ـ[غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود]ـ
المؤلف: السموأل بن يحيى بن عباس المغربي (المتوفى: نحو ٥٧٠هـ)
تحقيق ودراسة: د. إمام حنفي سيد عبد الله
الناشر: دار الآفاق العربية - القاهرة
الطبعة: الأولى ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 35
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أما بعد حمد الله على ما ألهم من الهداية وعصم عنه من الغواية،
والصلاة على محمد، خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين، فإن سبيل من فضل من العباد بالفطانة والرشاد أن يجد في البحث عن أحوال المعاد، والتأمل لما أخذه من الآباء والأجداد بعين الامتحان والانتقاد، فإن رآه فضيلة سمَا لإدراكها، وإن ألفها رزيلة نجا من أشراكها، ليحصى حقائبه بطانًا من الزاد، فإن هاتف الموت بالمرصاد، ولن تحمد العقبى مضيع في تحصين شرعه، وموزع مواقيته على ما ينقاد إليه بطبعه، ولن يظفر بضالة الحق إلا ناشدوها، ولن يبهرج الأباطيل على أنفسهم إلا مفسدوها.
الغرض الأقصى من إنشاء هذه الكلمة الرد على أهل اللجاج والعناد،
بأن نظهر ما يعتور كلمتهم من الفساد، على أن الأئمة - ضوعف ثوابهم - قد انتدبوا قبلي لذلك، وسلكوا في مناظرة اليهود أنواع المسالك، إلا أن أكثر ما نوظروا به يكادون لا يفقهونه، ولا يلتزمونه.
1 / 36
وقد جعل الله إلى إفحامهم طريقًا، مما يتداولونه في أيديهم من نص
توراتهم، وعماهم الله عنه عند تبديلهم، ليكون حجة عليهم موجودة فى
أيديهم.
إلزام اليهود الفسخ في الشرائع
وهذا أول ما أبتدئ من إلزامهم النسخ من نصِّ كتابهم ومما تقتضيه أصولهم.
نقول لهم: هل كان قبل نزول التوراة شرعٌ أم لا؟
فإن جحدوا كذبوا بما نطق به الجزء الثاني من السفر الأول من التوراة، إذ شرع الله على نوح، ﵇، القصاص في القتلى ذلك قوله تعالى:
"شوفيخ ذام هاء إذام باء اذام دامو يشافيخ كى يصيلم ألوهيم عاساات
ها اذام " .. تفسيره: سافك.
دم الإنسان، فليحكم بسفك دمهِ، لأن الله خلق الآدمي بصورةٍ
شريفةٍ.
وما يشهد به الجزء الثاني من السفر الأول من التوراة، إذ شرع إبراهيم،
﵇ ختانة المولود في اليوم الثامن من ميلاده.
وهذه - وأمثالها - شرائع، لأن الشرع لا يخرج عن كونه أمرًا أو نهيًا من الله
لعباده، سواء نزل على لسان رسولٍ، أو كُتبَ في أسفار، أو ألواح أو غير ذلك.
فإذا أقروا بأن قد كان شرعٌ، قلنا لهم: ما تقولون في التوراة، هل أتت بزيادة على تلك الشرائع، أم لا؟
فإن لم تكن أتت بزيادةٍ، فقد صارت عبثًا،
1 / 37
إذ لا زيادة فيها، على ما تقدم، ولم تغن شيئًا، فلا يجوز أن تكون صادرةً عن الله، تعالى، فيلزمكم أن التوراة ليست من عند الله، وذلك كفر على مذهبكم!
وإن كانت التوراة أتت بزيادة، فهل في تلك الزيادة تحريم ما كان مباحًا، أم لا؟
فإن أنكروا ذلك، بطل قولهم من وجهين: -
- أحدهما: أن التوراة حرمت الأعمال الصناعية في يوم السبت، بعد أن
كان ذلك مباحًا، وهذا بعينه فهو النسخ.
- والثانى: أنه لا معنى للزيادة في الشرع، إلا تحريم ما تقدمت إباحته،
وإباحة ما تقدم تحريمه.
- فإن قالوا: إن الحكيم لا يحظرُ شيئًا، ثم يبيحه، لأن ذلك إن جاز مثله، كان كمن أمر بشىء وضده!
فالجواب: إن من أمر بشىءٍ وضدهِ في زمانين مختلفين، غير مناقضٍ بين أوامره
، وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد.
فإن قالوا: إن التوراة حظرت أمورًا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور.
والنسخ المكروه هو إباحة المحظور" لأن من أبيح له شىءً فامتنع عنه وحظره
على نفسه، فليس بمخالف، وإنما المخالفُ من منع عن شىءٍ فأتاه، لاستباحته المحظور.
فالجواب: من أحلَّ ما حظره الشرع في طبقة المحرم لما أحله الشرعُ، إذ كل
منهما قد خالف المشروع ولم يقرّ الكلمة على معاهدها.
1 / 38
فإذا جاز أن يأتي في شرع التوراة تحريم ما كان إبراهيم، ﵇
، ومن تقدمه على استباحته، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل ما كان في التوراة محظورًا.
وأيضًا: فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضًا في كل الأزمنة، لأن
الله يكرهُ ذلك المحظور لعينه أو لا يكون كذلك، بل نهى عنه في بعض
الأزمنة.
فإن كان الله ينهى عن عمل الصناعات في يوم السبت، لعين السبت، فينبغى أن يكون هذا التحريم على إبراهيم ونوح وآدم أيضًا؛ لأن عين السبت كانت أيضًا موجودة في زمانه، وهى علةُ التحريم.
وإذا كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن تقدمه، فليس النهى عنه لعينه، أعني في جميع أوقات وجود عينه.
وإذًا لزمكم أن تحريم الأعمال الصناعية في يوم السبت ليس بمحرم في جميع
وجود أوقات السبت، فليس بممتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمانٍ آخرَ،
وإذا ظهر قائمٌ بمعجزات الرسالة وأعلام النبوة في زمنٍ آخر بعد فترةٍ طويلة.
فجائز أن يأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة، سواء حظر مباحاتها، أو أباح محظوراتها، وكيف يجوز أن يحاج من جاء بالبينةِ البشرية أو باينها، ولا سيما أن الخصوم قد طالما تعبدوا بفرائض مباينة للعقول، كطهارة أنجاسهم برماد البقرة
1 / 39
التى كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة طاهرهم بذلك الرماد بعينه.
على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرًا إلى العقل، فإن الأفعال
والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية.
وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدةٍ بنفع لله، ﷿، ولا دافعةٍ عنه
ضررًا، لتنزهه، سبحانه، عن الانتفاع والتأذى بشىءٍ فما الذي يحيلُ أو يمنع
كونه تعالى، يأمرُ أمةً بشريعةٍ، ثم ينهى أمةً أخرى عنها، أو يُحرِّم محظورًا
على قوم، ويحله لأولادهم، ثم يحظره ثانيًا على من يجىء من بعده!
كيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حرامًا على قوم،
ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاء بالبينة، وأوجب العقل تصديقه وتحكيمه، أليس هذا تحكمًا وضلالًا وعدولًا عن الحق.؟!
إفحام اليهود والنصارى بالحجة العقلية وإلزامهم الإسلام
لا يسع عاقلًا أن يكذب نبيًا ذا دعوة شائعة، وكلمة قائمة، ويصدق غيره، لأنه لم ير أحدهما، ولا شاهد معجزاته، فإذا خصص أحدهما بالتصديق، والآخر بالتكذيب، فقد تعين عليه الملام والإزراء عقلًا.
ولنضرب لذلك مثالًا: وهو أنا إذا سألنا يهوديًا عن موسى، ﵇،
وهل رآه وعاين معجزاته؟ .. فهو بالضرورة يقرُّ بأنه لم يشاهد شيئًا من ذلك عيانًا.
فنقول له: بماذا عرفت نبوة موسى وصدقه
1 / 40
فإن قال: إن التواتر قد حقق ذلك، وشهادات الأمم بصحته دليل ثابت
فى العقل، كما قد ثبت عقلًا وجود بلاد وأنهار لم نشاهدها، وإنما تحققنا وجودها بتواتر الأنباء والأخبار.
قلنا: إن هذا التواتر موجود لمحمد وعيسى، ﵉، كما هو
موجود لموسى ﵇. فيلزمك التصديق بهما.
وإن قال اليهودي: إن شهادة أبي عندي بنبوة موسى، هى سبب تصديقي
بنبوته.
قلنا له: ولمَ كان أبوك عندك صادقًا في ذلك معصومًا عن الكذب، وأنت ترى الكفار أيضا يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك، إما تعصبًا من أحدهم لدينه وكراهيته لمباينة طائفته، ومفارقة قومه وعشيرته، وإما لأن أباه وأشياخه نقلوه إليه، فتلقفته منهم، معتقدًا فيه الهداية والنجاة!
فإذا كنت، يا هذا، ترى جميع المذاهب التي تكفرها قد أخذها أربابها
عن آبائهم، كأخذك مذهبك عن أبيك، وكنت عالمًا أن ما هم عليه
ضلال وجهلٌ. فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك، خوفًا من أن تكون هذه حالته!
فإن قال: إن الذي أخذته عن أبى أصحُّ مما أخذه الناس عن آبائهم: لزمه أن يقيم البرهان على نبوة موسى، من غير تقليد لأبيه، لأنه قد ادعى صحة ذلك بغير تقليد.
1 / 41
وإن زعم أن العلة في صحة ما نقله عن أبيه أن أباه يرجح على آباء الناس
بالصدق والمعرفة، كما تدعى اليهود في حق آبائها، لزمه أن يأتي بالدليل على أن أباه كان أعقل من سائر آباء الناس وأفضل، فإن هو ادعى ذلك كذب فيه، لأن من هذه صفته، يجب أن يستدل على فضائله بآثاره.
وقول اليهود باطل. بأنه ليس لهم من الآثار في العالم ما لغيرهم مثله، بل
على الحقيقة لا ذكر لهم بين الأمم الذين استخرجوا العلوم الدقيقة، ودونوها لمن يأتى بعدهم.
وجميع ما نسب إليهم من العلوم مما استفادوه، من علوم غيرهم لا يضاهى
بعض الفنون الحكمية التي استخرجها حكماء اليونان، والعلوم التى
استنبطها النبط.
وأما تصانيف المسلمين فيستحيل لكثرتها أن يقف أحدٌ من الناس على جميع ما
صنفوه في أحد الفنون العلمية، لسعته وكثرته. وإذا كان هذا موقعهم من الأمم، فقد بطل قولهم: إن آباءهم أعقل الناس وأفضلهم وأحكمهم ولهم أسوة بسائر آباء الناس المماثلين لهم من ولد سام بن نوح، ﵉.
فإذا أقروا بتأسى آبائهم بآباء غيرهم، وعلموا بأن آباء غيرهم قد لقنوهم
الكفر. لزمهم أن شهادة الآباء لا يجوز أن تكون حجةً في صحة الدين، فلا يبقى لهم حجة بنبوة موسى، ﵇، إلا شهادة التواتر، وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد، كوجوده لموسى، ﵈.
1 / 42
وإذا كانوا قد آمنوا بموسى لشهادة التواتر بنبوته، فقد لزمهم التصديق بنبوة
المسيح والمصطفى، صلى الله عليهما وسلم.
وجه آخر في إثبات النسخ بأصولها
نقول لهم: هل أنتم اليوم على ملة موسى، ﵇؟
فإن قالوا: نعم.
قلنا لهم: أليس في التوراة: "أن من قسَّ عظمًا، أو وطئ قبرًا، أو حضر
ميتًا عند موته، فإنه يصير من النجاسة في حالٍ لا مخرج له منها، إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها؟!
فلا يمكنهم مخالفة ذلك، لأنه نص ما يتداولونه.
فيقول لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟
فيقولون: لا نقدر عليه.
فيقول لهم: فلمَ جعلتم أن من لمس العظم والقبر والميت فهو طاهر يصلح
للصلاة وحمل المصحف، والذى في كتابكم بخلافه؟!
فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهى رماد البقرة، والإمام المطهر
المستغفر.
قلنا: فهل ترون هذا الأمر مع عجزكم عن فعله مما تستغنون في الطهارة عنه، أم لا، فإن قالوا: نعم، قد نستغنى عنه. فقد أقروا بالنسخ لتلك الفريضة لحالٍ اقتضاها هذا الزمان.
1 / 43
وإن قالوا: لا نستغنى في الطهارة عن ذلك الطهور.
فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدًا، ما داموا لا يقدرون على سبب الطهارة.
فنقول لهم: فإذا كنتم أنجاسًا، على رأيكم وأصولكم، فما بالكم تعتزلون
الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيامٍ اعتزالًا تفرطون فيه إلى حدِّ أن
أحدكم لو لمس ثوبه ثوبَ المرأة لاستنجستموه مع ثوبه.
فإن قالوا: لأن ذلك من أحكام التوراة.
قلنا: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟
فإذا كانت الطهارة قد فاتتكم والنجاسة التي أنتم فيها هى على معتقدكم
لا ترتفع بالغسل كنجاسة الحيض، فهى لذلك أشدُّ من نجاسة الحيض.
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهرة، إذا كانت من غير ملتكم، ولا تستنجسون
لامسها ولا الثوب الذي تلمسه، وتخصيص هذا الأمر - أعني نجاسة
الحيض - بطائفتكم، مما ليس في التوراة.
فهذا كله منكم نسخٌ أوتبديل.
فإن قالوا: إن هذا - وإن كان النص غير ناطقٍ به - فقد جاء في الفقه.
قلنا لهم: فما تقولون في فقهائكم، هل الذي اختلفوا فيه من مسائل
الخلاف والذهب - (على كثرتها - كان ثمرة اجتهاد واستدلال منقولًا) بعيته؟
فهم يقولون: إن جميع ما في كتب فقهنا نقله الفقهاء عن الأحبار عن الثقات من السلف عن يوشع بن نون عن موسى الكليم، ﵉، عن الله تعالى.
1 / 44
فيلزمكم في هذا أن المسألة الواحدة التي اختلف فيها اثنان من فقهائكم،
يكون كل واحد منهما ينقل مذهبه فيها نقلًا مسندًا إلى الله، ﷿، وفى
ذلك من الشناعة اللازمة لهم أن يجعلوا الله قد أمر في تلك المسألة بشىء
وخلافه، وهو النسخ الذي يدفعونه بعينه.
فإن قالوا: إن هذا الخلاف غير مستعمل، لأن الأولين كانوا بعد اختلافهم
فى المذهب في المسألة يرجعون بها إلى أصلٍ واحد، هو المقطوع به.
قلنا: إن رجوعهم بعد الاختلاف إلى الاتفاق على مذهبٍ واحدٍ، إما لأن
أحدهم رجع عما نقل، أو طعن في نقله، فيلزمه السقوط عن العدالة، ولا يجوز لكم أن تعاودوا الالتفات إلى نقله، وإما أن يكون الفقهاء اجتمعوا على نسخ أحد المذهبين، أو تكون رواية أحدهما ناسخة لرواية الآخر، وما من الفقهاء إلا من ألغى مذهبه في مسائل كثيرة، وهذا جنون ممن لا يقر بالنسخ، ولا يرى كلام أصحاب الخلاف اجتهادًا ونظرًا، بل نقلًا محضًا.
إلزام النسخ بوجه آخر
نقول لهم: ما تقولون في صلواتكم وأصوامكم، هل هى التي فارقكم عليها
موسى صلى الله عليه؟
فإن قالوا: نعم.
1 / 45
قلنا: فهل كان موسى وأمته يقولون في صلواتهم كما تقولون: "تقاع شوفار
كادول لخير وثينو وسانيس لقبو صينو وقبصينو باخد ميارباع كنفوث هاارض النوى قد شيحنا باروخ إثا ادناى مقبَّيص نذحى عمو يسرائيل ".
تفسيره: " اللهم اضرب ببوقٍ عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعًا من أربعة
أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع تشتيت قوم بنى إسرائيل ".
أم هل كانوا يقولون على عهد موسى ﵇، كما يقولون في كل
يوم: "هاشيب شوفطينوا كبار يشونا ويوعصينو لبتحلا وينى أث يروشا لايم عير قد شنحا يحيينوونا حمينو بنيا نماه ياروخ أثا اذوناى بوفى يرشالايم ".
تفسيره: " اردد حكامنا كالأولين، ومشيرينا كالابتداء، وابن
يروشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها، سبحانك يا بانى يروشليم ".
أم هذه فصول شاهدة بأنكم لفقتموها بعد زوال الدولة، وأما صوم إحراق
بيت المقدس، وصوم حصاره، وصوم كذليا الذي جعلتموها فرضًا،
هل كان موسى يصومها، أو أمر بها هو أو خليفته يوشع بن نون، أو صوم
صلب هامان، هل هذه الأمور مفترضة في التوراة أو زيدت لأسباب اقتضت
زيادتها في هذه الأعصار؟
1 / 46
فإن قالوا: وكيف يلزمنا النسخ بهذا الأمر؟
قلنا: لأن التوراة نطقت بهذه الآية: "لوتوسيفو على هدَّا بار أشير
أنوحى مصوى الجيم ولو تعرعو ممينو".
تفسيره: "لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئًا، ولا تنقصوا منه
شيئًا، وإذا زدتم شيئًا من الفرائض، فقد نسختم تلك الآية".
إثبات النسخ على وجهٍ آخر
نقول لهم: أليس عندكم أن الله اختار من بنى إسرائيل الأبكار، ليكونوا خواص فى الخدمة للأقداس؟
فيقولون: بلى.
فنقول لهم: أليس عندكم أيضًا أن موسى لما نزل من الجبل وبيده الألواح،
ووجد القوم عاكفين على العجل، ووقف بطرف المعسكر، ونادى: " من كان لله فليحضرنى". فانضم إليه بنوليوى، ولم ينضم إليه البكور، على أن مناداته، وإن كان لفظها يقتضى العموم، لم تكن إشارتها إلا إلى البكور، إذ هم خاصة الله يومئذ، دون أولاد لاوى، فلما خذله البكور. ونصرهُ أولاد ليوى قال الله لموسى: " وأ اقاح اث هلوتيم تاحت كل نحُو بنى يسراايل " .. تفسيره: "وقد أخذت اللاويين عوضًا عن كل بكر في بنى إسرائيل " ..
وفى عقيب نزول هذه
1 / 47
الآية، أليس أن الله عزل الأبكار عن ولاية الاختصاص، وأخذ أولاد ليوى عوضًا عنهم؟! فهم لا يقدرون على إنكار ذلك.
وهذا يلزمهم منه القول بالبداء أو النسخ.
إلزام نبوة المسيح، صلى الله عليه
نقول لهم: أليس في التوراة التي في أيديكم: "لوياسور شبيط ميم ومحو فيق مبين زعلاو" .. تفسيره: لا يزول الملك من آل يهود، أو الراسم بين ظهرانيهم، إلى أن يأتي المسيح، فلا يقدرون على جحده.
فنقول لهم: أفما علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح، ثم انقضى ملككم، فإن لم يكن لكم اليوم ملك، فقد لزمكم من التوراة أن المسيح قد أرسل.
وأيضا فإنا نقول: أليس منذ بعث المسيح، ﵇، استولت
ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم وتفرق شملهم؟! ولا يقدرون على جحد ذلك إلا بالبهتان.
ويلزمهم، على أصلهم الذي في التوراة أن عيسى ابن مريم هو المسيح الذى
كانوا ينتظرونه.
إلزامهم نبوته ونبوة المصطفى، ﵉.
نقول لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
1 / 48
فيقولون: ولد يوسف النجار سفاحًا. كان قد عرف اسم الله الأعظم فسخر
به كثيرًا من الأشياء.
فيقول لهم: أليس عندكم في أصح نقلكم أن موسى، ﵇، قد أطلعه الله على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفًا، وبه شق البحر، وعمل المعجزات؟! .. فلا يقدرون على إنكار ذلك.
فنقول لهم: فإذا كان موسى أيضًا قد عمل المعجزات بأسماء الله تعالى
، فلمَ صدقتم نبوته، وكذبتم نبوة عيسى؟!
فيقولون: لأن الله تعالى علم موسى الأسماء، وعيسى لم يتعلمها من الوحى،
ولكنه تعلمها من حيطان بيت المقدس.
فنقول لهم: فإذا كان الأمرُ الذي يتوصلُ به إلى عمل المعجزات قد يصل إليه من لا يختصه الله به، ولا يزيد تعليمه إياه، فبأى شىء جاز تصديق موسى؟
فيقولون: لأنه أخذها عن ربه.
فنقول: وبأى شىء عرفتم أنه أخذها عن ربه؟
فيقولون: بما تواتر من أخبار أسلافنا.
وأيضا فإنا نلجئهم إلى نقل أسلافهم "
بأن نقول لهم: بماذا عرفتم نبوة موسى؟
فإن قالوا: بما عمله من المعجزات.
قلنا لهم: وهل فيكم من رأى هذه المعجزات؟
ليس هذا، لعمرى، طريقًا إلى تصديق النبوات، لأن هذا كان يلزم منه أن تكون معجزات الأنبياء، ﵈،
1 / 49
باقيةً من بعدهم ليراها كل جيل وجيل، فيؤمنوا به، وليس ذلك
بواجب " لأنه إذا اشتهر النبي في عصر، وصحت نبوتُهُ في ذلك العصر
بالمعجزات التي ظهرت منه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصرٍ آخر،
ووجب عليهم تصديق نبوته واتباعه، لأن المتواترات والمشهورات مما يجب قبولها فى العقل.
وموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله عليهم وسلامه، في هذا الأمر
متساوون، ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمدٍ ﵉، لأن شهادة المسلمين والنصارى بنبوة موسى ليست إلا بسبب أن كتابيهما شهدا له بذلك، فتصديقهم بنبوة موسى فرع على تصديقهم بكتابتهم.
وأما معجزة القرآن فإنها، وإن كانت باقيةً، فتلك فضيلة زائدة لا تحتاج
إلى كونها سبب الإيمان. فأما من أعطى ذوق الفصاحة، فإن إيمانه بإعجاز القرآن إيمانُ من شاهد المعجزة، لا من اعتمد على الخبر، إلا أن هذه درجة
لم يرشح لها كل أحدٍ.
فإن قالوا: إن نبينا تشهد له جميع الأمم، فالتواتر به أقوى، فكيف تقولون إنه أضعف؟!
قلنا: وكأن إجماع شهادات الأمم صحيح لديكم؟!
1 / 50
فإن قالوا: نعم.
قلنا: فإن الأمم الذين قبلتم شهاداتهم مجمعون على تكفيركم وتضليلكم،
فيلزمكم ذلك، لأن شهادتهم عندكم مقبولة!
فإن قالوا: لا نقبل شهادة أحدٍ .. لم يبق لهم تواتر إلا من طائفتهم، وهى أقل
الطوائف عددًا، فيصير تواترهم وشرعهم لذلك أضعف الشرائع.
ويلزمهم مما تقدم - أن كل من أظهر معجزاتٍ شهد بها التواتر مصدقٌ فى
مقالته، ويلزمهم - مِن ذلك - التصديق بنبوة المسيح والمصطفى، ﵉.
فَصْل فيَما يَحْكُونَهُ عَنْ عيسى ﵇
هم يزعمون أنه كان من العلماء لا من الأنبياء، وأنه كان يطببُ المرضى
بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه أبرأ جماعةً من
المرضى من أسقامهم في يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك.
فقال لهم: أخبرونى عن الشاة من الغنم، وإذا وقعت في البئر يوم السبت أما
تنزلون إليها، وتحلون السبت لتخليصها؟
قالوا: بلى.
قال: فلمَ أحللتم السبت لتخليص الغنم، ولا تحلونها لتخليص الإنسان
الذى هو أكبر حرمةً من الغنم؟!
1 / 51
فأفحمهم، ولم يؤمنوا.
وأيضًا، فإنهم يحكون عنه أنه كان مع قومٍ من تلاميذه في جبل ولم يحضرهم
الطعام، فأذن لهم في تناول الحشيش في يوم السبت.
فأنكرت عليه اليهودُ قطع الحشيش في يوم السبت.
فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم، لو كان وحيدًا مع قومٍ على غير ملته، وأمروهُ بقطع النبات في يوم السبت وإلقائه لدوابهم، لا ليقصدوا بذلك كسر السبت
تجيزون له قطع النبات؟!
قالوا: بلى.
قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه لينقذوا به أنفسهم، لا
للطعن في أمر السبت.
كل ذلك ملاطفةً منه لعقولهم التي لا ينطبع فيها النسخ. ولئن كان ما يحكونه
من ذلك صحيحًا، فلعله كان في ابتداء ظهور أمر المسيح، ﵇.
ذكر الآيات والعلامات التي في التوراة الدالة على نبوة سيدنا محمد المصطفى ﷺ -
إنهم لا يقدرون على أن يجحدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة.
1 / 52
"نابى أقيم لا هيم مقارب أحيهم كاموخا ايلا وتشماعون " ...
تفسيره: "نبيًا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به، فليؤمنوا".
وإنما أشار بهذا إلى أنهم يؤمنون بمحمد ﷺ.
فإن قالوا: إنه قال، من وسط إخوتهم. وليس في عادة كتابنا أن يعنى
بقوله: "إخوتكم" إلا بني إسرائيل.
قلنا: بلى، قد جاء في التوراة "إخوتكم بنى العيص"، وذلك في الجزء الأول
من السفر الخامس، قوله:
"اتيم عوبز بقبول اخيحم بنى عيسووهيوشييم بسيعير".
تفسيره: " أنتم عابرون في تخم إخوتكم بنى العيص المقيمين في سيعير، إياكم أن تطيعُوا في شىء من أرضهم ".
فإذا كان بنو العيص إخوة لبنى إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم.
وإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموائيل النبي، ﵇، لأنه قال: "من وسط إخوتهم مثلك ". وشموائيل كان مثل موسى" لأنه من أولاد ليوى يعنون من السبط الذي كان منه موسى، ﵇.
قلنا لهم: فإن كنتم صادقين، فأى حاجةٍ بكم إلى أن يوصيكم بالإيمان
بشموائيل، وأنتم تقولون: إن شموائيل لم يأتِ بزيادةٍ، لا بنسخ أشفق
1 / 53
من أن لا تقبلوه، لأنه إنما أرسل ليقوى أيديكم على أهل فلسطين وليردكم إلى شرع التوراة، وبين صفته، فأنتم أسبق الناس إلى الإيمان به، لأنه إنما يخاف تكذيبكم، من ينسخ مذهبكم، ويغير أوضاع ديانتكم.
فالوصية بالإيمان به، مما لا يستغنى مثلكم عنه، ولذلك لم يكن بموسى حاجة
أن يوصيكم بالإيمان بنبوة أرميا وأشيعيا وغيرهما من الأنبياء.
وهذا دليل على أن التوراة أمرتهم، في هذا الفصل، بالإيمان بالمصطفى ﵇، واتباعه.
الإشارة إلى اسمه ﷺ في التوراة
قال الله، تعالى، في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة، مخاطبًا لإبراهيم الخليل، ﵇: "وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، ها قد باركت فيه،
وأثمرِّه وأكثرِّه جدًا جدًا".
ذلك قوله: "وليشماعيل شمعتيخا هنى بير اختى أوتووهر بيثى أوتو بمأ دماد".
فهذه الكلمة "بماذماد" إذا عددنا حساب حروفها بالجمل، كان اثنين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد ﷺ، فإنه أيضًا اثنان وتسعون.
وإنما جُعل ذلك في هذا الموضع ملغزا، لأنه لو صرح به، لبدلته اليهود، أو
أسقطته من التوراة، كما عملوا في غير ذلك.
فإن قالوا: إنه قد يوجد في التوراة عدة كلمات، مما يكون عدد حساب حروفه مساويًا لعدد حساب حروف اسم زيد وعمرو وخالد وبكر، فلا يلزم من ذلك أن يكون زيد وعمرو وخالد وبكر أنبياء.
1 / 54