدخول على الملك. ثم مد رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار.
الشك مقدمة اليقين
تتراوح حياة الغزالي بين فكرتين، لكل منهما أكبر الأثر في دراساته وتوجيهاته، وإلى هاتين الفكرتين ترجع جميع الألوان والصفات المميزة لميراثه الثقافي، وهما الشك والإيمان، فهما مفتاح الوصول إلى تفهم شخصيته وأساليبه وأفكاره.
وقد آمن الغزالي بالشك واعتنقه صراطا علميا، يقول في خاتمة كتابه «ميزان العمل»: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطب فناهيك به نفعا؛ إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».
وإذن؛ فالشكوك في مطلع حياة الغزالي كانت طريقه إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. تلك هي شريعة الغزالي، وهذا هو منهاجه العلمي، وقد درس العلوم التقليدية والفلسفية والمذهبية في هذا الضوء.
وقد سبق الغزالي بجعله الشك مذهبا من مذاهب العلم، وفي إيمانه بأن الشكوك هي طريق الحقائق «ديكارت» و«دافيد هيوم» وهما أئمة هذا المذهب في الفلسفة الأوربية الحديثة، بل لقد أصبح الشك مذهبا من مذاهب العلم المعاصر، بل لونا من ألوان التجديد والابتكار.
ولا ريب في أن شكوك الغزالي قد أفادته فائدة كبرى في دراساته؛ فقد علمته أن يناقش قبل أن يؤمن، وعلمته ألا يقنع بما علم، بل يطلب المزيد أبدا.
صفحه نامشخص