الْمُقدمَة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي أظهر زبد دينه القويم وَهدى من وَفقه إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم أَحْمَده على مَا أنعم وَعلم وسدد إِلَى الصِّرَاط وَقوم وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْوَاحِد القهار الْكَرِيم الستار وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ختام الْأَنْبِيَاء الْأَبْرَار صلى الله عَلَيْهِم وَسلم وعل آله وَأَصْحَابه صَلَاة وَسلَامًا دائمين على ممر اللَّيَالِي وَالنَّهَار
وَبعد فَإِن صفوة الزّبد فِي الْفِقْه للشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة ولي الله تَعَالَى (أَحْمد بن رسْلَان) من أبدع كتاب فِي الْفِقْه صنف وَأجْمع مَوْضُوع فِيهِ على مِقْدَار حجمه ألف طلب مني بعض السَّادة الْفُضَلَاء والأذكياء النبلاء أَن أَضَع عَلَيْهَا شرحا يحل ألفاظها ويبرز دقائقها وَيُحَرر مسائلها ويجود دلائلها فأجبته إِلَى ذَلِك بعون الْقَادِر الْمَالِك ضاما إِلَيْهِ من الْفَوَائِد المستجادات مَا تقربه أعين أولى الرغبات راجيا من الله جزيل الثَّوَاب ومؤملا مِنْهُ أَن يَجعله عُمْدَة لأولي الْأَلْبَاب وسميته (غَايَة الْبَيَان فِي شرح زبد ابْن رسْلَان)
وَالله أسأَل وبنبيه أتوسل أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم مُوجبا للفوز بجنات النَّعيم قَالَ النَّاظِم (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) أَي أؤلف إِذْ كل فَاعل يبْدَأ فِي فعله بِبسْم الله يضمر مَا جعل التَّسْمِيَة مبدأ لَهُ كَمَا أَن الْمُسَافِر إِذا حل أَو ارتحل فَقَالَ بِسم الله كَانَ الْمَعْنى بِسم الله أحل وبسم الله أرتحل وَالِاسْم مُشْتَقّ من السمو وَهُوَ الْعُلُوّ وَالله علم للذات الْوَاجِب الْوُجُود وَأَصله إِلَه حذفت همزته وَعوض عَنْهَا حرف التَّعْرِيف ثمَّ جعل علما وَهُوَ عَرَبِيّ عِنْد الْأَكْثَر والرحمن الرَّحِيم إسمان بنيا للْمُبَالَغَة من رحم وَالرَّحْمَة لُغَة رقة الْقلب وانعطاف يَقْتَضِي التفضل وَالْإِحْسَان فالتفضل غايتها وَأَسْمَاء الله تَعَالَى الْمَأْخُوذَة من نَحْو ذَلِك إِنَّمَا تُؤْخَذ بِاعْتِبَار الغايات دون المبادى الَّتِي تكون انفعالات والرحمن أبلغ من الرَّحِيم لِأَن زِيَادَة الْبناء تدل على زِيَادَة الْمَعْنى كَمَا فِي قطع وَقطع وَنقض بحذر فَإِنَّهُ أبلغ من حاذر وَأجِيب لِأَن ذَلِك اكثرى لاكلى وَبِأَنَّهُ لَا يُنَافِي أَن يَقع فِي الأنقص زِيَادَة معنى لسَبَب آخر كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شَره ونهم وَبِأَن الْكَلَام فِي مَا إِذا كَانَ المتلاقيان فِي الِاشْتِقَاق متحدى النَّوْع فِي الْمَعْنى كغرث وغرثان وَصد وصديان لَا كحذر وحاذر للِاخْتِلَاف (الْحَمد للإله) بَدَأَ بالحمدلة بعد الْبَسْمَلَة اقْتِدَاء بِالْكتاب الْعَزِيز وَعَملا بِخَبَر كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع وَفِي رِوَايَة بِالْحَمْد لله وَجمع النَّاظِم كَغَيْرِهِ بَين الابتداءين عملا بالروايتين وَإِشَارَة إِلَى أَنه لَا تعَارض بَينهمَا إِذْ الِابْتِدَاء حَقِيقِيّ وإضافي فالحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة وَقدم الْبَسْمَلَة عملا بِالْكتاب وَالْإِجْمَاع وَجُمْلَة الحمدلة خبرية لفظا إنشائية معنى
1 / 2
وَالْحَمْد أَي اللَّفْظِيّ لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ على جِهَة التبجيل سَوَاء تعلق بالفضائل أم بالفواضل وَالشُّكْر لُغَة فعل ينبيء عَن تَعْظِيم الْمُنعم من حَيْثُ أَنه منعم على الشاكر سَوَاء كَانَ ذكرا بِاللِّسَانِ أم اعتقادا ومحبة بالجنان أم عملا وخدمة بالأركان فمورد الْحَمد هُوَ اللِّسَان وَحده ومتعلقه النِّعْمَة وَغَيرهَا ومورد الشُّكْر اللِّسَان وَغَيره ومتعلقه النِّعْمَة وَحدهَا فَالْحَمْد أَعم مُتَعَلقا وأخص موردا وَالشُّكْر بِالْعَكْسِ وَالْحَمْد عرفا فعل ينبيء عَن تَعْظِيم الْمُنعم من حَيْثُ أَنه منعم على الحامد أَو غَيره وَالشُّكْر عرفا صرف العَبْد جَمِيع مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من السّمع وَغَيره إِلَى مَا خلق لأَجله فَهُوَ أخص مُتَعَلقا من الثَّلَاثَة قبله لاخْتِصَاص مُتَعَلّقه بِاللَّه تَعَالَى ولاعتبار شُمُول المآلات فِيهِ وَالشُّكْر اللّغَوِيّ مسَاوٍ للحمد الْعرفِيّ وَبَين الحمدين عُمُوم من وَجه والآله المعبود بِحَق ذِي الْجلَال أَي العظمة وشارع الْحَرَام والحلال أَي مبينهما قَالَ تَعَالَى ﴿شرع لكم من الدّين﴾ الْآيَة وفيهَا براعة الاستهلال وَشَمل متعلقات الْأَحْكَام كلهَا إِذْ الْحَرَام ضد الْحَلَال فَيتَنَاوَل الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح وَخلاف الاولى وَالْمَكْرُوه وَكَذَا الصَّحِيح كَمَا يتَنَاوَل الْحَرَام وَالْبَاطِل بِنَاء على تنَاول الحكم لَهما ثمَّ صَلَاة الله مَعَ سلامي أَتَى بهما امتثالا لقَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا﴾ وَقد فسر قَوْله تَعَالَى ﴿ورفعنا لَك ذكرك﴾ بِأَن مَعْنَاهُ لَا أذكر إِلَّا وتذكر معي وَالصَّلَاة من الله رَحْمَة مقرونة بتعظيم وَمن الْمَلَائِكَة اسْتِغْفَار وَمن الْمُكَلّفين تضرع وَدُعَاء وَقرن بَينهَا وَبَين السَّلَام خُرُوجًا من كَرَاهَة إِفْرَاد أَحدهمَا عَن الآخر على النَّبِي هُوَ إِنْسَان أوحى إِلَيْهِ بشرع وَإِن لم يُؤمر بتبليغه فَإِن أَمر بذلك فَرَسُول أَيْضا فالرسول أخص من النَّبِي وَعبر بِالنَّبِيِّ دون الرَّسُول لِأَنَّهُ أَكثر اسْتِعْمَالا وَلَفظه بِلَا همز وَهُوَ الْأَكْثَر أَو بِهِ من النبأ وَهُوَ الْخَبَر والرسالة أفضل من النُّبُوَّة الْمُصْطَفى الْمُخْتَار وَحذف الْمَعْمُول يُؤذن بِالْعُمُومِ فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنه أفضل المخلوقين من إنس وجن وَملك وَملك وَهُوَ كَذَلِك التهامي نِسْبَة إِلَى تهَامَة مُحَمَّد علم مَنْقُول من إسم مفعول المضعف سمي بِهِ نَبينَا بإلهام من الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يكثر حمد الْخلق لَهُ لِكَثْرَة خصاله الجميلة كَمَا روى فِي السّير أَنه قيل لجده عبد الْمطلب وَقد سَمَّاهُ فِي سَابِع وِلَادَته لمَوْت أَبِيه قبلهَا لم سميت ابْنك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ من أَسمَاء آبَائِك وَلَا قَوْمك قَالَ رَجَوْت أَن يحمد فِي السَّمَاء وَالْأَرْض وَقد حقق الله رَجَاءَهُ كَمَا سبق فِي علمه الْهَادِي من الضلال أَي الدَّال بلطف والضلال نقيض الْهدى وَهُوَ دين الْإِسْلَام قَالَ تَعَالَى ﴿وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ وَأفضل الصحب إسم جمع لصَاحب بِمَعْنى الصَّحَابِيّ وَهُوَ من اجْتمع مُؤمنا بِمُحَمد ﷺ وَمَات على ذَلِك وَخير آل فآله أَقَاربه الْمُؤْمِنُونَ من بني هَاشم وَالْمطلب ابنى عبد منَاف وَقَوله وَأفضل الصحب وَخير آل عطف على النَّبِي وَأفَاد بِهِ أَن أَصْحَابه أفضل من أَصْحَاب غَيره من الْأَنْبِيَاء وَإِن آله أفضل من آل غَيره وَظَاهر أَن الْمفضل عَلَيْهِ فيهمَا غير الْأَنْبِيَاء وَبعد هذى زبد نظمتها جمع زبدة وعنى بهَا مهمات الْفَنّ وَلَفْظَة بعد يُؤْتى بهَا للانتقال من أسلوب إِلَى آخر وَقد كَانَ النَّبِي ﷺ يَأْتِي بأصلها فِي خطبه وَهُوَ أما بعد بِدَلِيل لُزُوم الْفَاء فِي حيزها غَالِبا لتضمن أما معنى الشَّرْط وَالْعَامِل فِيهَا أما عِنْد سِيبَوَيْهٍ لنيابتها عَن الْفِعْل أَو الْفِعْل نَفسه عِنْد غَيره وَالْأَصْل مهما يكن من شَيْء بعد الْبَسْمَلَة والحمدلة وَالصَّلَاة وَالسَّلَام وهذى اسْم إِشَارَة أُشير بهَا إِلَى مَوْجُود فِي الْخَارِج وَهُوَ زبد الْعَلامَة البارزى تغمده الله تَعَالَى برحمته وَقد تَأَخّر نظم هَذَا الْبَيْت عَن نظم الزّبد بِدَلِيل تَعْبِيره بِلَفْظ الْمَاضِي فِي قَوْله نظمتها وزدتها أبياتها ألف أَي تَقْرِيبًا فَأَنَّهَا تزيد عَلَيْهِ نَحْو أَرْبَعِينَ بَيْتا بِمَا قد زدتها الْبَاء بِمَعْنى مَعَ أَي مَعَ مَا قد زدتها من الْمُقدمَة
1 / 3
والخاتمة وَغَيرهمَا ثمَّ وصف الزّبد بأوصاف ترغب فِيهَا مِنْهَا أَنَّهَا يسهل حفظهَا على الْأَطْفَال لحلاوة نظمها وبراعته وَمِنْهَا أَنَّهَا نافعة لمبتدى الرِّجَال بِأَن تبصره وَلما كَانَ نَفعهَا للمبتدى من الذُّكُور أتم لنقلها إِيَّاه من الْجَهْل إِلَى الْعلم اقْتصر عَلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ نافعة لغيره أَيْضا إِذْ هِيَ مذكرة لَهُ وَيحْتَمل أَنه اقْتصر عَلَيْهِ تواضعا وهضما والمبتدى هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ فِي ذَلِك الْعلم وَلم يصل فِيهِ إِلَى حَالَة يسْتَقلّ فِيهَا بتصوير مسَائِل ذَلِك فَهُوَ الْمُتَوَسّط وَإِن اسْتَقل بالتصوير واستحضر غَالب أَحْكَام ذَلِك الْعلم فَهُوَ الْمُنْتَهى وَمِنْهَا أَنَّهَا تَكْفِي مَعَ التَّوْفِيق من الله تَعَالَى للمشتغل والتوفيق خلق قدرَة الطَّاعَة فِي العَبْد قَالَ تَعَالَى ﴿وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله﴾ وَقد ورد لَا يتوفق عبد حَتَّى يوفقه الله وَلما كَانَ عَزِيزًا لم يذكرهُ الله فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي مَحل وَاحِد فِي قَوْله ﴿وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه﴾ وَمَا ورد من نَحْو قَوْله ﴿إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا﴾ فَذَاك من مَادَّة الْوِفَاق لَا من مَادَّة التَّوْفِيق إِن فهمت وأتبعت بِالْعَمَلِ وعد مِنْهُ بِأَن من اتَّقَاهُ علمه بِأَن يَجْعَل فِي قلبه نورا يفهم بِهِ مَا يلقى إِلَيْهِ وفرقانا أَي فيصلا يفصل بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل قَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا﴾ فبتقوى الله تزداد المعارف فاعمل وَلَو بالعشر كَالزَّكَاةِ تخرج بِنور الْعلم من ظلمات أَي ينْدب للْإنْسَان أَن يعْمل بِمَا يُعلمهُ من مسنونات الشَّرْع فَإِن لم يعْمل بجميعها فليعمل وَلَو بالعشر مِنْهَا تَخْفِيفًا عَلَيْهِ كَمَا اكْتفى الشَّارِع فِي زَكَاة النَّبَات المسقى بِغَيْر مُؤنَة بعشره تَطْهِيرا لَهُ وتنمية وَأَنه يخرج بِنور الْعلم بِسَبَب الْعَمَل الْمَذْكُور من ظلمات الْجَهْل وَفِي بعض النّسخ لنُور بِاللَّامِ بدل الْبَاء والظلمات بِضَم اللَّام وَفتحهَا وسكونها كَمَا فِي النّظم جمع ظلمَة وَهِي عدم النُّور وَقد قَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان ﵁ إِنَّكُم فِي زمَان من ترك مِنْكُم فِيهِ عشر مَا يعلم هلك وَسَيَأْتِي زمَان من عمل فِيهِ بِعشر مَا يعلم نجا أما الْعَمَل بِمَا يُعلمهُ من الْوَاجِبَات فقد ذكره بقوله فعالم بِعِلْمِهِ لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن أَي أَن الْعَالم إِذا لم يعْمل بِعِلْمِهِ بِأَن ترك شَيْئا مِمَّا تعين عَلَيْهِ عمله أَو ارْتكب محرما يعذبه الله إِن لم يعْفُو عَنهُ قبل تعذيبه عَابِد الوثن وَهُوَ الصَّنَم إِذْ الْعَالم ارْتكب الْمعْصِيَة عَالما بتحريمها وعابد الوثن غير عَالم بِتَحْرِيم عِبَادَته وَعَن أنس بن مَالك ﵁ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ الزَّبَانِيَة أسْرع إِلَى فسقة الْقُرَّاء مِنْهُم إِلَى عَبدة الْأَوْثَان فَيَقُولُونَ يبْدَأ بِنَا قبل عَبدة الْأَوْثَان فَيُقَال لَهُم لَيْسَ من يعلم كمن لَا يعلم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم وَعَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول إِن أول النَّاس يقْضى يَوْم الْقِيَامَة عَلَيْهِ رجل اسْتشْهد فَأتي بِهِ فَعرفهُ نعْمَته فعرفها قَالَ فَمَا عملت فِيهَا قَالَ قَاتَلت فِيك حَتَّى استشهدت قَالَ كذبت وَلَكِنَّك قَاتَلت لِأَن يُقَال هُوَ جريء فقد قيل ثمَّ أَمر بِهِ فسحب على وَجهه حَتَّى ألقِي فِي النَّار وَرجل تعلم الْعلم وَعلمه وَقَرَأَ الْقُرْآن فَأتي بِهِ فَعرفهُ نعْمَته فعرفها قَالَ فَمَا عملت فِيهَا قَالَ تعلمت الْعلم وعلمته وقرأت فِيك الْقُرْآن قَالَ كذبت وَلَكِنَّك تعلمت ليقال هُوَ عَالم وقرأت الْقُرْآن ليقال هُوَ قاريء فقد قيل ثمَّ أَمر بِهِ فسحب على وَجهه حَتَّى ألقِي فِي النَّار وَرجل وسع الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ من أَصْنَاف المَال فَأتى بِهِ فَعرفهُ نعْمَته فعرفها قَالَ فَمَا عملت فِيهَا قَالَ مَا تركت من سَبِيل تحب أَن ينْفق فِيهَا إِلَّا أنفقت فِيهَا لَك قَالَ كذبت وَلَكِنَّك فعلت ليقال هُوَ جواد فقد قيل ثمَّ أَمر بِهِ فسحب على وَجهه حَتَّى ألْقى فِي النَّار رَوَاهُ مُسلم وَغَيره وَعَن الْوَلِيد بن عقبَة ﵁ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسل إِن أُنَاسًا من أهل الْجنَّة ينطلقون إِلَى أنَاس من أهل النَّار فَيَقُولُونَ
1 / 4
بِمَا دَخَلْتُم النَّار فوا الله مَا دَخَلنَا الْجنَّة إِلَّا بِمَا تعلمنا مِنْكُم فَيَقُولُونَ إِنَّا كُنَّا نقُول وَلَا نَفْعل رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَعَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة عَالم لم يَنْفَعهُ علمه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير وَالْبَيْهَقِيّ وَالْأَحَادِيث فِي وعيده كَثِيرَة وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء ويل لمن لَا يعلم مرّة وويل لمن يعلم سبع مَرَّات وَقيل لِابْنِ عُيَيْنَة أَي النَّاس أطول ندامة قَالَ أما فِي الدُّنْيَا فصانع الْمَعْرُوف إِلَى من لَا يشكره وَأما عِنْد الْمَوْت وَبعده فعالم مفرط وَالله أَرْجُو أَي أُؤَمِّل الْمَنّ أَي الإنعام بالإخلاص لكَي يكون مُوجب الْخَلَاص وَالْإِخْلَاص فِي الطَّاعَة ترك الرِّيَاء فِيهَا وَهُوَ سَبَب الْخَلَاص من أهوال يَوْم الْقِيَامَة لما رُوِيَ عَن أنس بن مَالك ﵁ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ من فَارق الدُّنْيَا على الْإِخْلَاص لله وَحده لَا شريك لَهُ وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة فَارقهَا وَالله عَنهُ رَاض رَوَاهُ ابْن ماجة وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَعَن ثَوْبَان ﵁ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عيه وَسلم يَقُول طُوبَى للمخلصين أُولَئِكَ مصابيح الْهدى تنجلي عَنْهُم كل فتْنَة ظلماء رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْأَحَادِيث فِي فضل الاخلاص كَثِيرَة مُقَدّمَة بِكَسْر الدَّال كمقدمة الْجَيْش للْجَمَاعَة الْمُتَقَدّمَة مِنْهُ من قدم اللَّازِم بِمَعْنى تقدم وَبِفَتْحِهَا على قلَّة كمقدمة الرجل فِي لُغَة من قدم الْمُتَعَدِّي فِي علم الْأُصُول أَي أصُول الدّين وَالْفِقْه فَإِنَّهُ ذكر فِيهَا شَيْئا من كل مِنْهُمَا أول وَاجِب مَقْصُود لذاته على الْإِنْسَان الْبَالِغ الْعَاقِل وَلَو أُنْثَى وَلَو رَقِيقا معرفَة الْإِلَه تَعَالَى باستيقان أَي يَقِينا لقَوْله تَعَالَى ﴿فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله﴾ ﴿وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد﴾ وَلِأَنَّهَا مبْنى سَائِر الْوَاجِبَات إِذْ لَا يَصح بِدُونِهَا وَاجِب وَلَا مَنْدُوب وَالْمرَاد بهَا معرفَة وجوده تَعَالَى وَمَا يجب لَهُ من إِثْبَات أُمُور وَنفي أُمُور وَهِي الْمعرفَة الإيمانية أَو البرهانية لَا الْإِدْرَاك والإحاطة بكنه الْحَقِيقَة لامتناعه شرعا وعقلا وَالْيَقِين حكم الذِّهْن الْجَازِم المطابق لموجب وَمَا ذكره من أَن ذَلِك أول وَاجِب هُوَ الْأَصَح من بضعَة عشر قولا والنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ اعتبرا أَي أَن النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ مُعْتَبر لصِحَّة الْإِيمَان لِلْخُرُوجِ من عَهده التَّكْلِيف بِهِ مِمَّن قدرا أَي من الْقَادِر عَلَيْهِ إِن صدق الْقلب إِذْ الْإِيمَان تَصْدِيق الْقلب بِمَا علم ضَرُورَة مَجِيء الرَّسُول بِهِ من عِنْد الله كالتوحيد والنبوة والبعث وَالْجَزَاء وافتراض الصَّلَوَات الْخمس وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَالْمرَاد بِتَصْدِيق الْقلب إذعانه وقبوله وَلما كَانَ تَصْدِيق الْقلب أمرا بَاطِنا لَا اطلَاع لنا عَلَيْهِ جعله الشَّارِع مَنُوطًا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهل النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرط لإجراء أَحْكَام الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا من الصَّلَاة عَلَيْهِ والتوارث والمناكحة وَغَيرهَا دَاخل فِي مُسَمّى الْإِيمَان أَو جُزْء مِنْهُ دَاخل فِي مُسَمَّاهُ قَولَانِ ذهب جُمْهُور الْمُحَقِّقين إِلَى أَولهمَا وَعَلِيهِ من صدق بِقَلْبِه وَلم يقر بِلِسَانِهِ مَعَ تمكنه من الْإِقْرَار فَهُوَ مُؤمن عِنْد الله وَهَذَا أوفق باللغة وَالْعرْف وَذهب كثير من الْفُقَهَاء إِلَى ثَانِيهمَا وألزمهم الْأَولونَ بِأَن من صدق بِقَلْبِه فاخترمته الْمنية قبل اتساع وَقت الْإِقْرَار بِلِسَانِهِ يكون كَافِرًا وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع على مَا نَقله الرَّازِيّ وَغَيره لَكِن يُعَارض دَعْوَاهُ قَول الشِّفَاء الصَّحِيح أَنه مُؤمن مستوجب للجنة حَيْثُ أثبت فِيهِ خلافًا وَخرج بقوله مِمَّن قدرا الْعَاجِز لخرس أَو سكتة أَو إخترام منية قبل التَّمَكُّن مِنْهُ فَيصح إيمَانه وَأما الْإِسْلَام فَهُوَ أَعمال الْجَوَارِح من الطَّاعَات كالتلفظ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغير ذَلِك لَكِن لَا تعْتَبر الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة فِي الْخُرُوج عَن عُهْدَة التَّكْلِيف بِالْإِسْلَامِ إِلَّا مَعَ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ
1 / 5
التَّصْدِيق الْمَار فَهُوَ شَرط للإعتداد بالعبادات فَلَا يَنْفَكّ الْإِسْلَام المعتبرعن الْإِيمَان وَإِن انْفَكَّ الْإِيمَان عَنهُ فِيمَن اخترمته الْمنية قبل اتساع وَقت التَّلَفُّظ وَأما مَا ورد من إِثْبَات أَحدهمَا وَنفي الآخر من نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا﴾ فَهُوَ وَارِد فِي الْمُنَافِقين وَأما الْعَطف فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى معنيهما اللغويين وَلذَلِك ذكر الصَّدَقَة وَالصَّوْم وَغَيرهمَا بعدهمَا بطرِيق الْعَطف مَعَ الْإِجْمَاع على عدم خُرُوجهَا عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان هَذَا كُله بِالنّظرِ لما عِنْد الله أما بِالنّظرِ لما عندنَا فالإسلام هُوَ النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَط فَمن أقرّ بهما أجريت عَلَيْهِ أَحْكَام الْإِسْلَام فِي الدُّنْيَا وَلم يحكم عَلَيْهِ بِكفْر إِلَّا بِظُهُور إمارات التَّكْذِيب كسجوده اخْتِيَارا لكواكب أَو صُورَة أَو استخفاف بِنَبِي أَو بمصحف أَو بِالْكَعْبَةِ أَو نَحْو ذَلِك وَالصَّحِيح صِحَة إِيمَان الْمُقَلّد وَاللَّام فِي قَوْله لصِحَّة الْإِيمَان للتَّعْلِيل أَو بِمَعْنى فِي وَألف اعتبرا وَقدرا للإطلاق وبالأعمال يكون الْإِيمَان ذَا نقص وَذَا كَمَال أَي الْإِيمَان يزِيد بِسَبَب زِيَادَة الْأَعْمَال ككثرة النّظر ووضوح الْأَدِلَّة وَزِيَادَة الطَّاعَة وَينْقص بِسَبَب نَقصهَا والأدلة فِي ذَلِك كَثِيرَة وَمَا قيل من أَن حَقِيقَة الْإِيمَان لَا تزيد وَلَا تنقص لما مر أَنه التَّصْدِيق القلبي الَّذِي بلغ حد الْجَزْم والاذعان وَهُوَ لَا يتَصَوَّر فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص حَتَّى إِن من حصل لَهُ حَقِيقَة التَّصْدِيق القلبي فَسَوَاء عمل الطَّاعَات أَو ارْتكب الْمعاصِي فتصديقه لَا تغير فِيهِ أصلا رد بِأَنا لَا نشك أَن تَصْدِيق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أَعلَى وأكمل من تَصْدِيق غَيرهم وَإِن تَصْدِيق أبي بكر أَعلَى من تَصْدِيق غَيره من بَقِيَّة النَّاس وَيُؤَيِّدهُ أَن كل أحد يعلم أَن مَا فِي قلبه يتفاضل حَتَّى يكون فِي بعض الْأَحْوَال أعظم يَقِينا وإخلاصا وتوكلا مِنْهُ فِي بَعْضهَا وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيق والمعرفة بِحَسب ظُهُور الْبَرَاهِين وَكَثْرَتهَا فَكُن من الْإِيمَان فِي مزِيد وَفِي صفاء الْقلب ذَا تَجْدِيد أَي كن أَيهَا الْمُكَلف الْمُخَاطب فِي نَفِيس عمرك من الْإِيمَان فِي تَحْصِيل مزِيد مِنْهُ بِكَثْرَة الصَّلَاة والطاعات فَرضهَا ونفلها وَترك مَا للنَّفس من شهوات نفسانية أَو بهيمية مُحرمَة أَو مَكْرُوهَة وَإِيَّاك ثمَّ إياك أَن يَقع مِنْك نقص فِي إيمانك بارتكاب مَعْصِيّة من معاصي الله تَعَالَى فَتَقَع فِي خسران عمرك النفيس الَّذِي لَا يعدل مِنْهُ لَحْظَة مِنْهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَهُوَ رَأس مَالك الَّذِي تربح فِيهِ السَّعَادَة الأبدية والعيشة المرضية وَكن دَائِما ساعيا فِي صفاء قَلْبك من الكدورات البشرية ذَا تَجْدِيد لَهُ فَكلما صفيته من كدر وَحدث فِيهِ كدر آخر من جنسه أَو من غير جنسه سعيت فِي تنقيته مِنْهُ حَتَّى لَا يزَال قَلْبك صافيا وَأَنت بالإجتهاد فِي إِصْلَاحه ساعيا بِكَثْرَة الصَّلَاة والطاعات وَترك مَا لنَفسك من الشَّهَوَات فَكلما تحركت إِلَى شَهْوَة فتداركها ببصيرتك وفر مِنْهَا بِصدق التجائك إِلَى مَوْلَاك وَكن مستنصرا بِرَبِّك على قَلْبك ومستعينا على نَفسك بقلبك فبدوام تصفيتك تحصل جمعيتك وَلِهَذَا كَانَ أَكثر الصُّوفِيَّة على أَنه إِنَّمَا سمي الصوفى بذلك لِكَثْرَة تصفيته قلبه قَالَ سهل بن عبد الله الصُّوفِي من صفا من الكدر وامتلأ من العبر وَانْقطع إِلَى الله عَن الْبشر وتساوى عِنْده الذَّهَب والمدر وَقَالَ الْغَزالِيّ كَانَ اسْم الْفَقِيه فِي الْعَصْر الأول لمن علم طَرِيق الْآخِرَة ودقائق آفَات النُّفُوس ومفسدات الْأَعْمَال واستيلاء الْخَوْف على الْقلب دون من علم الْفُرُوع الْعَرَبيَّة وَأَحْكَام الْفَتَاوَى وَقَول النَّاظِم بِكَثْرَة وَترك مُتَعَلق بِكُل من مزِيد وتجديد وَفِي بعض النّسخ فشهوة النَّفس مَعَ الذُّنُوب موجبتان قسوة الْقُلُوب أَي ارْتِكَاب الْمُكَلف لشهوات نَفسه وارتكابه الذُّنُوب الطالبة لَهَا مقتضيات قسوة قلبه
1 / 6
وَإِن أبعد قُلُوب النَّاس من رَبنَا الرَّحِيم قلب قاسي أَي أبعد النَّاس من رَحمَه رَبنَا الرَّحِيم صَاحب الْقلب القاسي لخَبر التِّرْمِذِيّ عَن عبد الله بن عمر قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول لَا تكثروا الْكَلَام بِغَيْر ذكر الله فَإِن كَثْرَة الْكَلَام بِغَيْر ذكر الله قسوة للقلب وَإِن أبعد النَّاس من الله الْقلب القاسي وَفِي مُسْند الْبَزَّار عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ أَرْبَعَة من الشَّقَاء جمود الْعين وقساوة الْقلب وَطول الأمل والحرص على الدُّنْيَا وَفِي ذكر رَبنَا وَوَصفه بالرحيم مُبَالغَة فِي التَّعَبُّد وَفِي نُسْخَة بدل هَذَا الْبَيْت وَإِن من أبعد قُلُوب النَّاس لربنا الرَّحِيم قلب قاسي فدال أبعد سَاكِنة وَوَصلهَا بنية الْوَقْف وَاللَّام فِي لربنا مُتَعَلقَة بأبعد وَهُوَ بِمَعْنى من أوعن وقلب مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ خَبره قاسى وَالْجُمْلَة خبر لِأَن وَاسْمهَا ضمير الشَّأْن وَعَلِيهِ حمل خبر إِن من أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة المصورون وَلَا يحمل على زِيَادَة من خلافًا للكسائي وَسَائِر الْأَعْمَال لَا تخلص إِلَّا مَعَ النِّيَّة أَي إِن سَائِر الْأَعْمَال لَا يخلص فاعلها من عُهْدَة تَكْلِيفه بهَا بِأَن تقع صَحِيحَة مجزئة مثابا عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ النِّيَّة والأعمال جمع عمل وَهُوَ يتَنَاوَل عمل اللِّسَان والجنان والأركان وَظَاهر أَن النِّيَّة لَا تحْتَاج إِلَى نِيَّة أُخْرَى فتندرج فِيهَا الْعِبَادَات وَغَيرهَا كطهارة الْحَدث وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالْعمْرَة وَالْأُضْحِيَّة وَالْهدى والعقيقة وَالْكَفَّارَة وَالْجهَاد وَالصَّدقَات وَقَضَاء حوائج النَّاس وعيادة المرضى وَاتِّبَاع الْجَنَائِز وَابْتِدَاء السَّلَام ورده وتشميت الْعَاطِس وَجَوَابه وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَإجَابَة الدَّعْوَى وَحُضُور مجْلِس الْعلم والإذكار وزيارة الأخوان والقبور وَالنَّفقَة على الْأَهْل والضيفان وإكرام أهل الْفضل وَذَوي الْأَرْحَام ومذاكرة الْعلم والمناظرة فِيهِ وتكريره وتدريسه وتعلمه وتعليمه ومطالعته وكتابته وتصنيفه وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاء وإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق والنصيحة والإعانة على الْبر وَالتَّقوى وَقبُول الْأَمَانَات وأداؤها وَأما الْوَاجِب الَّذِي لم يشرع عبَادَة كرد الْمَغْصُوب والمباح وَالْمَكْرُوه وَالْمحرم فَلَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة وَلَكِن لَا يُثَاب عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ النِّيَّة فَيَنْبَغِي استحضار النِّيَّة عِنْد الْأكل وَالشرب وَالنَّوْم بِأَن يقْصد بهَا التَّقْوَى على الطَّاعَة وَعند جماع موطوءته بِأَن يقْصد بِهِ المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ وإيصال الْمَرْأَة حَقّهَا وإعفافها وإعفاف نَفسه وَتَحْصِيل ولد صَالح ليعبد الله وَعند عمل حِرْفَة كالزراعة بِأَن يقْصد بهَا إِقَامَة فرض الْكِفَايَة ونفع الْمُسلمين وَالضَّابِط أَنه مَتى قصد بِالْعَمَلِ امْتِثَال أَمر الشَّارِع وبتركه الإنهاء بنهي الشَّارِع كَانَ مثابا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا فَعلم أَن التروك وَنَحْوهَا وَإِن كَانَت لَا تفْتَقر إِلَى نِيَّة فِي عُهْدَة الْخُرُوج من التَّكْلِيف بهَا لكنه لَا يُثَاب عَلَيْهَا إِلَّا بهَا وَالْكَلَام على النِّيَّة من سَبْعَة أوجه نظمها بَعضهم فِي قَوْله ... حَقِيقَة حكم مَحل وزمن ... كَيْفيَّة شَرط ومقصود حسن ... والمرجح أَن إيجادها ذكرا فِي أول الْعَمَل ركن واستصحابها حكما بِأَن لَا يَأْتِي بمناف لَهَا شَرط فَمَا أفهمهُ ظَاهر قَوْله مَعَ النِّيَّة من أَنَّهَا شَرط للصِّحَّة خَارج عَن الْمَاهِيّة مصاحب لَهَا إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار شَرطهَا حَتَّى لَا يُخَالف الْمَشْهُور من أَنَّهَا ركن وَاللَّام فِيهَا للْعهد أَو معاقبة للضمير على رَأْي وَالتَّقْدِير إِلَّا مَعَ نياتها ككون الْعَمَل صَلَاة أَو غَيرهَا ظهرا مثلا أَو غَيرهَا وَكَونه فرضا مثلا حَيْثُ تخلص أَي أَنه لَا بُد فِي حُصُول الثَّوَاب على الْعَمَل من إخلاص نِيَّة فَاعله مَعَ الله تَعَالَى بِأَن لم يُشْرك فِيهَا غَيره وَقد عبر عَن الْإِخْلَاص بعبارات شَتَّى ترجع إِلَى أَنه تصفية الْفِعْل عَن الملاحظة للمخلوق وَمَا أَفَادَهُ كَلَام المُصَنّف من أَن الْعَامِل إِذا شرك فِي عمله بَين أَمر ديني ودنيوي لَا أجر لَهُ مُطلقًا هُوَ مااختاره ابْن عبد السَّلَام وَغَيره واستظهره الزَّرْكَشِيّ وَالْأَوْجه مَا اخْتَارَهُ الغزالى من اعْتِبَار الْبَاعِث فَإِن كَانَ الْأَغْلَب الديني
1 / 7
فَلهُ أجر بقدرة أَو الدنيوى فَلَا أجر لَهُ وَإِن تَسَاويا تساقطا وَقَول النَّاظِم حَيْثُ تخلص مَبْنِيّ للْمَفْعُول فصحح النِّيَّة قبل الْعَمَل وائت بهَا مقرونة بِالْأولِ أَي يجب على من أَرَادَ عملا تَصْحِيح نِيَّته قبل عمله وقرنها بِأول وَاجِب مِنْهُ كالوجه فِي الْوضُوء فَلَا يَكْفِي قرنها بِمَا بعده لخلو أول الْوَاجِبَات عَنْهَا وَلَا بِمَا قبله لِأَنَّهُ سنة تَابِعَة للْوَاجِب الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود وَإِنَّمَا لم يُوجب الْمُقَارنَة فِي الصَّوْم لعسر مراقبة الْفجْر وتطبيق النِّيَّة عَلَيْهِ فَيصح بنية متراخية عَن الْعَمَل إِن كَانَ تَطَوّعا ومتقدمة عَلَيْهِ إِن كَانَ فرضا وَلَيْسَ لنا فِي الْعِبَادَات مَا يجوز تَقْدِيم النِّيَّة عَلَيْهِ غير الصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَة وَالْأُضْحِيَّة نعم شرطُوا فِي الزَّكَاة أَن تكون النِّيَّة صدرت بعد تعْيين الْقدر الَّذِي يُخرجهُ فَإِن كَانَت قبله فَلَا وَالْكَفَّارَة وَالْأُضْحِيَّة كَذَلِك وَالتَّحْقِيق أَنه لَيْسَ لنا مَا تمْتَنع مقارنته وَيجب تَقْدِيمه غير الصَّوْم وَأما مَا يجوز تقدمه فَهُوَ الْبَاقِي وَالضَّابِط أَن مَا دخل فِيهِ بِفِعْلِهِ اشْترطت فِيهِ الْمُقَارنَة كَالصَّلَاةِ وَمَا دخل فِيهِ لَا بِفِعْلِهِ لَا تشْتَرط كَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَو نوى ثمَّ طلع الْفجْر وَهُوَ نَائِم صَحَّ صَوْمه فقد دخل فِيهِ بِدُونِ فعله وألحقت الزَّكَاة وَالْكَفَّارَة وَالْأُضْحِيَّة بِالصَّوْمِ لِأَنَّهَا قد تقع بِغَيْر فعله بالنيابة (وَإِن تدم) النِّيَّة (حَتَّى بلغت آخِره) أَي الْعَمَل (حزت الثَّوَاب كَامِلا فِي الْآخِرَة أَي ينْدب اسْتِدَامَة نِيَّة الْعَمَل ذكرا إِلَى إِتْمَامه لِئَلَّا يَخْلُو عَنْهَا حَقِيقَة أما استدامتها حكما بِأَن لَا يَأْتِي بِمَا ينافيها فَوَاجِب كَمَا مر وَقَوله تدم بِضَم التَّاء وَكسر الدَّال أَو بِفَتْح التَّاء وَضم الدَّال ففاعلة على الأول ضمير الْمُخَاطب وعَلى الثَّانِي ضمير النِّيَّة (وَنِيَّة وَالْقَوْل ثمَّ الْعَمَل بِغَيْر وفْق سنة لَا تكمل) أَي أَن النِّيَّة وَالْقَوْل وَالْعَمَل إِن وَقعت على غير وفْق سنة رَسُول الله ﷺ أَي شَرِيعَته لَا تكمل أَي لَا تعْتَبر لِأَنَّهَا مَعْصِيّة أَو قريبَة مِنْهَا لقَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا﴾ فَلَو عبر بِلَا تحصل لَكَانَ أنسب (من لم يكن يعلم ذَا فليسأل) أَي من لم يعلم مَا مر بِأَن جَهله أَو شَيْئا مِنْهُ فالإشارة بذا إِلَيْهِ فليسأل أهل الْعلم وجوبا إِن كَانَ وَاجِبا وندبا إِن كَانَ مَنْدُوبًا لقَوْله تَعَالَى ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ وهم أهل الْعلم (من لم يجد معلما فليرحل) أَي من لم يجد معلما يُعلمهُ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَمر دينه ومعاشه فليرحل وجوبا لتعلم الْوَاجِب وندبا للمندوب فقد رَحل الْكَرِيم للاستفادة من الْخضر ورحل جَابر ابْن عبد الله مسيرَة شهر إِلَى عبد الله بن أنيس فِي حَدِيث وَاحِد (وَطَاعَة مِمَّن حَرَامًا يَأْكُل مثل الْبناء فَوق موج يَجْعَل) أَي أَن فعل الطَّاعَة من صَلَاة وَصَوْم وَحج وَغير ذَلِك مِمَّن يَأْكُل أَو يشرب أَو يلبس حَرَامًا عَالما بِهِ مثل وَاضع بِنَاء فَوق موج بَحر عجاج بِأَن يَجعله أساسا لَهُ وَمَعْلُوم أَنه لَا يثبت عَلَيْهِ فقد روى من حَدِيث ابْن عمر ﵄ (من لم يُبَالِي من أَيْن اكْتسب المَال لم يبال الله من أَيْن أدخلهُ النَّار) وَتَخْصِيص النَّاظِم الْأكل لِأَنَّهُ أغلب الإنتفاعات ثمَّ شرع فِي ذكر شَيْء من أصُول الدّين وَهِي الْعلم بالعقائد الدِّينِيَّة عَن الْأَدِلَّة اليقينية فَقَالَ (فاقطع يَقِينا) من غير تردد (بالفؤاد) أَي الْقلب واجزم بِحَدَث بِفَتْح الْحَاء أَي تجدده بعد أَن لم يكن (الْعَالم بعد الْعَدَم) أَي يجب على الْمُكَلف أَن يتَيَقَّن بفؤاده وبحزم بِلِسَانِهِ بِكَوْن الْعَالم حَادِثا وَهُوَ مَا سوى الله تَعَالَى أوصائه وَقد أجمع على ذَلِك أهل الْملَل إِلَّا الفلاسفة وَقَوله يَقِينا مَنْصُوب على الْحَال أَي متيقنا أَو مفعول مُطلق (أحدثه) أوجده (لَا لاحتياجه الْإِلَه) أَي أَن
1 / 8
الْمُحدث للْعَالم هُوَ الله تَعَالَى كَمَا جَاءَ بِهِ السّمع وَدلّ عَلَيْهِ الْعقل فَإِن احدنا لَيْسَ بِقَادِر على خلق جارحة لنَفسِهِ أورد سمع أَو بصر فِي كَمَال قدرته وَتَمام عقله فَفِي كَونه نُطْفَة أَو عدما أولى فَوَجَبَ أَن الْخَالِق هُوَ الله ﷾ وَدلّ على أنفراده بذلك دلَالَة التمانع الْمشَار إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا﴾ إِذْ لَو جَازَ كَونه اثْنَيْنِ لجَاز أَن يُرِيد أَحدهمَا شَيْئا وَالْآخر ضِدّه الَّذِي لَا ضد لَهُ غَيره كحركة زيد وسكونه بِأَن تتَعَلَّق الإرادتان مَعًا بإيجادهما فِي وَقت وَاحِد لِأَن كلا مِنْهُمَا أَمر مُمكن فِي نَفسه وَلذَا تعلّقت الْإِرَادَة بِكُل مِنْهُمَا إِذْ لَا تضَاد بَين الإرادتين بل بَين المرادين والممكن لَا يلْزم من فرض وُقُوعه محَال فَيمْتَنع وُقُوع المرادين وَعدم وقوعهما لِامْتِنَاع اجْتِمَاع الضدين الْمَذْكُورين وارتفاعهما فَيتَعَيَّن وُقُوع أَحدهمَا فَيكون مريده هُوَ الْإِلَه دون الآخر لعَجزه فَلَا يكون الْإِلَه إِلَّا وَاحِدًا (وَلَو أَرَادَ تَركه لما ابتداه) أَي أَنه فَاعل بِالِاخْتِيَارِ لَا بِالذَّاتِ إِن اراد فعل وَإِن أَرَادَ ترك إِذْ الْكل مُتَعَلق بإرادته ومشيئته فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن (فَهُوَ لما يُريدهُ فعال) أى أَنه فعال لما يُريدهُ خلافًا للفلاسفة الْقَائِلين بِأَنَّهُ موجد بِالذَّاتِ وَقد نطق الْقُرْآن الْعَظِيم بِأَنَّهُ فعال لما يُرِيد وَهُوَ كَمَا قَالَه أهل السّنة عَام فِي الْخَيْر وَالشَّر خلافًا اللمعتزلة حَيْثُ قَالُوا إِنَّمَا يُرِيد الْخَيْر فَهُوَ فعال لَهُ دون الشَّرّ وَقد أَشَارَ إِلَى مَذْهَبهم عبد الْجَبَّار مُخَاطبا للأستاذ أبي إِسْحَاق بقوله سُبْحَانَ من تنزه عَن الْفَحْشَاء فَأَجَابَهُ الْأُسْتَاذ بقوله سُبْحَانَ من لَا يجرى فِي ملكه إِلَّا مَا يَشَاء (وَلَيْسَ فِي الْخلق لَهُ مِثَال) أَي أَنه لَيْسَ فِي الْخلق بأسرهم لَهُ مِثَال لِأَنَّهُ لَو حصلت الْمُمَاثلَة بَينه وَبَين خلقه لم يكن وَاحِدًا لِأَن الْوَاحِد هُوَ الَّذِي لَا مثل لَهُ إِذْ لَو كَانَ لَهُ مثل لزم كَونه خَالِقًا ومخلوقا وقديما وحادثا مَعًا لِأَن مَا وَجب للمثل وَجب لمثله وكل ذَلِك محَال عقلا فَلَيْسَ كذاته ذَات وَلَا كَفِعْلِهِ فعل وَلَا كصفاته صفة جلت ذَاته الْقَدِيمَة عَن أَن يكون لَهَا صفة حَادِثَة كَمَا اسْتَحَالَ أَن يكون للذات الْحَادِثَة صفة قديمَة وَلِهَذَا أعظم الْمِنَّة على أهل التَّوْحِيد وأجزل النِّعْمَة على ذوى التَّحْقِيق حَيْثُ أعتق أسرهم عَن رق عبودية مَاله مثل وَعبادَة مَاله شكل وَلما كَانَ المعبود سُبْحَانَهُ لَا مثل لَهُ حق للعابدين أَن لَا يذروا مَقْدُورًا إِلَّا بذلوه وَلَا يغادروا معسورا فِي طلبه إِلَّا تَحملُوهُ إِذْ لايجوز بذل المهج إِلَّا فِي طلب الْعَزِيز الَّذِي لَا مثل لَهُ ﷾ قَالَ أَبُو إِسْحَاق الاسفراينى جمع أهل الْحق جَمِيع مَا قيل فِي التَّوْحِيد فِي كَلِمَتَيْنِ إِحْدَاهمَا اعْتِقَاد أَن كل مَا تصور فِي الأوهاو فَالله تَعَالَى بِخِلَافِهِ لِأَن الَّذِي يتَصَوَّر فِي الأوهام مَخْلُوق لله تَعَالَى وَالله تَعَالَى خالقه وَالثَّانيَِة اعْتِقَاد أَن ذَاته لَيست مشبهة بِذَات وَلَا معطلة عَن الصِّفَات وَقد أكد ذَلِك بقوله ﴿وَلم يكن لَهُ كفوا أحد﴾ وَهَذَا غَايَة فِي الإيجاز والجودة (قدرته لكل مَقْدُور جعل) أَي أَن قدرته تَعَالَى شَامِلَة لكل مَقْدُور من الممكنات الْجَوَاهِر والأعراض الْحَسَنَة والقبيحة النافعة والضارة فتعلقات قدرته لَا تتناهى وَإِن كَانَ كل مَا تعلّقت بِهِ بِالْفِعْلِ متناهيا فمتعلقاتها بِالْقُوَّةِ غير متناهية وبالفعل متناهية وَهَكَذَا القَوْل فِي متعلقات علمه تَعَالَى وَأَشَارَ بقوله (لكل مَقْدُور جعل) إِلَى أَن مُتَعَلق الْقُدْرَة الممكنات أما المستحيلات فلعدم قابليتها للوجود لم تصلح أَن تكون محلا لتَعلق الْقُدْرَة لَا لكلال فِيهَا قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر﴾ ﴿وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا﴾ ﴿وَمَا أَصَابَكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ فبإذن الله﴾ أَي بِقَضَائِهِ وَقدره ﴿مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها﴾ ﴿ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة﴾ ﴿وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ﴾ وَفِي الْخَبَر الصَّحِيح (كل شَيْء بِقَضَاء وَقدر) (وَعلمه لكل مَعْلُوم شَمل) اى إِن علمه تَعَالَى شَامِل لكل مَعْلُوم مَكَانا أَو مُتَمَكنًا جوهرا أَو عرضا وجودا أَو عدما جزئيا أَو كليا وَاجِبا أَو جَائِزا أَو محالا قَدِيما أَو حَادِثا يعلم ذَلِك بِعلم وَاحِد قديم لَا بِتَعَدُّد بتعداد المعلومات وَلَا يَتَجَدَّد بتجددها
1 / 9
وَلَيْسَ بمكتسب وَلَا ضرورى لقَوْله تَعَالَى ﴿أحَاط بِكُل شَيْء علما﴾ ﴿وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ ﴿عَالم الْغَيْب لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الأَرْض وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ وأطبق الْمُسلمُونَ على أَنه تَعَالَى يعلم دَبِيب النملة السَّوْدَاء على الصَّخْرَة الصماء فِي اللَّيْلَة الظلماء وَأَن علمه مُحِيط بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء جملَة وتفصيلا وَكَيف لَا وَهُوَ خَالِقهَا وَقد قَالَ تَعَالَى ﴿أَلا يعلم من خلق﴾ وَقَول النَّاظِم جعل مبْنى للْمَفْعُول أَو للْفَاعِل وَقَوله شَمل بِكَسْر الْمِيم وبجوز فتحهَا (مُنْفَرد بالخلق وَالتَّدْبِير أى أَنه تَعَالَى مُنْفَرد باختراع الْأَعْيَان والْآثَار والجواهر والأعراض لَا يخرج حَادث عَن أَن يكون مخلوقا لَهُ فأفعال الْعباد الاختيارية وَاقعَة بقدرة الله تَعَالَى وَحدهَا وَلَيْسَ لقدرتهم تَأْثِير فِيهَا بل الله تَعَالَى أجْرى عَادَته بِأَن يُوجد فِي العَبْد قدرَة واختيارا فَإِذا لم يكن هُنَاكَ مَانع أوجد فِيهِ فعله الْمَقْدُور مُقَارنًا لَهما فَيكون فعل العَبْد مخلوقا لله تَعَالَى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للْعَبد وَالْمرَاد بِكَسْبِهِ لَهُ مقارنته لقدرته وإرادته من غير أَن يكون مِنْهُ تَأْثِير أَو مدْخل فِي وجوده سوى كَونه محلا لَهُ وَهُوَ مُنْفَرد بِالتَّدْبِيرِ للأمور من غير مشارك لَهُ وَلَا معِين فَلَا يحدث حَادث فِي الْعَالم الْعلوِي وَلَا السفلي إِلَّا بتدبيره وإرادته وقضائه وحكمته قَالَ تَعَالَى ﴿يدبر الْأَمر﴾ أى يبرمه وينفذه بِمَا يُريدهُ عبر عَنهُ بِهِ تَقْرِيبًا إِذْ هُوَ عَالم بعواقب الْأُمُور كلهَا من غير نظر وَلَا فكر يعلم مَا يكون قبل أَن يكون ومالا يكون إِذْ لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون وَمن علم أَنه مُنْفَرد بِالتَّدْبِيرِ لَا يفكر فِي تَدْبِير نَفسه بل يكل تَدْبيره إِلَى خالقه فَمن لَا خلق لَا تَدْبِير لَهُ قَالَ أهل الْمعرفَة من لم يدبر دبرله وَإِن كَانَ لابد من التَّدْبِير فدبر أَن لَا تدبر (جلّ عَن الشبيه والنظير) أى أَنه تَعَالَى جلّ عَن الشبيه والنظير فِي ذَاته وَصِفَاته وأفعاله قَالَ الفاكهى الظَّاهِر أَن الشبيه والنظير والمثيل وَنَحْو ذَلِك أَسمَاء مترادفة وَيحْتَمل أَن يُقَال هُنَا تَعَالَى عَن الشبيه فِي ذَاته والنظير فِي صِفَاته (حى) والحياة صفة أزلية تقتضى صِحَة الْعلم لموصوفها (مُرِيد) والإرادة صفة أزلية تخصص أحد طرفى الشَّيْء من الْفِعْل وَالتّرْك بالوقوع (قَادر) وَالْقُدْرَة صفة أزلية تُؤثر فِي الشَّيْء عِنْد تعلقهَا بِهِ (علام) وَالْعلم صفة أزلية لَهَا تعلق بالشَّيْء على وَجه الْإِحَاطَة بِهِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ (لَهُ الْبَقَاء) وَهُوَ اسْتِمْرَار الْوُجُود فَلَا أول لَهُ وَلَا آخر (والسمع) وَهُوَ صفة أزلية تحيط بالمسموعات وَاكْتفى بِذكر السّمع عَن الْبَصَر وَهُوَ صفة أزلية تحيط بالمبصرات (وَالْكَلَام) وَهُوَ صفة أزلية عبر عَنْهَا بالنظم الْمَعْرُوف الْمُسَمّى بِكَلَام الله أَيْضا ويسميان بِالْقُرْآنِ أَيْضا وَقَول النَّاظِم علام صِيغَة مُبَالغَة وَهَذِه الصِّفَات نظمها بَعضهم فِي قَوْله
حَيَاة وَعلم قدرَة وَإِرَادَة
كَلَام وابصار وَسمع مَعَ البقا ... فهذى صِفَات االله جلّ قديمه
لَدَى الأشعرى الحبر ذِي الْعلم والتقى
هَذَا مَذْهَب أهل الْحق إِلَّا أَن بعض أَئِمَّتنَا أنكر الثَّامِنَة وَهِي الْبَقَاء وَقَالَ هُوَ بَاقٍ بِذَاتِهِ لَا بِبَقَاء وَهَذِه الصِّفَات زَائِدَة على مَفْهُوم الذَّات وَلَيْسَت عينهَا وَلَا غَيرهَا كَمَا مر أما صِفَات الْأَفْعَال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وبجمعها اسْم التكوين فَلَيْسَتْ أزلية خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة بل هِيَ حَادِثَة أى متجددة لِأَنَّهَا إضافات تعرض للقدرة وهى تعلقاتها بوجودات المقدورات لأوقات وجوداتها وَلَا مَحْذُور فِي اتصاف البارى سُبْحَانَهُ بالإضافات كَكَوْنِهِ قبل الْعَالم وَمَعَهُ وَبعده وأزلية أَسْمَائِهِ الراجعة إِلَى صِفَات الْأَفْعَال من حَيْثُ رُجُوعهَا إِلَى الْقُدْرَة لَا الْفِعْل فالخالق مثل من شَأْنه الْخلق أى الَّذِي هُوَ بِالصّفةِ الَّتِى يَصح بهَا الْخلق وَهِي الْقُدْرَة كَمَا يُقَال المَاء فِي الْكوز مروأى هُوَ بِالصّفةِ الَّتِى يحصل بهَا الإرواء عِنْد مصادفة الْبَاطِن وَالسيف فِي الغمد قَاطع أى هُوَ بِالصّفةِ الَّتِى يحصل بهَا الْقطع عِنْد ملاقاة الْمحل فَإِن
1 / 10
أُرِيد بالخالق مِنْهُ من صدر مِنْهُ الْخلق فَلَيْسَ صدوره أزليا وَقَول النَّاظِم البقا بالقص بِالْقصرِ للوزن (كَلَامه كوصفه الْقَدِيم) أى كَلَام الله تَعَالَى النَّفْسِيّ صفة قديمَة كَبَقِيَّة صِفَاته الْقَدِيمَة بِحرف وَلَا صَوت لِأَنَّهُمَا عرضان حادثان ويستحيل اتصاف الْقَدِيم بالحادث وَهَذَا مَذْهَب أهل الْحق وَقد ذكر الْإِنْسَان فِي ثَمَانِيَة وَعشْرين موضعا وَقَالَ إِنَّه مَخْلُوق وَذكر الْقُرْآن فِي أَرْبَعَة وَخمسين موضعا وَلم يقل إِنَّه مَخْلُوق وَلما جمع بَينهمَا نبه على ذَلِك فَقَالَ ﴿الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان﴾ ثمَّ تَارَة يدل عَلَيْهِ بالعبارة وَتارَة يدل عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ فَإِذا عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وبالعبرانية فتوارة وبالسريانية فإنجيل كَمَا إِذا ذكر الله تَعَالَى بلغات مُخْتَلفَة فالمسمى وَاحِد وَإِن كَانَت اللُّغَات مُخْتَلفَة أما الْعبارَات الدَّالَّة عَلَيْهِ فمخلوق حَادِثَة لَكِن امْتنع الْعلمَاء من إِطْلَاق الْخلق والحدوث عَلَيْهَا إِذا سميت قُرْآنًا لما فِيهِ من الْإِيهَام (لم يحدث المسموع للكليم) أى الْكَلَام الَّذِي سَمعه الكليم مُوسَى ﷺ كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة لَا مجَازًا فَلَا يكون مُحدثا لما مر وَهَذَا معنى قَوْله (لم يحدث المسموع للكليم) أى لم يُوصف الْكَلَام المسموع للكليم بِأَنَّهُ مُحدث بل هُوَ قديم لِأَنَّهُ الصّفة الأزلية الْحَقِيقِيَّة وَلِأَنَّهُ كَمَا لم تتعذر رُؤْيَته تَعَالَى مَعَ أَنه لَيْسَ جسما وَلَا عرضا كَذَلِك لَا يتَعَذَّر سَماع كَلَامه مَعَ إِنَّه لَيْسَ حرفا وَلَا صَوتا وَقَوله يحدث بِضَم الْيَاء من أحدث أَو بِفَتْحِهَا من حدث فالمسموع مَنْصُوب على الأول بِكَوْنِهِ مَفْعُولا ومرفوع على الثَّانِي بالفا لمية (يكْتب فِي اللَّوْح وباللسان يقْرَأ كَمَا حفظ بالأذهان) أى أَن الْقُرْآن الْعَزِيز يُطلق عَلَيْهِ شرعا إطلاقا حَقِيقِيًّا لَا مجازيا أَنه مَكْتُوب فِي ألواحنا وَمَصَاحِفنَا بأشكال الْكِتَابَة وصور الْحُرُوف الدَّالَّة عَلَيْهِ قَالَ ﷺ (لَا تسافرو فِي الْقُرْآن إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن يَنَالهُ الْعَدو) وَلِهَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا أَن ينْعَقد الْيَمين بالمصحف فِي حَالَة الْإِطْلَاق وَأَنه مقروء بألسنتنا بِحُرُوفِهِ الملفوظة المسموعة بآذاننا وَلِهَذَا حرمت قِرَاءَة الْقُرْآن على ذى الْحَدث الْأَكْبَر وَأَنه لمحفوظ بأذهاننا فِي صدورنا واتصاف الْقُرْآن بِهَذِهِ الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة وَبِأَنَّهُ غير مَخْلُوق أى مَوْجُود أزلا وابدا اتصاف لَهُ بِاعْتِبَار وجودات الموجودات الْأَرْبَعَة فان لكل مَوْجُود وجودا فِي الْخَارِج ووجودا فِي الذِّهْن ووجودا فِي الْعبارَة ووجودا فِي الْكِتَابَة فَهِيَ تدل على الْعبارَة وَهُوَ على مَا فِي الذِّهْن وَهُوَ على مَا فِي الْخَارِج فالقرآن بِاعْتِبَار الْوُجُود الذهنى مَحْفُوظ فِي الصُّدُور وَبِاعْتِبَار الْوُجُود اللساني مقروء بالألسنة وَبِاعْتِبَار الْوُجُود الْبَيَانِي مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف وَبِاعْتِبَار الْوُجُود الْخَارِجِي وَهُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة لَيْسَ فِي الصُّدُور وَلَا فِي الْأَلْسِنَة وَلَا فِي الْمَصَاحِف (أرسل رسله بمعجزات ظَاهِرَة لِلْخلقِ باهرات) أى يجب على كل مُكَلّف اعْتِقَاد أَن الله تَعَالَى أرسل الرُّسُل من الْبشر إِلَى الْبشر مبشرين لأهل الْإِيمَان وَالطَّاعَة بالثواب وَالْجنَّة ومنذرين لأهل الْكفْر والعصيان بالعقاب وَالنَّار لتبليغ الرسَالَة وَبَيَان مَا أنزل عَلَيْهِم مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من أَمر الدُّنْيَا وَالدّين ولإقامة حجَّة الله على خلقه لقَوْله تَعَالَى ﴿لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل﴾ وبدونهم لَا يُمكن الْوُصُول إِلَى الله وَلَا يَصح سلوك الطَّرِيق إِلَيْهِ لِأَن الْعقل لَا يسْتَقلّ بِإِدْرَاك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وأحوال الْقِيَامَة وأيدهم بالمعجزات الظاهرات الباهرات إِذْ مدعى الرسَالَة لَا بُد لَهُ من دَلِيل على دَعْوَاهُ والمعجزة دَلِيله وَالْمرَاد الْحجَّة الظَّاهِرَة الَّتِي يُشَارِكهُ فِي الْعلم بهَا خلقه أما الْحجَّة الْحَقِيقِيَّة الْمُنْفَرد هُوَ بعلمها فَهِيَ قَائِمَة على الْخلق بِدُونِ الرُّسُل لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حكم عدل وَقد روى أَن عدد الأنبءيا مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَقيل مِائَتَا ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَقيل ألف ألف وَمِائَتَا ألف وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا عدد الْمُرْسلين مِنْهُم ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر وَقيل وَأَرْبَعَة عشر وَالْمَذْكُور مِنْهُم فِي الْقُرْآن بأسماء الْأَعْلَام ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نَبيا آدم وَإِدْرِيس ونوح وَهود وَصَالح وَإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق
1 / 11
وَيَعْقُوب ويوسف وَلُوط ومُوسَى وهرون وَشُعَيْب وزَكَرِيا وَيحيى وَعِيسَى وَدَاوُد وَسليمَان وإلياس وأليسع وَذُو الكفل وَأَيوب وَيُونُس وَمُحَمّد ﷺ وَذُو القرنين وعزيز ولقمان وعَلى القَوْل بنبوة الثَّلَاثَة وَقَالَ بَعضهم لم ينْحَصر عدد الْأَنْبِيَاء وَلَا الرُّسُل لقَوْله تَعَالَى ﴿مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك﴾ والمعجزة أَمر خارق للْعَادَة مقرون بالتحدى مَعَ عدم الْمُعَارضَة من الْمُرْسل إِلَيْهِم وَسميت معْجزَة لتضمنها تعجيزهم عَن الْإِتْيَان بِمِثْلِهَا على أَن تَسْمِيَتهَا بذلك مجَاز لِأَن الْعَجز تبين بهَا فان المعجز فِي الْحَقِيقَة خَالق الْعَجز وَالْأَمر يَشْمَل القَوْل وَغَيره وَالْمرَاد بخرقه للْعَادَة ظُهُوره على خلَافهَا كإحياء ميت وإعدام جبل وانفجار المَاء من بَين الْأَصَابِع والتحدي دَعْوَى الرسَالَة إِذْ لَيْسَ الشَّرْط الاقتران بالتحدى بِمَعْنى طلب الْإِتْيَان بِالْمثلِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ للتحدي فَمن قيل لَهُ إِن كنت رَسُولا فأت بمعجزة فأظهر الله على يَدَيْهِ معجزا كَانَ ظُهُوره دَلِيلا على صدقه نازلا منزلَة التَّصْرِيح بالتحدى وَخرج بقَوْلهمْ خارق الْعَادة وَغَيره كطلوع الشَّمْس كل يَوْم على الْعَادة وَخرج بقَوْلهمْ مقرون بالتحدى الخارق من غير تحد وَهُوَ كَرَامَة الولى والخارق الْمُتَقَدّم على التحدى كالموجود من النَّبِي قبل النُّبُوَّة وَهُوَ الْمُسَمّى عِنْد أهل الْأُصُول إرهاصا أى تأسيسا للنبوة من أرهصت الْحَائِط إِذا أسسته كشق صدر نَبينَا مُحَمَّد ﷺ وَغسل قلبه فِي زمن الصِّبَا وإظلال الْغَمَام وتكليم الشّجر وَالْحجر قبل النُّبُوَّة وَفِي المواقف ان هَذِه تسمى كرامات أَيْضا والخارق الْمُتَأَخر عَنهُ بِمَا يُخرجهُ عَن الْمُقَارنَة الْعُرْفِيَّة وَقَوْلهمْ مَعَ عدم الْمُعَارضَة من الْمُرْسل إِلَيْهِم مَعْنَاهُ أَن تتعذر معارضته مَعَ كَونه مُوَافقا لدعوى الرَّسُول دَالا على صدقه وَخرج السحر والشعبذة من الْمُرْسل إِلَيْهِم إذلا مُعَارضَة بذلك وَالظَّاهِرَة الْوَاضِحَة والباهرات الغالبات لمن تحدى بِهن لِأَن البهر لُغَة الْغَلَبَة أَو الأتيان بِمَا يتعجب مِنْهُ من البهر بِمَعْنى الْعجب والبالغات فِي الظُّهُور الْغَايَة من قَوْلهم ابهر فلَان فِي كَذَا إِذا بَالغ فِيهِ وَلم يدع جهدا (وَخص من بَينهم مُحَمَّدًا) أى أَن الله تَعَالَى خص من بَين الرُّسُل نَبينَا مُحَمَّدًا ﷺ بخصائص كَثِيرَة لَا تكَاد تَنْحَصِر ذكر الائمة غالبها فِي مؤلفاتهم المختصة بهَا وَقد أَشَارَ النَّاظِم رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى ذَلِك بِحَذْف الْمُتَعَلّق لِأَنَّهُ يُؤذن بِالْعُمُومِ فَقَالَ (فَلَيْسَ بعده نَبِي أبدا) أى إِن مِمَّا خصّه الله بِهِ أَنه خَاتم النَّبِيين فَلَا نَبِي بعده وَأَن الله تَعَالَى بَعثه إِلَى كَافَّة الْخلق من الْإِنْس وَالْجِنّ وَقد أفتى الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى بِأَنَّهُ لم يبْعَث إِلَى الْمَلَائِكَة فَفِي تَفْسِير الإِمَام الرَّازِيّ والبرهان النَّسَفِيّ حِكَايَة الاجماع على أَنه لم يُرْسل إِلَيْهِم أما غَيره فَكَانَت رسَالَته خَاصَّة وَعُمُوم رِسَالَة نوح بعد الطوفان لانحصار البَاقِينَ فِيمَن كَانَ مَعَه فِي السَّفِينَة وَأَنه (فَضله على جَمِيع من سواهُ) من الْمُرْسلين والأنبياء وَالْمَلَائِكَة وَغَيرهم فَفِي الصَّحِيحَيْنِ (أَنا سيد ولد آدم) وَيُؤْخَذ مِنْهُ تفضيله على آدم بِالْأولَى لِأَن أفضل الْأَنْبِيَاء وَالرسل أولو الْعَزْم وهم نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد ﷺ على أَنه ورد عَنهُ ﷺ أَنه قَالَ (أَنا سيد النَّاس يَوْم الْقِيَامَة) وخصها بِالذكر لظُهُوره لكل أحد بِلَا مُنَازعَة لقَوْله تَعَالَى ﴿لمن الْملك الْيَوْم﴾ وَنَوع الآدمى أفضل الْخلق فَهُوَ ﷺ أفضل الْخلق وَقد حكى الرَّازِيّ الاجماع على أَنه مفضل على جَمِيع الْعَالمين وَأما خبر (لَا تفضلونى على يُونُس لَا تفضلوا بَين الْأَنْبِيَاء) وَنَحْوهمَا فَهُوَ مَحْمُول على نهى عَن تَفْضِيل يفضى لنَقص بَعضهم فانه كفر أَو عَن تَفْضِيل فِي نفس النُّبُوَّة الَّتِى لَا تَتَفَاوَت فِي ذَوَات الْأَنْبِيَاء المتفاوتين بالخصائص أَو نهى عَن ذَلِك تأدبا وتواضعا أَو قبل علمه بِأَنَّهُ أفضل الْخلق وَبعده فِي التَّفْضِيل الانبياء ثمَّ الْمَلَائِكَة فخواص الْبشر أفضل من خَواص الْمَلَائِكَة وخواص الْمَلَائِكَة أفضل من عوام الْبشر وَعَامة الْبشر أفضل من عَامَّة الْمَلَائِكَة وهم أجسام لَطِيفَة لَهُم قُوَّة التشكل والتبدل قادرون على أَفعَال شاقة عباد مكرمون مواظبون على الطَّاعَة معصومون عَن الْمُخَالفَة وَالْفِسْق لَا يوصفون بذكورة وَلَا أنوثة
1 / 12
فَهُوَ ﷺ (الشَّفِيع) يَوْم الْقِيَامَة قَالَ ﷺ (أَنا أول شَافِع وَأول مُشَفع) وَله شفاعات أعظمها فِي تَعْجِيل الْحساب والإراحة من هول الْموقف حِين يفزعون إِلَيْهِ بعد الْأَنْبِيَاء وَهِي مُخْتَصَّة بِهِ بِالْإِجْمَاع وَهِي المُرَاد بالْمقَام الْمَحْمُود فِي قَوْله تَعَالَى ﴿عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا﴾ وَهُوَ الْمقَام الَّذِي يحمده فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ الثَّانِيَة فِي إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب وَلَا عِقَاب قَالَ القَاضِي عِيَاض وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَهِي مُخْتَصَّة بِهِ قَالَ بَعضهم وَالْعجب مِمَّن توقف فِي هَذِه الخصوصية وَقَالَ لَا دَلِيل عَلَيْهَا إِذْ الدَّلِيل عَلَيْهَا الاجماع على أَن هَذِه الْأُمُور لَا تدْرك بِالْعقلِ وَلم يرد النَّقْل إِلَّا فِي حَقه وَالْأَصْل الْعَدَم والبقاء على مَا كَانَ الثَّالِثَة فِي أنَاس استحقوا دُخُول النَّار فَلَا يدْخلُونَهَا قَالَ القَاضِي عِيَاض وَغَيره ويشركه فِيهَا من يَشَاء الله وَتردد النَّوَوِيّ فِي ذَلِك قَالَ السكبي لِأَنَّهُ لم يرد تَصْرِيح بذلك وَلَا بنفيه قَالَ وهى فِي إجَازَة قَالَ وَهِي فِي إجَازَة الصِّرَاط بعد وَضعه وَيلْزم مِنْهَا النجَاة من النَّار الرَّابِعَة فِي إِخْرَاج من أَدخل النَّار من الْمُوَحِّدين وَفِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان وَهِي مُخْتَصَّة بِهِ الْخَامِسَة فِي إِخْرَاج من أَدخل النَّار من الْمُوَحِّدين غير هَؤُلَاءِ ويشاركه فِيهَا الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة والمؤمنون السَّادِسَة فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فِي الْجنَّة لأَهْلهَا وَجوز النَّوَوِيّ اختصاصها بِهِ السَّابِعَة فِي تَخْفيف الْعَذَاب عَن بعض الْكفَّار كأبى طَالب وَجعل ابْن دحْيَة مِنْهُ التَّخْفِيف عَن أبي لَهب فِي كل يَوْم اثْنَيْنِ لسروره بِوِلَادَة النَّبِي ﷺ وإعتاقه ثويبة حِين بَشرته بِهِ وَمن شفاعاته أَنه يشفع لمن مَاتَ بِالْمَدِينَةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَأَن يشفع فِي التَّخْفِيف من عَذَاب الْقَبْر وَفِي العروة الوثقى للقزوينى أَنه يشفع لجَماعَة من صلحاء الْمُسلمين يتَجَاوَز عَنْهُم فِي تقصيرهم فِي الطَّاعَات وَذكر بَعضهم أَنه يشفع فِي أَطْفَال الْمُشْركين حَتَّى يدخلُوا الْجنَّة وَعبارَة المُصَنّف شَامِلَة لجَمِيع ذَلِك (والحبيب للاله) أى أَنه ﷺ حبيب الله لخَبر (أَلا وَأَنا حبيب الله وَلَا فَخر) وَظَاهر الْأَحَادِيث يدل على أَن الْمحبَّة أتم من الْخلَّة لِأَن سِيَاق الْفَضَائِل الَّتِي أوتيها نَبينَا ﷺ يدل على أَن كل مَا ذكر لَهُ أتم فضلا من كل مَا ذكر لغيره وَقد اخْتصَّ بالمحبة كَمَا اشْتهر إِبْرَاهِيم ﵊ بالخلة فَدلَّ على أَن الْمحبَّة أفضل لِأَن صَاحبهَا أفضل وَفرق النَّيْسَابُورِي بَين الْخَلِيل والحبيب بِأَن الْخَلِيل الَّذِي أمتحنه ثمَّ أحبه والحبيب الَّذِي أحبه ابْتِدَاء تفضلا والخليل الَّذِي جعل مَا يملكهُ فدَاء خَلِيله والحبيب الَّذِي أحبه تفضلا والخليل الَّذِي جعل مَا تملكه فدَاء خلية والحبيب الَّذِي جعل الله مَمْلَكَته فداءه وَوجد إِبْرَاهِيم الْخلَّة وَلم يجدهَا أحد غَيره بِسَبَبِهِ وَوجد مُحَمَّد الْمحبَّة ووجدتها أمته بِسَبَبِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله﴾ وَقَالَ (يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) والمحبة اسْم جَامع بِهِ تجمع الْخلَّة وَغَيرهَا وَالْعَام أكبر من الْخَاص (وَبعده) أى بعد رَسُول الله ﷺ والأنبياء (فَالْأَفْضَل) أَبُو بكر (الصّديق) وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ وَلَا مبالاة بِمَا يُخَالِفهُ وسمى بِالصديقِ لِأَنَّهُ صدق بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي نبوته ورسالته من غير تلعثم وَصدقه فِي الْمِعْرَاج بِلَا تردد فِيمَا أخبر بِهِ (وَالْأَفْضَل التالى لَهُ) عمر بن الْخطاب (الْفَارُوق) لما روى أَنه قَالَ (كَانَ إِسْلَام عمر عزا وهجرته نصْرَة وأمارته رَحْمَة وَالله مَا استطعنا أَن نصلى حول الْبَيْت ظَاهِرين حَتَّى أسلم عمر) وروى ابْن سعد عَن صُهَيْب أَنه قَالَ لما اسْلَمْ عمر قَالَ الْمُشْركُونَ انتصف الْقَوْم منا وَقَالَ حُذَيْفَة لما أسلم عمر كَانَ الاسلام كَالرّجلِ الْمقبل لَا يزْدَاد إِلَّا قربا وَلما قتل كَانَ الْإِسْلَام كَالرّجلِ الْمُدبر لَا يزْدَاد إِلَّا بعدا وَورد أَن جِبْرِيل نزل عِنْد إِسْلَام عمر وَقَالَ يامحمد استبشر أهل السَّمَاء بِإِسْلَام عمر وسمى بالفاروق لِأَنَّهُ فرق بَين الْحق وَالْبَاطِل فِي القضايا والخصومات ثمَّ (عُثْمَان) بن عَفَّان (بعده كَذَا على) بن أبي طَالب لاطباق السّلف على أفضليتهم عِنْد الله على هَذَا التَّرْتِيب وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قلت لأبي أى النَّاس خير بعد رَسُول الله ﷺ فَقَالَ أَبُو بكر قلت ثمَّ من قَالَ عمر قلت ثمَّ من قَالَ عُثْمَان
1 / 13
قلت وَأَنت قَالَ أَنا إِلَّا رجل من الْمُسلمين وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر (كُنَّا نخير بَين النَّاس فِي زمَان رَسُول الله ﷺ فنخير أَبَا بكر ثمَّ عمر بن الْخطاب ثمَّ عُثْمَان بن عَفَّان) وَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع عِنْد الأكبرين (فالستة الْبَاقُونَ) من الْعشْرَة وهم طَلْحَة بن عبيد الله وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح فالبدري أى فَالْأَفْضَل بعد الْعشْرَة شهد وقْعَة بدر وهم ثلثمِائة وَبضْعَة عشر والبضع بِكَسْر الْبَاء وَقد تفتح مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع وَعبارَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره وثلاثه عشر وَزَاد أهل السّير على الْقَوْلَيْنِ وَأَرْبَعَة عشر وَخَمْسَة عشر وَسِتَّة عشر وَثَمَانِية عشر وَتِسْعَة عشر وَقَالَ بَعضهم ثَمَانِيَة من الثَّلَاثَة عشر لم يحضروها وَإِنَّمَا ضرب لَهُم بسهمهم وأجرهم وَكَانُوا كمن حضرها وَهِي البطشة الْكُبْرَى الَّتِي أعز الله بهَا الْإِسْلَام ثمَّ بعد الْبَدْرِيِّينَ أَصْحَاب أحد ثمَّ أهل بيعَة الراضوان (وَالشَّافِعِيّ) أَمَام الْأَئِمَّة (وَمَالك) بن انس إِمَام دَار الْهِجْرَة (والنعمان) الإِمَام أَبُو حنيفَة المنعوت بالخشية والخيفة وَأحمد بن حَنْبَل المتعمق فِي التَّقْوَى وسُفْيَان الثَّوْريّ (وَغَيرهم من سَائِر الْأَئِمَّة) كَابْن عُيَيْنَة وَاللَّيْث بن سعد والاوزاعي وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ (على هدى من رَبهم) فِي العقائد وَغَيرهَا وَلَا أعتبار بِمن تكلم فيهم بِمَا هم بريئون مِنْهُ ومناقبهم مأثورة وفضائلهم مَشْهُورَة ويكفى فِيهَا أنتشار علمهمْ وتقرر جلالتهم على مدى الْأَزْمَان وَذَلِكَ لايقدر أحد على أَن يَضَعهُ لنَفسِهِ وَلَا لغيره ومناقبهم أَكثر من أَن تحصى ﵃ (وَالِاخْتِلَاف) بَينهم فِيمَا طَرِيقه الِاجْتِهَاد (رَحمَه) لقَوْله ﷺ اخْتِلَاف أَصْحَابِي رَحمَه وَالْمرَاد بهم المجتهدون قيس بهم غَيرهم فَلَو اخْتلف جَوَاب مجتهدين متساوين فَالْأَصَحّ أَن للمقلد أَن يتَخَيَّر فَيعْمل بقول من شَاءَ مِنْهُمَا وَقَول النَّاظِم وَالشَّافِعِيّ باسكان الْيَاء (والأولياء ذَوُو كرامات رتب) أى أَن الْأَوْلِيَاء وهم العارفون بِاللَّه تَعَالَى حَسْبَمَا يُمكن المواظبون على الطَّاعَة المجتنبون للمعاصي المعرضون عَن الانهماك فِي اللَّذَّات والشهوات أَصْحَاب كرامات فَهِيَ جَائِزَة وواقعة وَقد دلّ على ذَلِك الْكتاب وَالسّنة قَالَ تَعَالَى ﴿كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب﴾ الآيه وَقَالَ تَعَالَى ﴿قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب﴾ الآيه وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه ﷺ قَالَ بَيْنَمَا رجل يَسُوق بقرة قد حمل عَلَيْهَا إِذْ التفتت الْبَقَرَة لَهُ فَقَالَت لَهُ إِنِّي لم أخلق لهَذَا إِنَّمَا خلقت للحراثة فَقَالَ النَّاس سُبْحَانَ الله بقرة تَتَكَلَّم فَقَالَ النَّبِي ﷺ إِنِّي أُؤْمِن بِهَذَا وَأَبُو بكر وَعمر الحَدِيث وَيُؤْخَذ مِمَّا مر فِي تَعْرِيف المعجزة امتيازها عَن الْكَرَامَة بالتحدي وَيُؤْخَذ مِمَّا هُنَا أَن الْكَرَامَة هِيَ الخارق المقرون بالعرفان وَالطَّاعَة وَخرج بِهِ مَا لَا يكون مَقْرُونا بذلك وَيُسمى استدراجا ومؤكدات تَكْذِيب الْكَذَّابين كَمَا روى أَن مُسَيْلمَة دعى لأعور لتصح عينه العوراء فَذهب ضوء الصَّحِيحَة أَيْضا وَيُسمى هَذَا إهانة وَقد تظهر الخوارق من قبل عوام الْمُسلمين تخليصا لَهُم من المحن والمكاره وَتسَمى مَعُونَة وَقد تلخص من هَذَا مَعَ مَا سبق أَن الخارق للْعَادَة سِتَّة أَنْوَاع معْجزَة وإرهاص وكرامه واستدراج ومعونة وإهانه وكرامات الْأَوْلِيَاء متفاوته كتفاوت معجزات الْأَنْبِيَاء كجريان النّيل بِكِتَاب عمر ورؤيته وَهُوَ على الْمِنْبَر بِالْمَدِينَةِ جَيْشه بنهاوند حَتَّى قَالَ لأمير الْجَيْش يَا سَارِيَة الْجَبَل الْجَبَل محذرا لَهُ من وَرَاء الْجَبَل لمكر الْعَدو هُنَاكَ وَسَمَاع سَارِيَة كَلَامه مَعَ بعض الْمسَافَة وكشرب خَالِد السم من غير تضرر بِهِ وَغير ذَلِك مِمَّا وَقع للصحابة وَغَيرهم (وَمَا انْتَهوا لولد من غير أَب) أَي ان الألياء لَا ينتهون إِلَى ولد من غير أَب وَنَحْوه كقلب جماد بَهِيمَة قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي الرسَالَة إِن كثيرا من المقدورات
1 / 14
نعلم الْيَوْم قطعا أَنه لَا يجوز أَن تظهر كَرَامَة لولى لضَرُورَة أَو شبه ضَرُورَة مِنْهَا حُصُول الْإِنْسَان لَا من أبوين وقلب جماد بهيمه وأمثال هَذَا يكثر هَذَا قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ وَهَذَا حق يخصص قَول غَيره مَا جَازَ أَن يكون معْجزَة لنَبِيّ جَازَ أَن يكون كَرَامَة لوَلِيّ لافارق بَينهمَا إِلَّا التحدي وَقد جرى عَلَيْهِ المُصَنّف لكنه راى مَرْجُوح فقد قَالَ الزَّرْكَشِيّ إِنَّه مَذْهَب ضَعِيف وَالْجُمْهُور على خِلَافه وَقد أنكروه على الْقشيرِي حَتَّى وَلَده أَبُو نصر فِي كِتَابه المرشد فَقَالَ قَالَ بعض الْأَئِمَّة مَا وَقع معْجزَة لنَبِيّ لَا يجوز تَقْدِير وُقُوعه كَرَامَة لوَلِيّ كقلب العصى ثعبانا وإحياء الْمَوْتَى وَالصَّحِيح تَجْوِيز جملَة خوارق الْعَادَات كرامات للأولياء وَفِي الأرشاد لأمام الْحَرَمَيْنِ مثله وَفِي شرح مُسلم للنووي فِي بَاب الْبر والصلة أَن الكرامات تجوز بخوارق الْعَادَات على أختلاف أَنْوَاعهَا وَمنعه بَعضهم وَادّعى أَنَّهَا تخْتَص بِمثل إِجَابَة دُعَاء وَنَحْوه وَهَذَا غلط من قَائِله وانكار للحس بل الصَّوَاب جريانها بقلب الْأَعْيَان وَنَحْوهَا اه (وَلم يجز فِي غير مَحْض الْكفْر خروجنا على ولى الْأَمر أى يحرم الْخُرُوج على ولى الْأَمر وقتاله باجماع الْمُسلمين لما يَتَرَتَّب على ذَلِك من فتن وإراقة الدِّمَاء وَفَسَاد ذَات الْبَين فَتكون الْمفْسدَة فِي عَزله أَكثر مِنْهَا فِي بَقَائِهِ ولأننا تَحت طَاعَته فِي أمره وَنَهْيه مَا لم يُخَالف حكم الشَّرْع وَإِن كَانَ جائرا قَالَ النووى فِي شرح مُسلم إِن الْخُرُوج عَلَيْهِم وقتالهم حرَام باجماع الْمُسلمين وَإِن كَانُوا فسقه ظالمين اهو هُوَ مَحْمُول على الْخُرُوج عَلَيْهِم بِلَا عذر وَلَا تَأْوِيل وَخرج بقول المُصَنّف ولى الْأَمر مالو طَرَأَ عَلَيْهِ كفر فَإِنَّهُ يخرج عَن حكم الْولَايَة وَتسقط طَاعَته وَيجب على الْمُسلمين الْقيام عَلَيْهِ وقتاله وَنصب غَيره إِن أمكنهم ذَلِك وَيُمكن أَن يُسْتَفَاد هَذَا من قَوْله فِي غير مَحْض الْكفْر بِجعْل (فِي) للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿لمسكم فِيمَا أَفَضْتُم﴾ أى لم يجز لأجل غير مَحْض الْكفْر خروجنا على ولى الْأَمر (وَمَا جرى بَين الصاحب نسكت عَنهُ وَأجر الِاجْتِهَاد نثبت) أى أَنه يجب سكوتنا عَمَّا جرى بَين الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم من المنازعات والمحاربات الَّتِى قتل بِسَبَبِهَا كثير مِنْهُم فَتلك دِمَاء طهر الله مِنْهَا أَيْدِينَا فَلَا نلوث بهَا ألسنتنا كمنازعة مُعَاوِيَة عليا بِسَبَب تَأْخِير تَسْلِيم قتلة عُثْمَان إِلَى عشيرته ليقتصوا مِنْهُم لِأَن عليا رأى تَأْخِير تسليمهم أصوب لِأَن الْمُبَادرَة بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم مَعَ كَثْرَة عشيرتهم واختلاطهم بالعسكر تُؤَدّى إِلَى أضطراب أَمر الأمامة فان بَعضهم عزم على الْخُرُوج على عَليّ وَقَتله لما نَادَى يَوْم الْجمل بِأَن يخرج عَنهُ قَتله عُثْمَان وَرَأى مُعَاوِيَة الْمُبَادرَة وتسليمهم للاقتصاص مِنْهُم أصوب وَذَلِكَ لِأَن لَهُم تأويلات ظَاهِرَة ومحامل قَوِيَّة وعد التهم ثَابِتَة بِنَصّ الْكتاب وَالسّنة فَلَا تَزُول بِالِاحْتِمَالِ وَنثْبت أجر الإجتهاد لكل مِنْهُم لِأَن ذَلِك مبْنى على الِاجْتِهَاد فِي مسئلة ظنية للمصيب فِيهَا أَجْرَانِ على اجْتِهَاده وإصابته وللمخطىء أجر على اجْتِهَاده وَقد ورد فِي فَضلهمْ أَدِلَّة كَثِيرَة وَقَول النَّاظِم الصحاب بِكَسْر الصَّاد جَمِيع صَاحب كجائع وجياع (فرض على النَّاس إِمَام ينصب) أى أَنه يجب على النَّاس نصب إِمَام يقوم بمصالحهم كتنفيذ أحكامهم وَإِقَامَة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وَأخذ صَدَقَاتهمْ إِن دفعوها وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطَّرِيق وَقطع المنازعات بَين الْخُصُوم وَقِسْمَة الْغَنَائِم وَغير ذَلِك لإِجْمَاع الصَّحَابَة بعد وَفَاته ﷺ على نَصبه حَتَّى جَعَلُوهُ أهم الْوَاجِبَات وقدموه على دَفنه ﷺ وَلم تزل النَّاس فِي كل عصر على ذَلِك وَشرط الإِمَام كَونه بَالغا عَاقِلا مُسلما عدلا حرا ذكرا مُجْتَهد شجاعا ذَا رأى وكفاية قرشيا سميعا بَصيرًا ناطقا سليم الْأَعْضَاء من نقص يمْنَع اسْتِيفَاء الحركه وَسُرْعَة النهوض فَإِن لم يُوجد قرشى مستجمع للشروط فكناني مستجمع فَإِن لم يُوجد فمستجمع من ولد إِسْمَعِيل فَإِن لم يكن فجرهمي مستجمع وجرهم أصل الْعَرَب فَإِن لم يُوجد فمستجمع من ولد
1 / 15
اسحق فَإِن لم يُوجد مستجمع أصلا فمستجمع الْأَكْثَر من قُرَيْش أَو كنَانَة أَو ولد إِسْمَعِيل أَو غَيرهم على التَّرْتِيب الْمَذْكُور وَالْجَاهِل الْعَادِل أولى من الْعَالم الْفَاسِق وَلَا يشْتَرط فِي الامام كَونه مَعْصُوما وَلَا كَونه هاشميا أَو علويا وَلَا كَونه أفضل أهل زَمَانه بل يجوز نصب الْمَفْضُول مَعَ وجود الْفَاضِل وَلَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ وَمَا على الْإِلَه شَيْء يجب أَي لايجب شَيْء على الله وَمن يُوجب عَلَيْهِ وَلَا حكم الْإِلَه لِأَنَّهُ خَالق الْخلق فَكيف يجب للمخلوقين المملوكين لَهُ بجملة هوياتهم وأفعالهم لعملهم الْمُسْتَحق عَلَيْهِم أجر أَو رِعَايَة مصلحَة فضلا عَمَّا هُوَ الْأَصْلَح تَعَالَى الله عَن أَن يجب عَلَيْهِ شَيْء وَأما نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة﴾ وَقَوله ﴿وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ﴾ فَإِنَّمَا هُوَ إِحْسَان وتفضل لَا إِيجَاب وإلزام يثيب من أطاعه بفضله وَمن يَشَأْ عاقبه بعدله أَي أَنه تَعَالَى يثيب من اطاعه من عباده بفضله ويعاقب من عَصَاهُ من مكلفيهم إِن شَاءَ بعدله وَمعنى الثَّوَاب إِيصَال النَّفْع إِلَى العَبْد على طَرِيق الْجَزَاء وَمِنْه قَوْله تَعَالَى ﴿فأثابهم الله بِمَا قَالُوا﴾ أَي جزاهم والإثابه على الطَّاعَة مجمع عَلَيْهَا لَكِنَّهَا عِنْد أهل السّنة فضل وَعند الْمُعْتَزلَة وجوب وَمعنى الْعقَاب إِيصَال الْأَلَم إِلَى الْمُكَلف على طَرِيق الْجَزَاء وَهُوَ متحتم فِي الشّرك كَمَا يأتى ومتوقف فِي غَيره من المعاصى على انْتِفَاء الْعَفو لإخباره بذلك وَقَوله (يَشَأْ) بالإسكان وَصله بنية الْوَقْف (يغْفر مَا يَشَاء دون الشّرك بِهِ خُلُود النَّار دون شكّ) أى أَنه تَعَالَى يغْفر مَا يَشَاء من المعاصى غير الشّرك أما هُوَ فَلَا يغفره وَمن مَاتَ مُشْركًا فَهُوَ مخلد فِي الْعَذَاب بِالْإِجْمَاع وَخرج بِهِ غَيره من المعاصى وَإِن كَانَت كَبَائِر لم يتب مِنْهَا فَلَا يخلد بهَا أحد مِمَّن مَاتَ مُؤمنا فِي الْعَذَاب (لَهُ عِقَاب من أطاعه كَمَا يثبيبمن عصى ويولى نعما) أى أَن لَهُ تَعَالَى أَن يُعَاقب من أطاعه كَمَا لَهُ أَن يثيب من عَصَاهُ ويوليه نعما كَثِيرَة عَظِيمَة لِأَنَّهُ ملكه يتَصَرَّف فِيهِ كَيفَ يَشَاء لكنه لَا يَقع مِنْهُ ذَلِك لإخباره بإثابة الْمُطِيع وتعذيب العَاصِي كَمَا مر قَالَ أَصْحَابنَا وَلَيْسَت الْمعْصِيَة عِلّة الْعقَاب وَالطَّاعَة عِلّة الثَّوَاب وَإِنَّمَا هما أمارتان عَلَيْهِمَا وإنكار الْمُعْتَزلَة ذَلِك بِنَاء على أصلهم فِي التقبيح الْعقلِيّ فَإِنَّهُ يُؤدى إِلَى الظُّلم وَهُوَ نقص محَال على الله تَعَالَى رد بِلُزُوم النَّقْص على قَوْلهم فَإِنَّهُم أوجبوا عَلَيْهِ تَعَالَى حَقًا لغيره وَلَو وَجب ذَلِك لَكَانَ فِي قَيده وَهُوَ نقص وَاحْتج الْعِزّ بن عبد السَّلَام فِي قَوَاعِده بِخَبَر (إِن الله يخلق فِي النَّار أَقْوَامًا) وَكَذَلِكَ لااستبعاد فِي إثابة من لم يطع فَفِي الْخَبَر الصَّحِيح (إِن الله تَعَالَى ينشىء فِي الْجنَّة أَقْوَامًا) وَكَذَلِكَ الحكم فِي الْحور الْعين واطفال الْمُسلمين وَغَيرهم مِمَّن يتفضل عَلَيْهِم من غير اثابة على عمل سَابق وَلَيْسَت الربوبية مُقَيّدَة بمصالح الْعُبُودِيَّة (كَذَا لَهُ أَن يؤلم الْأَطْفَال) أى أَنه لَهُ إيلام الْأَطْفَال وَالدَّوَاب فِي الْآخِرَة أما فِي الدُّنْيَا فَنحْن نشاهد من لاذنب لَهُ يبتلى من أَطْفَال ودواب وَذَلِكَ عدل مِنْهُ تَعَالَى لتصرفه فِي ملكه بِمَا يُرِيد وَفِي ذَلِك حكم لكنه لَا يَقع إِذْ لم يرد إيلام الاطفال وَالدَّوَاب فِي غير قصاص وَالْأَصْل عَدمه أما فِي الْقصاص فلخبر (لتؤدن الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُقَاد للشاة الجلحاء من الشَّاة القرناء) رَوَاهُ مُسلم وَقَالَ يقْتَصّ لِلْخلقِ بَعضهم من بعض حَتَّى للجماء من القرناء وَحَتَّى الذّرة من الذّرة وَقَالَ ليختصمن كل شَيْء يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى الشاتان فِيمَا انتطحتا وَقَضِيَّة هَذِه الْأَخْبَار أَنه يتَوَقَّف الْقصاص يَوْم الْقِيَامَة على التَّكْلِيف والتمييز فيقتص من طِفْل لطفل وَغَيره (وَوَصفه بالظالم استحالا) أى أَنه تَعَالَى يَسْتَحِيل وَصفه بالظالم وَهَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر إِذْ قد يتخيل من تَعْذِيب الْمُطِيع وإيلام الْأَطْفَال أَن ذَلِك ظلم
1 / 16
فَصرحَ باستحالته عَلَيْهِ أى عقلا وسمعا أما الأول فَلِأَن الظُّلم إِنَّمَا يعرف بالنهى عَنهُ وَلَا يتَصَوَّر فِي أَفعاله تَعَالَى مَا ينْهَى إِذْ لَا يتَصَوَّر لَهُ ناه وَلِأَن الْعَالم خلقه وَملكه وَلَا ظلم فِي تصرف الْمَالِك فِي ملكه وَلِأَنَّهُ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على الْمُحِيط بِكُل شَيْء علما وَأما الثَّانِي فَلَمَّا لَا يُحْصى من الْآيَات وَالْأَخْبَار وَالْألف فِي قَوْله الْأَطْفَال واستحالا للإطلاق ﴿يرْزق من يَشَأْ وَمن شا أحرما﴾ أى أَنه يرْزق من يَشَاء مَا شَاءَ من الرزق وَمن شَاءَ أحرمهُ مَا شَاءَ مِنْهُ وَفِي نُسْخَة حرما وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى منع وَالْألف فيهمَا للإطلاق أَو أَنه تَعَالَى يرْزق من يَشَاء بِأَن يُوسع عَلَيْهِ فِيهِ وَمن يَشَاء حرمه بِأَن يضيق عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرازق فَلَا رَازِق غَيره وكل يسْتَوْفى رزق نَفسه وَلَا يتَصَوَّر أَن يَأْكُل رزق غَيره وَلَا أَن يَأْكُل غَيره رزقه لِأَن مَا قدره الله تَعَالَى غذَاء الشَّخْص يجب أَن ياكله وَيمْتَنع أَن يَأْكُلهُ غَيره فَمن حق من عرف أَنه الرازق أَن لايسأل حَوَائِجه قلت أم كثرت إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى (والرزق مَا ينفع وَلَو محرما) أى أَن الرزق بِمَعْنى المرزوق مَا ينْتَفع بِهِ حَتَّى فِي التغذى وَغَيره وَلَو كَانَ حَرَامًا بِغَصب أَو غَيره لقَوْله تَعَالَى ﴿قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا﴾ إِذْ لَو لم نقل بذلك لزم أَن المتغذي بالحرام طول عمره لم يرزقه الله أصلا وَأَن الدَّوَابّ لَا ترزق لِأَنَّهَا لَا تملك وَيَردهُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها﴾ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يتْرك مَا أخبر أَنه عَلَيْهِ وَقَول النَّاظِم من (يشا وَمن شا) بالإسكان وصلَة بنية الْوَقْف (وَعلمه بِمن يَمُوت مُؤمنا فَلَيْسَ يشقى بل يكون آمنا) أى من علم الله تَعَالَى مَوته مُؤمنا فَلَيْسَ يشقى بل يكون سعيدا آمنا من عَذَاب الْكفَّار وَإِن تقدم مِنْهُ كفر وَقد غفر وَمن علم مَوته كَافِرًا فيشقى وَإِن تقدم مِنْهُ إِيمَان وَقد حَبط عمله وَقد قَالَ الْأَشْعَرِيّ إِنَّه تبين أَنه لم يكن إِيمَانًا فالسعادة الْمَوْت على الْإِيمَان وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا الخلود فِي الْجنَّة والشقاوة الْمَوْت على الْكفْر وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا الخلود فِي النَّار وَقَالَ الله تَعَالَى ﴿وَأما الَّذين سعدوا فَفِي الْجنَّة خَالِدين فِيهَا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَأَما الَّذين شَقوا فَفِي النَّار لَهُم فِيهَا زفير وشهيق خَالِدين فِيهَا﴾ لم يزل أَبُو بكر (الصّديق) ﵁ (فِيمَا قد مضى) من عمره (عِنْد إلهه) تَعَالَى (بِحَالَة الرِّضَا) وَإِن لم يَتَّصِف بِالْإِيمَان قبل تَصْدِيقه النَّبِي ﷺ لِأَنَّهُ لم يثبت عَنهُ حَالَة كفر كَمَا ثبتَتْ عَن غَيره مِمَّن آمن وَظن بعض الْحَنَفِيَّة أَن الْأَشْعَرِيّ يَقُول بِأَنَّهُ كَانَ مُؤمنا قبل المبعث وَلَيْسَ كَذَلِك (إِن الشقي الشقي الْأَزَل وَعَكسه السعيد لم يُبدل) أى أَن الشقى من كتبه الله شقيا فِي الْأَزَل لَا فِي غَيره والسعيد من كتبه الله سعيد فِي الْأَزَل لَا فِي غَيره وَإِن كلا مِنْهُمَا لَا يُبدل إِذْ من كتبه فِي الْأَزَل شقيا يَسْتَحِيل أَن يَنْقَلِب سعيدا وَمن كتبه فِي الْأَزَل سعيدا يَسْتَحِيل أَن يَنْقَلِب شقيا بِخِلَاف الْمَكْتُوب فِي غَيره كاللوح الْمَحْفُوظ قَالَ تَعَالَى ﴿يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب﴾ أَي أَصله وَهُوَ الْعلم الْقَدِيم الَّذِي لَا يُغير مِنْهُ شَيْء كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَغَيره وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ حَدِيث مَرْفُوع (فرغ رَبك من الْعباد فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير) وَفِي عقائد النَّسَفِيّ وَغَيرهَا أَن السعيد قد يشقى بِأَن يرْتَد بعد الْإِيمَان وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى والشقى قد يسْعد بِأَن يُؤمن بعد الْكفْر والتغيير يكون على السَّعَادَة والشقاوة دون الاسعاد والاشقاء فانهما من صِفَاته تَعَالَى وَالْحَاصِل أَنه يحمل مَا دلّ على التبدل على أَنه بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الْمَلَائِكَة الْمُسْتَند إِلَى مَا فِي الْمُصحف وَمَا دلّ على عدم التبدل على أَنه بِالنِّسْبَةِ إِلَى علمه تَعَالَى (وَلم يمت قبل انقضا الْعُمر أحد) أى أَنه لَا يَمُوت أحد قبل انْقِضَاء أَجله وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي كتب الله فِي الْأَزَل انْتِهَاء حَيَاته فِيهِ بقتل أَو غَيره قَالَ الله تَعَالَى ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾
1 / 17
والعطف فِي قَوْله (ولايستقدمون) على الْجُمْلَة الشّرطِيَّة مَعَ الظّرْف لَا الجزائية وَالْمعْنَى فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة فَمَا الظَّن بِمَا زَاد وَلَو كَانَ عطفا على الْجُمْلَة الجزائية لورد أَن الاستقدام عِنْد المجىء لَا يتَصَوَّر وَالْمَوْت فائم بِالْمَيتِ مَخْلُوق الله تَعَالَى لَا صنع للْعَبد فِيهِ خلقا وَلَا كسبا ومبنى هَذَا على أَن الْمَوْت وجودي بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى ﴿خلق الْمَوْت والحياة﴾ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه عدمى وَمعنى خلق الْمَوْت قدره وَأما نقص الْعُمر الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى ﴿وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب﴾ فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ النَّقْص من عمر ذَلِك المعمر بل المُرَاد وَمَا ينقص من عمر معمر آخر وَالضَّمِير لَهُ وَإِن لم يذكر لدلَالَة مُقَابِله وَقيل فِي تَأْوِيله غير ذَلِك وَأما خبر الطَّبَرَانِيّ أَن الْمَقْتُول يتَعَلَّق بقاتله يَوْم الْقِيَامَة وَيَقُول يَا رب ظَلَمَنِي وَقطع أجلى فمتكلم فِي اسناده وَبِتَقْدِير صِحَّته فَهُوَ مَحْمُول على مقتول سبق فِي علمه تَعَالَى أَنه لَو لم يقتل لَكَانَ يعْطى أََجَلًا زَائِدا (وَالنَّفس تبقى لَيْسَ تفنى لِلْأَبَد) أى أَن النَّفس وهى الرّوح تبقى بعد موت الْبدن منعمة أَو معذبة فَلَا تفنى عِنْد النفخة الأولى وَلَا غَيرهَا لِأَن الأَصْل فِي بَقَائِهَا بعد الْمَوْت استمراره وَتَكون من الْمُسْتَثْنى بقوله إِلَّا من شَاءَ الله كَمَا قيل فِي الْحور الْعين (والجسم يبْلى غير عجب الذَّنب) أى أَن الْجِسْم جَمِيعه يفنى وَيصير تُرَابا إِلَّا عجب الذَّنب فَإِنَّهُ لَا يبْلى لخَبر (لَيْسَ شىء من الأنسان إلايبلى إِلَّا عظما وَاحِدًا وَهُوَ عجب الذَّنب مِنْهُ يركب الْخلق يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ فِي أَسْفَل الصلب عِنْد رَأس العصعص يشبه فِي الْمحل مَحل أصل الذَّنب من ذَوَات الْأَرْبَع وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم أَنه بِالنِّسْبَةِ إِلَى جسم الأنسان كالبذر بِالنِّسْبَةِ إِلَى جسم النَّبَات وَهُوَ بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْجِيم وَآخره بَاء موحده وَقد تبدل ميما وَحكى اللحيان تثليث الْعين فيهمَا فَهِيَ سِتّ لُغَات (وَمَا شَهِيد بَالِيًا وَلَا نبى أى ان الأَرْض لَا تاكل لحم الْأَنْبِيَاء وَلَا الشُّهَدَاء تكريما لَهُم فهم إحْيَاء فِي قُبُورهم عِنْد رَبهم يرْزقُونَ لقَوْله تَعَالَى ﴿وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله﴾ الْآيَة للْخَبَر الصَّحِيح أَن الأَرْض لَا تَأْكُل لُحُوم الْأَنْبِيَاء إِذْ هم أَحيَاء فِي قُبُورهم يصلونَ ويحجون (كَمَا ورد // وَقَول النَّاظِم وَلَا نَبِي أى بَالِيًا وَزَاد بَعضهم الْمُؤَذّن الْمُحْتَسب لخَبر عبد الله بن عمر والمؤذن الْمُحْتَسب كالمتشحط فِي دَمه وَأَن مَاتَ لم يدود فِي قَبره رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكبر ويدود بِكَسْر الْوَاو الْمُشَدّدَة اى لم يَأْكُلهُ الدُّود وَقَول النَّاظِم انقضا بِالْقصرِ للوزن وَالروح مَا أخبر عَنْهَا الْمُجْتَبى أَي الْمُصْطَفى ﷺ فنمسك الْمقَال عَنْهَا ادبا أى أَن حَقِيقَة الرّوح وَهِي النَّفس مَا أخبر عَنْهَا ﷺ وَقد سُئِلَ عَنْهَا لعدم نزُول الْأَمر ببيانها قَالَ تَعَالَى ﴿ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي﴾ فنمسك الْمقَال عَنْهَا أدبا مَعَه ﷺ وَلَا نعبر عَنْهَا بِأَكْثَرَ من مَوْجُود كَمَا قَالَ الْجُنَيْد الرّوح شَيْء أستأثر الله بِعِلْمِهِ وَلم يطلع عَلَيْهِ أحدا من خلقه فَلَا يجوز لِعِبَادِهِ الْبَحْث عَنهُ بِأَكْثَرَ من أَنه مَوْجُود وَإِلَى هَذَا ذهب أَكثر الْمُفَسّرين والخائضون فِيهَا أختلفوا على أَكثر من ألف قَول فَقَالَ جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين أَنَّهَا جسم لطيف متشبك بِالْبدنِ كاشتباك المَاء بِالْعودِ الْأَخْضَر واجاب الخائضون عَن الْآيَة بِأَنَّهُ ترك جَوَاب ذَلِك لقَوْل الْيَهُود فِيمَا بَينهم أَن لم يجب عَنْهَا فَهُوَ صَادِق لِأَن ذَلِك عِنْدهم من عَلَامَات نبوته فَكَانَ ترك الْجَواب تَصْدِيقًا لما تقدم فِي كتبهمْ من وَصفه بذلك وَلِأَن سُؤَالهمْ كَانَ سُؤال تعجيز وتغليط لِأَن الرّوح مُشْتَرك بَين روح الأنسان وَجِبْرِيل وَملك آخر يُقَال لَهُ الرّوح وصنف من الْمَلَائِكَة وَالْقُرْآن وَعِيسَى بن مَرْيَم فَلَو أُجِيب عَن وَاحِد مِنْهَا لقالت الْيَهُود لما نرد هَذَا تغتا مِنْهُم وأذى فجَاء الْجَواب مُجملا على وَجه يصدق على كل من مَعَاني الرّوح وَالْعلم أَسْنَى سَائِر الْأَعْمَال أى أَن
1 / 18
الْعلم أرفع وَأفضل من سَائِر الْأَعْمَال الَّتِي يتَقرَّب بهَا إِلَى الله تَعَالَى لأدلة أَكثر من أَن تحصر وَأشهر من أَن تذكر كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ﴾ وَقَوله تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء﴾ وَخبر الصَّحِيحَيْنِ أذ مَاتَ أبن آدم أنقطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جاريه أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ) وَخبر أبن حبَان وَالْحَاكِم فِي صَحِيحهمَا (أَن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا لطَالب الْعلم رضَا بِمَا يصنع) وَخبر التِّرْمِذِيّ وَغَيره ٠ فضل الْعَالم على العابد كفضلي عَليّ أدناكم) وللأن أَعمال الطَّاعَة مَفْرُوضَة ومندوبه والمفروض افضل من الْمَنْدُوب وَالْعلم مِنْهُ لِأَنَّهُ إِمَّا فرض عين وَإِمَّا فرض كفايه وَقَالَ سُفْيَان مَا أعلم عملا أفضل من طلب الْعلم وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ طلب الْعلم أفضل من صَلَاة النَّافِلَة وَقَالَ بَعضهم
وكل فَضِيلَة فِيهَا سناء
وجدت الْعلم من هاتيك أَسْنَى ... فَلَا تَعْتَد غير الْعلم ذخْرا
فَإِن الْعلم كنز لَيْسَ يفنى
وَالْألف وَاللَّام فِي الْعلم وللإستغراق أَو للْجِنْس أَو للْعهد الذكرى أَو الذهنى أى الشَّرْعِيّ الصَّادِق بالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه (وَهُوَ دَلِيل الْخَيْر والإفضال) أى أَن الْعلم دَلِيل الْخَيْر أى الْفَوْز بالسعادة الأخروية والافضال الانعام قَالَ ﷺ (من سلك طَرِيقا يطْلب فِيهِ علما سلك الله بِهِ طَرِيقا من طرق الْجنَّة) ثمَّ الْعلم يَنْقَسِم إِلَى فرض عين وَفرض كفايه وَقد شرع فِي ذكرهمَا مبتدئا بِالْأولِ مِنْهُمَا فَقَالَ ففرضه علم صِفَات الْفَرد (أَي أَن من فروض الْعين علم صِفَات الله تَعَالَى وَمَا يجب لَهُ وَيمْتَنع عَلَيْهِ كَكَوْنِهِ مَوْجُودا وَاحِدًا قَدِيما لَيْسَ بجسم وَلَا جَوْهَر وَلَا عرض وَلَا مُخْتَصّ بِجِهَة وَلَا مُسْتَقر على مَكَان حَيّ قَادر عليما مُرِيد سميع بَصِير بَاقِيا متكلما قديم الصِّفَات خَالِقًا أَفعَال الْعباد منزها عَن حُلُول الْحَوَادِث وَلَا يعْتَبر فِيهَا الْعلم بِالدَّلِيلِ بل يكفى فِيهَا الأعتقاد الْجَازِم (مَعَ كل مَا يَحْتَاجهُ الْمُؤَدِّي) أى الْمُكَلف بفرائض الله تَعَالَى (من فرض دين الله فِي الدَّوَام) أى فَرَائض الله تَعَالَى مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فعلهَا إِلَّا بِهِ (كالطهر) عَن الْحَدث بِوضُوء أَو غسل اَوْ تيَمّم والخبث مغلظا أَو متوسطا أَو مخففا وَالصَّلَاة وَالصِّيَام فَإِن من لَا يعلم أَرْكَان الْعِبَادَة وشروطها لَا يُمكنهُ أَدَاؤُهَا وَإِنَّمَا يتَعَيَّن تعلم الْأَحْكَام الظاهره دون الدقائق والمسائل الَّتِى لَا تعم بهَا الْبلوى وَخرج بقوله فِي الدَّوَام مَا لَا يجب فِي الْعُمر إِلَّا مرّة وَهُوَ الْحَج وَالْعمْرَة وَمَا لَا يجب فِي الْعَام إِلَّا مرّة وَهُوَ الزَّكَاة فَلَا يتَعَيَّن علم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي أَدَائِهَا إِلَّا على من وَجَبت عَلَيْهِ فَمن لَهُ مَال زكوى يلْزمه تعلم ظواهر أَحْكَام الزَّكَاة وَأَن كَانَ ثمَّ ساع يَكْفِيهِ الْأَمر فقد يجب عَلَيْهِ مَا لَا يُعلمهُ الساعى وكالفرض فِي مَا ذكره النَّفْل إِذا اراد فعله إِذْ تعاطى الْعِبَادَة الْفَاسِدَة حرَام (وَالْبيع للمحتاج للتبايع) فَيتَعَيَّن على متعاطى البيع وَالشِّرَاء تعلم أحكامهما حَتَّى يتَعَيَّن على الصَّيْرَفِي أَن يعلم عدم جَوَاز بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ إِلَّا مَعَ الْحُلُول والمماثلة وَالْقَبْض قبل التَّفَرُّق وَلَا بيع أحداهما بِالْآخرِ إِلَّا مَعَ الْحُلُول وَالْقَبْض قبل التَّفَرُّق (وَظَاهر الْأَحْكَام فِي الصَّنَائِع) فَيتَعَيَّن تعلم ظَاهر الْأَحْكَام الْغَالِب فِيهَا على من يعانيها دون الْفُرُوع النادرة والمسائل الدقيقة حَتَّى يتَعَيَّن على الخباز أَن يعلم أَنه لَا يجوز بيع خبز الْبر بِالْبرِّ وَلَا بدقيقه وَيتَعَيَّن علم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي المناكحات وَنَحْوهَا (وَعلم دَاء للقلوب مُفسد) لَهَا ليحترز عَنهُ وَهُوَ علم
1 / 19
أمراضها الَّتِى تخرجها عَن الصِّحَّة فَيعلم حَدهَا وسببها وعلاجها (كالعجب) وَهُوَ استعظام الْآدَمِيّ نَفسه على غَيره والركون إِلَيْهَا مَعَ نِسْيَان أضافتها للمنعم (وَالْكبر) وَهُوَ أَن يتَعَدَّى الشَّخْص طوره وَقدره وَهُوَ خلق فِي النَّفس وأفعال تصدر من الْجَوَارِح (وداء الْحَسَد) وَهُوَ كراهتك نعْمَة الله على غَيْرك ومحبتك زَوَالهَا عَنهُ وَمَا ذكره المُصَنّف نَقله فِي الرَّوْضَة عَن الْغَزالِيّ ثمَّ قَالَ وَقَالَ غَيره فِيهِ تَفْصِيل فَمن رزق قلبا سليما من هَذِه الامراض الْمُحرمَة كَفاهُ الله ذَلِك وَمن لم يسلم وَتمكن من تَطْهِير قلبه بِغَيْر تعلم الْعلم الْمَذْكُور وَجب تَطْهِيره وَأَن لم يتَمَكَّن إِلَّا بتعلمه وَجب اهثم ذكر الْقسم الثَّانِي وَهُوَ فرض الكفايه وَبِه شرع فِي أصُول الْفِقْه فَقَالَ (وَمَا سوى هَذَا من الْأَحْكَام فرض كفايه على الْأَنَام) أى مَا سوى فرض الْعين من علو أَحْكَام الله كالتوغل فِي علم الْكَلَام بِحَيْثُ يتَمَكَّن من إِقَامَة الْأَدِلَّة وأزالة الشّبَه فرض كفايه على جَمِيع الْمُكَلّفين الَّذين يُمكن كلا مِنْهُمَا فعله فَكل مِنْهُم مُخَاطب لفعله لَكِن إِذا فعله الْبَعْض سقط الْحَرج عَن البَاقِينَ فَإِن امْتنع جَمِيعهم من فعله أَثم كل من لَا عذر لَهُ مِمَّن علم ذَلِك وَأمكنهُ الْقيام بِهِ أَو لم يعلم وَهُوَ قريب يُمكنهُ الْعلم بِهِ بِحَيْثُ ينْسب إِلَى التَّقْصِير وَلَا أَثم على من لم يتَمَكَّن لعدم وُجُوبه عَلَيْهِ قَالَ الإِمَام فِي الْمَحْصُول وَأعلم أَن التَّكْلِيف فِيهِ أى فِي فرض الكفايه مَوْقُوف على حُصُول الظَّن الْغَالِب فَإِن غلب على ظن جمَاعَة أَن غَيرهَا يقوم بذلك سقط عَنْهَا وَأَن غلب على ظنهم أَن غَيرهم لَا يقوم بِهِ وَجب عَلَيْهِم وَأَن غلب على ظن كل طَائِفَة أَن غَيرهم يقوم بِهِ سقط الْفَرْض عَن كل وَاحِد من تِلْكَ الطوائف وَأَن كَانَ يلْزم مِنْهُ أَن لَا يقوم بِهِ أحد لِأَن تَحْصِيل الْعلم بِأَن غَيْرِي هَل يفعل هَذَا الْفِعْل أما لَا غير مُمكن إِنَّمَا الْمُمكن تَحْصِيل الظَّن أهوَ مَا ذكره النَّاظِم من أَن فرض الكفايه يتَعَلَّق بِجَمِيعِ الْأَنَام هُوَ الْأَصَح وَعَلِيهِ الْجُمْهُور وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَالْألف والام فِي قَوْله الْأَحْكَام للْعهد أى أَحْكَام دين الله وَهِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وآلتها وَخرج بهَا غَيرهَا لِأَنَّهُ محرم أَو مَكْرُوه أَو مُبَاح فَالْأول كالفلسفة والشعبدة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين وَكَذَا السحر على الصَّحِيح وَالثَّانِي كأشعار المولودين المشتمله على الْغَزل والبطاله وَالثَّالِث كأشعارهم الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سخف وَلَا شَيْء مِمَّا يكره أَو ينشط على الشَّرّ أَو يثبط عَن الْخَيْر وَلَا يحث عَلَيْهِ أَو يستعان بِهِ عَلَيْهِ (كل مُهِمّ قصدُوا تحصله من غير أَن يعتبروا من فعله) أى ان فرض الكفايه يعرف بِأَنَّهُ كل مُهِمّ قصدُوا فِي الشَّرْع تَحْصِيله من غير أَن يعتبروا عين من يَفْعَله أى يقْصد حُصُوله فِي الْجُمْلَة فَلَا ينظر إِلَى فَاعله إِلَّا بتبع للْفِعْل ضَرُورَة أَنه لَا يحصل بِدُونِ فَاعل فَيتَنَاوَل مَا هُوَ ديني كَصَلَاة الْجِنَازَة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر ودنيوي كالحرف والصنائع وَخرج فرض الْعين فَإِنَّهُ مَنْظُور بِالذَّاتِ إِلَى فَاعله حَيْثُ قصد حُصُوله من كل وَاحِد من الْمُكَلّفين أَو من عين مخصوصه كالنبي ﷺ فِي مَا فرض عَلَيْهِ دون أمته وَلم يُقيد النَّاظِم التحصل بِالْجَزْمِ أحترازا عَن السّنة لِأَن الْغَرَض تَمْيِيز فرض الْكِفَايَة عَن فرض الْعين وَذَلِكَ حَاصِل بِمَا ذكره والقائم بِفَرْض الْعين أفضل من الْقَائِم بِفَرْض الكفايه لشدَّة أعتناء الشَّارِع بِهِ بِقَصْدِهِ حُصُوله من كل مُكَلّف فِي الْأَغْلَب ثمَّ مثل لفرض الْكِفَايَة بقوله (كأمر مَعْرُوف وَنهى الْمُنكر) الْمجمع عَلَيْهِ إِذْ هُوَ من أعظم قَوَاعِد الْإِسْلَام وَالْمرَاد بِهِ الْأَمر بواجبات الشَّرْع والنهى عَن محرماته فَإِن نصب الْأَمَام لذَلِك رجلا تعين عَلَيْهِ بِحكم الْولَايَة وَهُوَ الْمُحْتَسب وَسَوَاء فِي ذَلِك تعلق بِحُقُوق الله تَعَالَى جَمِيعًا كالأمر بِإِقَامَة الْجُمُعَة إِذا توفرت شُرُوطهَا أَو أفرادا كمن أخر الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة عَن وَقتهَا فَإِن قَالَ نسيتهَا حثه على المراقبة وَلَا يعْتَرض على من أَخّرهَا ووقتها باقى أَو تعلق بِحَق آدَمِيّ عَام كبلد تعطل شربه أَو أنهدم سوره أَو طرقه أَبنَاء السَّبِيل المحتاجون وَتركُوا معونتهم فَإِن كَانَ فِي بَيت المَال مَال وَأمكن
1 / 20
الْأَخْذ مِنْهُ لم يُؤمر النَّاس بذلك وَإِلَّا أَمر أهل المسكنة برعايتها أَو بِحَق خَاص كمطل الْمَدِين الْمُوسر فالمحتسب يَأْمُرهُ بِالْخرُوجِ مِنْهُ إِذا طلبه ربه من غير ضرب وَلَا حبس أَو تعلق بِحُقُوق مُشْتَركَة كأمر الولياء بِنِكَاح الْأَكفاء وإلزام النِّسَاء أَحْكَام الْعدَد وَأخذ السَّادة بِحُقُوق الأرقاء وَأَصْحَاب الْبَهَائِم بتعهدها وَأَن لَا يستعملوها فِيمَا لَا تُطِيقهُ أَو من تصدى للتدريس أَو الْوَعْظ وَلَيْسَ هُوَ من أَهله وَلَا يُؤمن اعتزاز النَّاس بِهِ فِي تَأْوِيل أَو تَحْرِيف أنكر عَلَيْهِ الْمُحْتَسب وَشهر أمره لِئَلَّا يفتر بِهِ وَإِذا رأى رجلا وَاقِفًا مَعَ امْرَأَة فِي شَارِع يطرقه النَّاس لم يُنكر عَلَيْهِ أَو خَال فَمحل رِيبَة فينكره وَيَقُول لَهُ إِن كَانَت محرمك فصنها عَن مَوَاقِف الرِّيبَة وَلَا يُنكر فِي حُقُوق الْآدَمِيّين كتعديه فِي جِدَار جَاره إِلَّا بِطَلَب صَاحب الْحق (وَأَن يظنّ النهى لم يُؤثر) أى لَا يسْقط الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر بظنه أَنه لَا يُفِيد أَو بِعِلْمِهِ ذَلِك بِالْعَادَةِ بل يجب عَلَيْهِ الْأَمر والنهى فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ الْوَاجِب عَلَيْهِ قبُوله ذَلِك مِنْهُ لقَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ﴾ وَلَا يشْتَرط فِي الْآمِر والناهي كَونه ممتثلا مَا أَمر بِهِ مجتنبا مَا نهى عَنهُ بل يجب عَلَيْهِ الْأَمر والنهى فِي حق نَفسه وَحقّ غَيره فَإِن أخل بِأَحَدِهِمَا لم يجز الاخلال بِالْآخرِ وَلَا يخْتَص المأر والنهى بأرباب الولايات والمراتب بل ذَلِك ثَابت لآحاد الْمُسلمين وَاجِب عَلَيْهِم وعَلى الْمُكَلف تَغْيِير الْمُنكر بأى وَجه أمكنه وَلَا يكفى الْوَعْظ لمن أمكنه إِزَالَته بِالْيَدِ وَلَا تكفى كَرَاهَة الْقلب لمن قدر على النهى بِاللِّسَانِ وَإِنَّمَا يَأْمر وَينْهى من كَانَ عَالما بِمَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ وَذَلِكَ يخْتَلف بِحَسب الْأَشْيَاء فَإِن كَانَ من الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة أَو الْمُحرمَات الْمَشْهُورَة كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزِّنَا وَالْخمر وَنَحْوهَا فَلِكُل الْمُسلمين عُلَمَاء بهَا وَإِن كَانَ من دقائق الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَمَا يتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ لم يكن للعوام الِابْتِدَاء بانكاره بل ذَلِك للعاملين بهَا ويلتحق بهم من أعلمهُ الْعلمَاء بِكَوْنِهِ مجمعا عَلَيْهِ ثمَّ الْعلمَاء إِنَّمَا يُنكرُونَ الْمجمع على تَحْرِيمه أَو مَا أعتقد فَاعله تَحْرِيمه وَأما الْأَمر بالمندوب فمندوب أما الْمُخْتَلف فِيهِ إِذا فعله من لَا يعْتَقد تَحْرِيمه فَلَا يُنكره عَلَيْهِ لَكِن إِن نَدبه على وَجه النصح لِلْخُرُوجِ من الْخلاف فمحبوب وَيكون بِرِفْق لِأَن الْعلمَاء متفقون على أستحباب الْخُرُوج من الْخلاف إِذا لم يلْزم مِنْهُ إخلال بِسنة ثَابِتَة أَو وُقُوع فِي خلاف آخر وَيَنْبَغِي أَن يرفق فِي تَغْيِير الْمُنكر بالجاهل وبالظالم الَّذِي يخَاف شَره فان ذَلِك أدعى إِلَى قبُول قَوْله وَإِزَالَة الْمُنكر وَإِن قدر على الِاسْتِعَانَة بِغَيْرِهِ وَلم يسْتَقلّ بِهِ اسْتَعَانَ مَا لم يؤد إِلَى إِظْهَار سلَاح وَحرب فَإِن عجز رفع ذَلِك إِلَى صَاحب الشَّوْكَة فَإِن عجز عَن جَمِيع ذَلِك كرهه بِقَلْبِه قَالَ جمع من علم خمرًا فِي بَيت رجل أَو طنبور أَو علم شربه أَو ضربه فَعَلَيهِ أَن يهجم على صَاحب الْبَيْت ويريق الْخمر ويفصل الطنبور وَيمْنَع أهل الْبَيْت الشّرْب وَالضَّرْب فَإِن لم ينْتَهوا فَلهُ قِتَالهمْ وَإِن أَتَى الْقِتَال عَلَيْهِم وَهُوَ مثاب على ذَلِك حَتَّى لَو رأى مكبا على مَعْصِيّة كزنا وَشرب خمر فَلهُ مَنعه وَإِن أَتَى الدّفع عَلَيْهِ فَلَا ضَمَان وَلَيْسَ للْآمِر والناهي الْبَحْث والتنقيب والتجسس واقتحام الدّور بالظنون بل إِن رأى شَيْئا غَيره قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَإِن غلب على ظن الْمُحْتَسب أَو غَيره استسرار قوم بالمنكر بأمارة أَو آثَار ظَهرت فَذَلِك ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون فِيهِ انتهاك حُرْمَة يفوت تداركها كَأَن أخبرهُ من يَثِق بصدقه بِأَن رجلا خلا بِرَجُل ليَقْتُلهُ أَو بِامْرَأَة ليزني بهَا فَيجوز لَهُ التَّجَسُّس والإقدام على الْكَشْف وَالْإِنْكَار وَالثَّانِي مَا قصر على هَذِه الْمرتبَة فَلَا يجوز فِيهِ الْكَشْف والتجسس وَلَا يسْقط الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلَّا بِأَن يخَاف مِنْهُ على نَفسه أَو عضوه أَو منفعَته أَو مَاله أَو يخَاف على غَيره مفْسدَة أعظم من مفْسدَة الْمُنكر الْوَاقِع (أَحْكَام شرع الله) جمع حكم وَهُوَ خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف بالاقتضاء أَو التَّخْيِير فالخطاب تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للأفهام وَالْمرَاد بِهِ هُنَا كَلَامه النَّفْسِيّ الأزلي الْمُسَمّى فِي الْأَزَل خطابا وبإضافته إِلَى الله تَعَالَى خرج خطاب من سواهُ إِذْ لَا يحكم إِلَّا حكمه والمكلف الْبَالِغ الْعَاقِل وَيتَعَلَّق بِفِعْلِهِ تعلقا معنويا قبل وجوده أَو بعده قبل الْبعْثَة وتنجيزيا بعد وجوده بعد الْبعْثَة إِذْ لَا حكم قبلهَا وَخرج بِفعل الْمُكَلف خطاب اله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِذَاتِهِ وَصِفَاته وأفعاله وَذَوَات الْمُكَلّفين وبالجمادات وبفعل الْمُكَلّفين
1 / 21