غاية الحياة
غاية الحياة
غاية الحياة
غاية الحياة
تأليف
مي زيادة
غاية الحياة
أيتها السيدات
موضوعنا اليوم «غاية الحياة»، ولا أعرف كلمة خطيرة كهذه وأكثر تفلتا من حدود التعريف، إن لفظة «الحياة» في معناها التام تشمل الكون بأسره مما يرى وما لا يرى، وهي ذلك التيار الخفي النافذ في كل شيء، المحيط بكل كائن، وقد حوى من الاقتدار والجبروت ما ألقى في روعنا أنه من روح الله، كأننا نحسب الحياة نسمات نور وإنعاش منطلقة من صدر تلك القوة الكبرى التي نسبح جميعا في بحار جودها، ونسميها: «الله».
فإذا شمل معنى الحياة جميع الموجودات فأنى لنا تعيين غايتها؟ من ذا الذي يجرؤ على تعيين غاية الفلك في دورته، والنجوم في سيرها، والمذنبات في تكونها، والشموس في تشععها واحتراقها، والنيازك في تساقطها على الأرض حجارا سوداء؟ من ذا الذي استشف من البحار غاية المد والجزر، ومن القمر غاية الاكتمال والانتقاص، ومن النوع البشري غاية مدنياته وأديانه وأنظمته، وكل ما يتقلب عليه من الأطوار؟ كيف نتحرى غاية الربيع بحلوله بعد الشتاء، فيتبعه الصيف المتلظي الذي لا يلبث أن يزول أمام الخريف الحزين؟ وما غاية الغصن في تمايله وتجرده وإيراقه، وغاية البذور في النمو والإنتاج والذبول؟ نحن نعرف بعض الأسباب الطبيعية في الخليقة وما يترتب عليها من النتائج، ولكن لماذا تعمل تلك الأسباب، وما غاية هذه النتائج، وإلى أين يقودنا هذا الوجود وهذا الفناء؟ لغز رائع لا يحله الإنسان مهما ارتقى علما وفضلا وإخلاصا.
والإنسان الذي هو جزء من هذا الوجود غير المدرك، أكثر ما يستعمل كلمة «حياة» ليعني كمية أيامه على الأرض ومجموع أعماله، وكمية أيام كائنات أحاطت به وقد امتاز عنها جميعا بما أوتي من إدراك وإرادة وحرية. فالجماد مثلا لا يتحرك إلا مرغما بفعل العناصر؛ كالأعاصير والرياح تقتلع الصخور، والأمطار تنحتها وتفتتها، أو بعامل آلي كالديناميت يدمر الآكام ويصعق الراسيات. والنبات، وإن تحرك مع النسيم ونشر شذاه في الهواء وكان له إحساسه الخاص كبعض النباتات التي تنكمش إذا ما لمست، إلا أن أصوله تظل أسيرة أرض تغذيها. والحيوان ينتقل من مكان إلى مكان بدافع الرغبة وبإيعاز الإدراك الذي لديه منه كمية ما. ولكن للإنسان وحده قوة التمييز والمقارنة والاستنتاج والإبداع في أتم أنواعها الممكنة. له وحده حرية الانتقال من جهة إلى جهة، والتفكير فيما شاء، وتنفيذ ما أراد. له وحده أن يتصرف بالموجودات التي يعقلها ويعالجها ويستخدمها لحاجته، وهي تعنو له صاغرة؛ لأنها لا تعقله وتبقى دونه مهارة ومقاومة، وإن جمحت يوما وفتكت به ساعة غضب عنجهي، فتلك طوارئ عاديات، كالصواعق والفيضان والطوفان والأوبئة التي لا تدوم غير وقت ما، ولسرعان ما يهب لمقاتلتها واختراع ما يمكنه منها ويقيه شرها. ولئن خنعت الموجودات إلى النظام الكلي الذي يسيرها قهرا فعاشت عيشتها الصخرية العشبية البهيمية وأدت وظيفتها المعينة جاهلة صاغرة، فإن الإنسان - وفي ذلك ميزته وفخره - لا يكتفي بتلك العيشة الابتدائية العنصرية ولا يعيشها مرغما بل سعيدا، مدبرا، مختارا، وهو فوق ذلك يخلق لنفسه غايات قومية وسياسية وفكرية وقلبية جمة، تتسابق إلى تحقيق غاية قصوى يوجه نحوها مجهوداته، ويجمع أعماله في شبه قناة حيوية تنتهي إلى تلك الغاية البعيدة، تلك الغاية المحبوبة التي يخالها تناديه وقد اتخذها كعبة آماله.
عند هذه الكلمة «كعبة الآمال» المرادفة لموضوعنا «غاية الحياة» يقف كل قلب ويزفر زفرة حارة؛ إذ يتساءل: «وما غايتي من الحياة؟ أأعرفها أنا؟ وهل تشعر هي أو تبالي بوجودي؟ ما هي يا ترى؟ أثروة أبتغي حشدها؟ أجاه، أم قدرة، أم حال أنعم فيها بجميع أسباب الهناء؟ وأتذوق خلالها لذائذ الفوز والسيطرة! أهي علم لا أفتأ أذهب في غوره ليكشف لعاقلتي حجب الحياة وأسرارها؟ أهي إرهاف ملكاتي الذهنية والنفسية إرهافا يرفعني فوق أقراني ويجعلني موضوع إعجابهم؟ أهي تقوى تدنيني من خالقي وتطمئن بها نفسي؟ أهي شخص أيقظ في حياة الوجدان العجيبة؟ وتمثلت لي في ذاته صفات الألوهية المعبودة حتى صرت أستهين لأجله بكل عزيز وأجازف بكل مكنون؟ وأين أنا الآن من ضالتي المنشودة؟ ماذا أكسبني جهاد الأعوام الغابرات، وإلى أين أوصلني ذلك الجهاد الطويل ؟ ماذا جنيت من الكد والتجلد والرجاء، وبعد دموع أرسلتها وأخرى أمسكتها، وزفرات أطلقتها وأخرى كتمتها؟ أراض أنا عن نفسي وعن غيري؟! أم أنا كلما خطوت خطوة إلى الأمام تقهقرت إلى الوراء خطوتين؟ أم أنا كنت أعلل النفس بشيء فلما صار لي وجدته شيئا آخر؟ أم أن ما كان يبدو لي حقيقة محسوسة إنما هو خداع فتان كلما جريت نحوه ملتمسا، ودنوت منه مستعطفا، ارتد وتباعد كما يرتد ويتباعد السراب في الصحراء، وعدت أنا إلى عذاب محتوم واصطبار جميل؟ غايتي من الحياة السعادة، فهل أنا سعيد؟»
وهنا يقف كل فترة أخرى ويزفر زفرة جديدة سعيدا كان أم شقيا؛ لأنه لا بد لكل قلب من فراغ لا يملأ ومن حاجة لا تسد؛ ولأن النفس البشرية تشبه بركة الماء مهما راقت صفحتها وتلألأ سطحها حركها قليلا تتعكر وتكفهر بما ركد في أعماقها من الأوحال، وفي أعماق كل نفس آلام ثاوية، وتذكارات جاثمة، وجراح صديدة اندمل بعضها على فساد، يكفي أن تلمسها يد أو إشارة لتمضها الأوجاع فتعمد إلى الاستغاثة والأنين. •••
إن السعادة غاية الجميع، أما السبيل إليها فمختلف باختلاف الطبائع. حرمها الناس طويلا فازداد شوقهم، واحتشدت في قلوبهم الكظوم والضغائن حتى لكأن الإنسانية تتحرك اليوم فوق بركان ثائر. ففي كل مكان حروب وتقاتل على المنافع، ومن الغريب أن النقيضين؛ أي: يقظة الوطنية وانتشار الاشتراكية، يسيران جنبا إلى جنب، والأمم جميعا على وجل واضطراب تنتظر من وقت إلى آخر تغير الأحوال ووقوع ما كان يرجى أو ما لم يكن ليرجى.
بيد أن الحياة العامة لا تأخذ من حياة الفرد سوى ساعات معدودة، وفي أشد حالاته تحمسا تظل حياته الداخلية على ما هي تقريبا. يظل له عوزه الذي لا يملؤه الغنى العام، تظل له آلامه الجسمية والروحية يتجرع مرارتها ويحتمل من وخزها ما لا يخدره التهليل العام، ترى ما هو تأثير تلك الأفراح الوطنية الجميلة في العليل اليائس؟! وفي المعدم الذي ليس لديه ما يسد رمق صغاره؟ وفي القلب الذي حوى جمرة تأكل سويداءه؟ وفي الصدر الذي اكتظت فيه الغموم؟ تلك لمحات ابتهاج تسطع ثم تترك القلب أكثر وحدة وسوادا، والعليل أكثر أسفا على أيامه المتتابعة كالأظلال.
السعادة هي الغاية، وما السعادة - في حقيقتها وعلى تنوع صورها في الأذهان - سوى تطور متتابع نحو حالة تستوفي عندها جميع القوى وسائل النمو والانبساط والظهور كاملة وافية بأقل ما يمكن من المقاومة والألم، هذا إذا تعذر الخلاص منهما على الإطلاق. وهل من تطور ونمو بلا عمل؟ لا جمود في الخليقة حيث كل مخلوق - حتى ولو اختفى وراء مظاهر الموت - يؤدي وظيفته ويتمم ما وجد لتتميمه، وكذلك كل خلية من خلايا الجسم تعمل لتؤدي وظيفتها. غير أن ذلك العمل الآلي ليس ليغني الفرد المفكر المريد الذي لا تكفيه الغاية العامة في الكون، إنما هو يعمل عملا خاصا إضافيا يتفق مع غايته المختارة، تتمرن عليه مجهوداته ويمارس به قواه. تلك السعادة التي يحلم بها لا بد أن يسعى إليها سعيا خصوصيا حثيثا أريبا في تحنيه وتشعبه وتنوعه. ومع ذلك ليست كل قيمة العمل في أنه موصل إلى الغاية المقصودة، ولكن قيمته المعنوية الكبرى في كونه آلة الاستقلال الفردي، وخالق الاحتياج إلى الاعتماد على النفس.
وما هو الاعتماد على النفس إن لم يكن مكيف الذاتية الحرة التي تدرك أهمية احتياج الآخرين إليها، وتدرك كونها مخلوقة على صورة الله ومثاله؛ لأن الله - وهو المبدع الأعظم - خلق الإنسان وأودعه قوى الإدراك والاختيار والابتكار التي لا تظهر إلا في العمل؟ فبهذا العمل الذي يخلقه الإنسان ويتقنه يصبح إلها صغيرا، بالعمل يكبر في عيني نفسه وتنسجم حوله هالة الكرامة المفرزة عناصرها من داخله، المتشبع ثقة بكفاءته وإقدامه، بالعمل يرفع رأسه الذي أحناه الطلب والاستنجاد، وينظر إلى الناس كأشباه لا هم فوقه ولا هم تحته، بل هم إخوان يعملون في سبلهم المختلفة.
وينظر إلى الحياة متفرسا في ملامحها بلا وجل؛ لأنه تعلم في مدرسة الاعتماد على النفس أن المصائب والمحن والمعاكسات الداخلية والخارجية تعجز عن النيل من قواه الجوهرية، وإن تلك الرزايا إنما هي عناصر اختبار ، له أن يستخرج منها دروسا قيمة ومعلومات جديدة تزيده قوة ونبلا.
ليس النبيل من ورث نسبا ومالا فاستخف بالناس والأشياء اتكالا على وراثته، بل النبيل من خلق نفسه، وما زال بها كل يوم يجددها بعمله ليخلف للمستقبل ثمرة مجهوداته، النبيل من لا ينتظر «الظروف» و«الحظ» و«البخت» تلك الكلمات التي يتمحل بها الذليل الخامل، بل ينتهز الفرص ليجعلها صفحات جليلة في كتاب عمره. وما الأيام والساعات سوى فرص ثمينة للنابه يستخرج منها العجائب. •••
هنا أود أن أحصر الموضوع في المرأة؛ لأن الموضوعات النسائية تستوقفنا بوجه خاص لنبحث فيها عن نقائصنا ونعرف مواطن ضعفنا؛ فنحاول الإصلاح ما استطعنا إليه سبيلا.
أما فيما يتعلق بضعف المرأة فأصارحكن القول بارتيابي منه في المعنى الذي يقصدون. أرسل البحث في شئون العمران، فأجد تأثير المرأة وراء كل عمل مسببا من الحوادث ما لا تفسير له بغير كلمة نابليون: «فتش عن المرأة!» وأقلب صفحات التاريخ فأراها في تعاقب العصور ملكة صالحة، وسياسية دقيقة، ومفكرة كاتبة عالمة مصلحة لا يستهان بها، وذات بسالة كبسالة أعاظم الأبطال، ذلك على رغم الجور والاستبداد، فلو أبدلناها بالرجل وعاملناه بمثل ما عاملها، فحرمناه النور والحرية دهورا فأي صورة هزلية يا ترى يبقى لنا من ذياك الصنديد المغوار؟
على المرأة أن تكون جميلة أنيقة دمثة لينة متعلمة قوية الجسم والنفس ماضية العزيمة. عليها أن تصون ذاتيتها الفردية، بينا هي تصطبغ بصبغة محيطها وتراعي ميوله لتحفظ توازن السرور والانشراح في البيت الذي يحبها وتحبه، عليها أن تأتي بالأولاد وتتعهدهم جسما وعقلا وروحا. عليها أن تكون عارفة بأساليب الاقتصاد والتدبير، عليها أن تحافظ على وفاق الأسرة وسلامها وأن تنشئ علاقات تآلف بين أسرتها وأسر الأصحاب والمعارف وغيرهم ممن تدنيها منهم المصلحة أو أي شأن من الشئون، فكأنها بذلك وزيرة داخلية ووزيرة خارجية ووزيرة معارف ووزيرة مواصلات ووزيرة مستعمرات ... إلخ. هذه الأعمال التي توزع على نخبة من أفضل رجال الأمة وأقواهم تلقى جميعا على عاتق امرأة واحدة تقوم بإتقانها على قدر المستطاع، ثم يعودون فيقولون: إنها «ضعيفة».
صدقوا، هي ضعيفة ولكن إزاء نفسها الفائضة بالعواطف الرجراجة الصاخبة المستعمرة، ضعيفة بأعصابها الدقيقة السريعة التأثر وباستعدادها لتشرب الألم واستيعابه إلى درجة لا يتصورها من لم يكن امرأة، وإنما هو هذا الضعف الذي يجعلها أحيانا أكثر عدوا من الرجل إذ تتناوبها هبات ووثبات تندفع بها كمن يريد التكفير عن قعود مضى أو كمن يخشى عجزا آتيا، في حين أن الرجل يظل منظم السير، واسع الخطى، كأنه واثق من توفر القدرة والنشاط لديه على الدوام. وإن التمست غاية استعملت للحصول عليها فنا وحذقا ليس هو حذق الرجل ولا هو فنه. وكل ذلك ناتج عن تراكم آلامها الوراثية وعن توحد الغاية في الأجيال النسائية الخالية التي لم تكن تبغي غير الحب والزواج والعائلة، فإن كانت هذه غايتها اليوم انطلقت إليها بقوة ساقت ملايين ملايين النساء منذ أن وجد النوع البشري، لا تبالي أصادفت وعرا أم اصطدمت بصخر، وإن تغايرت الغاية سيقت بذات القوة يزكيها التوق إلى المجهول ولذة الاختلاف والرغبة في النجاح، فتتفوق في عملها، إن شرا فهي السفاحة ماري تيودور أو هي ريا وسكينة بطلتا فظائع الإسكندرية، وإن رأفة فهي الأم المفادية والشفيقة العاكفة على فراش المريض تصد عنه الموت وتجلب إليه العافية، وإن حماسة وفخارا فهي جان دارك ومدموازل بوستافويتوف البولونية، أو هي المرأة المصرية تجوب الأحياء مرصعة هواء بلادها بالأعلام الخافقات، وتهتف بما يستفز الدموع ويستنهض الهمم ويفهم الرجال شبانا وشيوخا قيمة الأوطان وعز الأوطان وحرمة الأوطان.
ليست الصعوبة في المجاهدة لنيل غاية عزيزة، وإنما الصعوبة الموجعة على الرجل والمرأة معا في عدم وجود الغاية، أوجع شيء للمرأة أن تكون مبهمة المطالب، والمستقبل أمامها صفحة خاوية خالية ليس فيها بارقة أمل ولا كلمة عزاء. كثيرات هن التعبات اللاتي وقعن فريسة ذلك الشلل المعنوي، مولد المجازفة والانحطاط الذي يدعى: السآمة، فيجرين هنا وهناك هربا منه مخاطرات بما وجب صونه، ناسيات ما عليهن أن يذكرنه، ومنهن من لا تطيق البقاء يوما واحدا بلا زيارات واستقبالات وأحاديث جارات وخالات وعمات، كأنها تخاف الاختلاء ومقابلة نفسها وجها لوجه فتفقد بذلك أعظم تعزية وأعظم أمثولة في الحياة، وإن أحسنت القراءة دفنت سآمتها في الروايات دون أن تفقه ما فيها من مغزى اجتماعي أو أخلاقي، مكتفية بتتبع الصلة الغرامية والاستسلام إلى ما يبديه أبطال الرواية من انفعال اصطناعي مضخم، جاهلة أنها بتطلب ذلك التحريض القهري تطفئ نور ذهنها وتضعف من نفسها جميع القوى حتى قوة الحب الذي ينتقم من مهينيه ومزيفيه انتقاما صارما.
ما أعظم الحب وأشرفه - أيتها السيدات - في القلب المتبصر الحكيم! هو أقدر عامل ينهض بالإنسانية مسهلا طريقها، مخففا أثقالها، خالقا من أبنائها الأبطال والجبابرة، وأجمل الأرواح وأكبر القلوب وأنبل النفوس إنما هي تلك التي يظل فيها نهر الحب دائم الفيضان، وتظل تبعث شعاع شمسها الداخلية إلى ما وراء الفرد والبيت والوطن، فتمتد على كل شيء وتضيء كل شيء. الذي يحب كثيرا يفهم كثيرا؛ لأن الحب أستاذ ساحر، نتعلم منه بسرعة، ويفتح لنا رحب الآفاق، يهمم فيها صوته المحيي الذي لا تسكته أصوات الأفراح والأحزان.
ولكن كم نصغره ونحقره عندما نحصره في الموضوع الواحد الذي تدور حوله الروايات والأشعار الغزلية، وننسى أنه الرابطة الكبرى - كدت أقول: الرابطة الوحيدة - بين أجزاء الكون وبين الإنسان والموجودات، وأنه هو وحده دواء السآمة الناجع وبلسم التعزية الفعال. •••
وكيف نتناول ذلك الدواء ونتغذى بذلك القوت الإلهي؟ السبيل واحد لا ثاني له، وهو: العمل، العمل الذي ينير العقل، ويفتح القلب، ويملأ الوقت، ويحبو الحياة طعما لذيذا، ويروح النفس الواجمة، ويرضي الطباع الساخطة، ويصرف العواطف المتلازبة في منافذ ومخارج حسنة العائدة على المرأة الواحدة وعلى من يلوذ بها. فلتعمل المرأة أي عمل ينتظر يدا تقوم به، وكل عمل تشعر من نفسها بميل جدي إليه، وسواء كانت مشتغلة لتعيش أو لتلهو، لا فرق بين نوع العمل من علم وفن وخياطة وتطريز وتدبير منزل أو بيع في المخازن، فالأمر الجوهري هو الاجتهاد، ووضع قلبها وفكرها في ما تعمله لتتقنه وتكبر به مهما كان صغيرا حقيرا، ولكن لفظة الحقارة لا تصلح لمعنى العمل؛ لأن كل عمل شريف في ذاته، وليس منظف الشوارع بين الغبار والأقذار بأقل أهمية من الرجل العظيم في قصره بين التهليل والإكبار، ولا هو أقل نفعا لأمته وللإنسانية.
إذا أحبت المرأة ذاتها حبا رشيدا كانت لنفسها أبا وأما وأختا وصديقة ومرشدة، وأنمت ملكاتها بالعمل، وضمنت استقلالها بكفالة عيشتها؛ لأن الأهل الذين تتكل عليهم قد يموتون، وللإخوة والأخوات عائلاتهم وسبلهم في الحياة، والأصدقاء يتغيرون وينسون، والثروة الطائلة قد تنقلب هباء، أما هي فلا تخون ذاتها ولا تنسى ذاتها ولا تفقد ذاتها، والثروة كل الثروة في الإباء والاستقلال الفردي وتعاطي عمل ما بجد واهتمام وبراعة، والأعجوبة أن هذا العمل الذي نباشره؛ هربا من الملل، ورغبة في قتل الوقت، لا يلبث أن يصبح ذا شأن كبير ويعين لنا غاية عظيمة مشيرا إلى وسيلة الحصول عليها، بل لا أعجوبة في ذلك ما دام العمل الكبير مجموع تفاصيل صغيرة دقيقة، أليس أن الجوامع الأثرية البديعة، والمآذن الهيفاء الباذخة إنما برزت وثبتت بتناسق الحجر قرب الحجر؟ أو ليس أن العلم الذي تتفيأ بظله أماني الأمة ورغباتها إنما نسج من خيوط واهية، يكاد يكون كل منها بلا أهمية في ذاته؟
كذلك فلتكن مجموعة أعمالنا غاية جليلة نقوم بها عاليات الجباه تحت أكاليل العزم والجهاد، وقد اختفت من عيوننا خيالات الخضوع والمسكنة، وحلت محلها نظرة من هي لم تعد عبدة المجتمع، ولا عبدة الحاجة، ولا عبدة الرجل، ولا عبدة قلبها وهو أعظم جائر مستبد، بل نظرة من أصبحت سيدة نفسها تطيع مختارة، وتعمل مختارة بهدوء من فاز أو قدر له أن يفوز في الحياة، فتكتشف عند كل خطوة جمالا جديدا وتفرح كل يوم كأنها خلقت خلقا جديدا. •••
بقي علي أن أشكر لجمعية «فتاة مصر الفتاة» دعوتها الكريمة التي مكنتني من الاجتماع بكن أيتها السيدات، وأجازت لي التعبير عن أفكاركن. في الظاهر كنت أنا المتكلمة، ولكنكن تعلمن أن ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، إنما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها. وإني لأغتبط بهذه المحادثة الصغيرة، وأهنئ مصر ببناتها العاملات المدركات معاني الحياة، وكلكن هنا ذوات أثر في بيئتكن وصاحبات فضل على قومكن، إننا نجتاز أياما عظيمة تهز النفوس إلى أعماقها وتلفتها إلى ما لديها من المواهب والممكنات. ألا فلنكن أهلا لهذه الأيام بدروس نكتسبها من مرورها! ولنكثر من التمني؛ لأن ما نتمناه واقع لا محالة، وأنا من المعتقدين أن مجرد الشوق إلى أمر والرغبة فيه كثيرا ما يكونان إنذارا بوقوعه المحتم، والآن أعلم أنكن تنقمن علي جميعا إن لم أضف كلمة أخرى هي بلا ريب حائمة في قلوبكن.
إن المنادين بحقوق النساء في فرنسا قد سموا أنفسهم أحفاد «كوندرسيه» الفيلسوف الفرنساوي الذي دعا إلى المساواة بين الجنسين، وقد اتخذوا ذكرى وفاته في 29 مارس من كل عام عيدا يحتفلون فيه بتحرير المرأة. وفي هذا الأسبوع الأخير من شهر أبريل ذكرى وفاة زعيم النهضة النسائية في هذه الديار وأحد مؤسسي الجامعة المصرية التي تجعمنا الساعة جدرانها: قاسم أمين، فمن واجب العرفان بالجميل أن نحيي تلك الروح التي احتضنت في رحابها المرأة الحائرة، وأن نستحضر ذلك النظر الذي نفذ إلى قلب المرأة فأحبها في ضعفها وفي ضلالها، وفي تفطرها، وفي حقوقها المهضومة وفي مواهبها المنسية، وأن نتلمس تلك اليد الروحية التي خطت يوما صفحات الدفاع عن المرأة، ودلتها على طريق العمل القويم والاستقلال النفسي الذي هو دعامة كل استقلال صحيح دائم.
صاح قاسم في القوم يهديهم، ولكنه لم يفته أن تحرير المرأة في يدها أكثر منه في يد الرجل، وأن العمل ألزم الأشياء لها، وأعظم ما يكرم به الحي راحلا عزيزا هو الاهتداء برأيه والتمشي مع ما حسن من مبادئه، ولقد تغذت فتاة مصر كل هذه الأعوام بروح قاسم؛ فبرزت نبيلة ذات عزم وإقدام كما كان يصورها له المستقبل. لذلك كانت أجمل زهرة نضعها اليوم على ضريحه هي زهرة الشكران، وكانت أصدق تحية نوجهها إليه هي هذه التحية المزدوجة:
فليحيا زعيم النهضة النسائية!
ولتحيا المرأة المصرية ناهضة عاملة !
صفحه نامشخص